وقد تميز هذا اللقاء الأكاديمي بالمحاضرة الافتتاحية التي ألقاها الأستاذ الدكتور حسن حنفي حسنين، في موضوع: ” أزمة التحديث في الفكر الإسلامي” كما شارك في هذا اللقاء الأكاديمي باحثون متخصصون في الدراسات العقدية والفكر الإسلامي من ألمانيا والمغرب ومصر وتونس …
وقد اخترت الحديث عن موقف الخطاب الأشعري من التعدد العقدي الإسلامي لاقتناعي الشديد أن هذا الخطاب العقلاني التوفيقي لا يرفض التعدد العقدي كواقع تاريخي ولكنه يحلل مقالات الفرق الإسلامية ويناقشها ويبين منطلقاتها الدينية والسياسية ثم يترك بعد ذلك للباحث حرية الحكم على تلك المقالات وتقويمها …
لا يرتاب باحث منصف في كون الخطاب الأشعري على خلاف خطابات إسلامية أخرى يؤمن بمسألة التعدد الديني، والاختلاف العقدي الذي ظهرت ملامحه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فمؤسس المذهب أبو الحسن الأشعري المتوفى سنة 424 هـ يشير في مقدمة كتابه “مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين” إلى الاختلافات التي وقعت بين المسلمين، والتي لا يمكن اعتمادها أساسا لإخراج الناس من دائرة الإسلام الذي يستوعب تلك الاختلافات، ويشتمل عليها، وفي هذا السياق يقول الإمام الأشعري:
” اختلف الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة، ضلل فيها بعضهم بعضا، وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فرقا متباينين، وأحزابا متشتتين، إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم”. )1(
انطلاقا من هذه النظرة الواقعية للحياة الدينية للمسلمين، المبنية على روح التسامح الديني، يتحدث الإمام الأشعري عن واقع الفرق الإسلامية وطبيعة مقالاتها، ومعتقداتها، الدينية والسياسية ويحصرهم في الأصناف الآتية:
– الشيعــــة.
– الخـوارج.
– المرجئــة.
– المعتزلــة.
– الجهميـــة.
– الضرارية.
– الحسينيــة.
– البكريــــة.
– العامـــــة.
– أصحاب الحديث.
– الكلابية، صحاب عبد الله بن سعيد بن كلاب.
لقد تحدث الإمام الأشعري عن هذه الفرق وسرد مقالاتها في نسقين: جليل الكلام، وهو الآراء العامة لعلم الكلام الخاص بكل فرقة، ودقيق الكلام، وهو جزئيات علم الكلام الخاص بكل فرقة أيضا، كما أنه عندما يريد أن يعبر عن رأيه في قضية ما – وهو نادرا ما يفعل- يستعمل صيغة: زعموا … غير أن الأمر الذي لا يجادل فيه الإمام الأشعري البتة هو القول بأن هذه الفرق كلها نشأت في أحضان الإسلام، وأن الإسلام يجمعها ويشتمل عليها.
ولم يكتف الإمام الأشعري بتقرير هذه النتيجة التي خلص إليها والتي جعلها منطلقا لصناعة أعظم كتاب في مقالات المسلمين واختلافهم، بل عمد إلى سرد مختلف المقالات الكلامية، مع بيان أساسها الديني والعقدي والسياسي، مع الإشارة أحيانا إلى مذهبه وميله العقدي، كما فعل في الفصل الذي خصصه لمقالات أهل الحديث أهل السنة، حيث أشار في نهاية هذا الفصل إلى أنه يقول بما يقول به هؤلاء، وأنه يذهب مذهبهم.(2)
ولما تحدث الإمام الأشعري عن أصحاب عبد الله بن سعيد بن كلاب الذين تبنى معظم مقالاتهم وتأثر بهم فيما بعد أشار إلى أنهم يقولون بأكثر مما ذكره عن أهل السنة. (3)
وقد استنتج أحد المفكرين المعاصرين من كلام أبي الحسن الأشعري شيئين اثنين:
الأول: أن عبد الله بن سعيد بن كلاب كان موافقا لأهل السنة تمام الموافقة.
الثاني: أنه كان صاحب فرقة اندمجت اندماجا كليا في طائفة الأشاعرة.(4)
لقد أظهر الإمام الأشعري تسامحا دينيا منقطع النظر مع المخالفين له في العقيدة من المسلمين، فهو لا يكفر أحدا منهم، بل يعتبر ما وقع بينهم من اختلافات في أصل التوحيد إنما هو مجرد اختلاف في العبارات ليس إلا.
وفي هذا الصدد يذكر ابن عساكر الدمشقي أن أبا علي زاهر بن أحمد السرخسي قال: ” لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري – رحمه الله- في داري ببغداد دعاني فأتيته فقال: اشهد على أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات”(5)
وهذا الموقف من الإمام الأشعري يجعل علم الكلام برمته عبارة عن اجتهادات وآراء فرضتها طبيعة النص الديني المقدس وظروف التعامل معه، فضلا عن تأثرها بمقالات سياسية مرتبطة أساسا بمسألة الإمامة.
لقد اعتبر الإمام الأشعري جميع أهل القبلة مسلمين، لا يجوز تكفيرهم، وهذا أصل مهم، ثم أعلن عن تصويب المجتهدين في الفروع الذي يعني عدم تكفير أي أحد من أهل القبلة أيضا، إضافة إلى مسألة تكافئ الأدلة التي تعني الاعتراف بقدر من الصواب في كل طرف من الطرفين المتقابلين، يصححه التوسط الذي هو أساس المذهب الأشعري يجعل المذهب الأشعري الذي يمثل قمة التسامح الديني بإعلانه عن هذه المبادئ الأساسية منسجما تماما مع حياتنا الدينية المعاصرة وينفعها أجل النفع.(6)
لقد اجتهد الإمام الأشعري في تقريب وجهة نظر الفرق الإسلامية في مختلف القضايا العقدية والسياسية، مع الدقة والأمانة في النقل… على الرغم من صعوبة المنهجية التي اعتمدها في صناعة كتابه: “مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين ” غير أنه ترك للباحثين والدارسين حرية الحكم على تلك المقالات وتقويمها كما سلف.
وإذا قارنا عمل الإمام الأشعري في كتابه” مقالات الإسلاميين” بأعمال أشعرية أخرى مثل “الفرق بين الفرق” لأبي منصور عبد القاهر البغدادي، المتوفى سنة 429 هـ ، أو “التبصير في الدين وتمييز الفرق الناجية عن الفرق الهالكين” لأبي المظفر الأسفراييني المتوفى سنة 471 هـ أو ” الملل والنحل” لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548 هـ نلاحظ أن أصحاب هذه المؤلفات وإن التزموا الدقة والأمانة في النقل حين ذكرهم لمقالات الفرق الإسلامية إلا بعضهم أظهر تعصبا مذهبيا لا يخفى في الرد على المخالفين له في المعتقد، كما هو الشأن بالنسبة لعبد القاهر البغدادي، فضلا عن انشغال بعضهم ببيان مقالات الفرقة الناجية انطلاقا من حديث منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم على الرغم من ضعفه.
وصفو القول فإن الخطاب الأشعري في جميع مراحله، يؤمن بالتعدد العقدي، الناتج عن تأويلات واجتهادات في فهم النص، كما يؤمن هذا الخطاب السني التنويري بأن المسلمين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم عل طريق مستقيم واحد، ولم يظهر منهم خلاف في قضايا الاعتقاد على عهد الخلفاء الراشدين، حتى إن المقريزي المتوفى سنة 740 هـ يذهب على سبيل القطع أن ” … من أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي ووقف على الآثار السلفية علم أنه لم يرو قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد الله صلى الله عليه وسلم ، بـل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتـوا عن الكلام في الصفات…”(7)
* أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي في جامعة محمد الأول بوجدة. المملكة المغربية.
—————-
(1) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، الصفحة 1 بتحقيق هيلموت ريتر.
(2) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للإمام الأشعري ، الصفحة 298
(3) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، الصفحة: 298.
(4) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، د. علي سامي النشار، 1/269.
(5) تبيين كذب المفتري فيما نَسَبَ إلى الإمام الأشعري، لابن عساكر الدمشقي، ص: 149.
(6) المجدون في الإسلام، أمين الخولي، الصفحة: 129، طبعة دار المعرفة، القاهرة الطبعة الأولى.
(7) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، المعروف بالخطط المقريزية تأليف تقي الدين أبي العباس أحمد بن علي المقريزي2/ 356 مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، الطبعة الثانية 1987.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=2801