إذا كانت كل لغة تحمل منطقها الحجاجي وسمات فكر من يتكلموها، فإن الحديث عن التأصيل اللغوي والشرعي لمصطلح التجديد يبدو ضرورة ملحة، خصوصا وأن المصطلح تتجاذبه أنساق معرفية مختلفة من داخل الفكر الإسلامي ومن خارجه،
وحين نتكلم عن التأصيل الشرعي لهذا المصطلح فإننا نضع نصب أعيننا اعتبارين: أحدهما التوجيه القرآني الداعي إلى نبذ استعمال المصطلحات التي تفيد عند الآخر معنى قدحيا، قال تعالى { يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم.}[1] ، فكلمة راعنا أمر من راعى الشيء إذا حفظه وترقبه. أو انظر إليه، والنهي عن مخاطبة النبي “براعنا” واستخدام “أنظرنا ” تجنبا لمعنى قبيح كان يقصده اليهود بكلمة “راعنا” فراعنا في العبرية تفيد معنى “شريرنا”[2].
ومصطلح التجديد وإن كان لغويا لا يحمل في ذاته معنى قدحيا، فقد شابه هذا المعنى بسبب الاستعمال، حيث أصبح يدل عند البعض على الإحياء الآلي لمخلفات الماضي، أو الاستنساخ البليد لثقافة الأسلاف، وأكثر من ذلك اعتباره قطيعة مع التراث.
والاعتبار الثاني: ما سبق تقريره من كون اللغة تحمل سمات من يتكلموها ومن تم اعتبرت المصطلحات أوعية لمحمولات معرفية متغيرة بحسب المكان والزمان والقصد، وأقنية للتواصل الحضاري إن لم تكن للغزو الثقافي.
من هنا تأتي أهمية تحديد المصطلح، باعتبار هذه العملية أنهض بالفهم وأقعد. إذ بها ” تحرر محلات النزاع. وحظ غير قليل من الخلاف نزاع في المفاهيم، ولذلك كان الفهم شرط التكليف في الإسلام “[3] وهذا ما يعبر عنه الأصوليون بعبارة (الخلاف لفظي).
وانطلاقا من هذين الاعتبارين (التوجيه القرآني والتنوع الدلالي للغة) نبعت أهمية تحديد مصطلح التجديد، وذلك لتحصيل فهم تقريبي لمعناه لغة وشرعا. بقدر ما يمكن من فهم منطلقاته في الفكر الإسلامي.
التجديد مفهوم إسلامي:
التجديد مفهوم إسلامي. هذه حقيقة لا مرية فيها ولا اعتراض، ولو لم ترد هذه العبارة في الحديث النبوي الشريف، لاكتفينا بكونه سنة من سنن الله في الكون. دليلا على إسلاميته، إذ ” التجديد سنة الحياة فمن لا يتجدد يمت، وهذه سنة عامة مضطرة لا تقتصر على الكائنات الحية والموجودات الطبيعية، وإنما تعم المؤسسات الاجتماعية والمفاهيم وفهم الدين ونمط التدين “[4] فما هو التجديد لغة ؟ وما هو أصله الشرعي ؟ وما هي الدلالات التي اكتسبها عبر التاريخ الإسلامي ؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هي مضمون المطالب الآتية.
المعنى اللغوي للتجديد:
جد الشيء يجد جدة بكسر الجيم فيهما. صار جديدا وهو نقيض الخلق[5] أي البالي المبتذل بالاستعمال، والجمع أجدة وجدد… والجدة مصدر الجديد… والجديد ما لا عهد لك به… والجد الاجتهاد في الأمور… وجد به الأمر وأجد إذا اجتهد[6].
من خلال هذه التعريفات يتبين أن التجديد في اللغة يقصد به معان هي:
أ- الجديد في مقابل البالي المبتذل بالاستعمال.
ب- الجديد ما لا عهد للإنسان به.
ت- الجديد ما نتج عن تفكير وتصبير وإجتهاد.
فتجديد الشيء يعني إدخال تعديلات عليه للانتقال به من حالة البلى إلى حالة الجدة، وتجديد الشيء يعني أيضا إحداثه بعد أن لم يكن للإنسان له به عهد، وتجديد الشيء أيضا تصييره جديدا بسبب تفاعل كل من التفكير والتدبير والاجتهاد.
فالتجديد إذن في دلالته اللغوية هو إضافة متميزة للأصول أو إحداث تحول فيها، أو الإتيان بما لا عهد للإنسان به ومن ثم اعتبر “مؤشرا على نضج الممارسة العقلية وتحمل الإنسان لمسؤوليته في التعبير عن تجربته الذاتية ورؤيته المتجددة لقضايا عصره”[7]، واعتبر أيضا “عمل عام راق له آثاره الإيجابية، ومنافعه الثرة في الأمة كلها”[8]، وذلك لما كان جامعا بين المقومات النظرية والعملية من مثل: التفكير والتدبير والتصيير والاجتهاد، وهي مقومات من شأنها تحسين الوضع الإنساني ماديا ومعنويا. فرفض التجديد بهذا المعنى هو إلغاء للذات وإضعاف لإمكانياتها الفكرية.
التأصيل الشرعي لمصطلح التجديد:
لقد ورد مصطلح التجديد في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، روي عنه في كتب السنة المشرفة بروايات مختلفة، ومن هذا الحديث اكتسب المصطلح شرعيته، وازدادت هذه الشرعية بعمل شراح الحديث حيث أعطوه دلالات مختلفة، تنسجم والحالة الثقافية والتاريخية التي كانت تواجههم، وهذه هي روايات الحديث الشريف:
أ- روى أبو داوود في كتاب الملاحم. باب: ما يذكر في قرن المائة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”[9].
ب- روى الحاكم في كتاب الفتن والملاحم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”[10].
ج- قال الحافظ بن حجر في توالي التأسيس قال أبو بكر البزار سمعت عبد الملك ابن عبد الحميد الميموني يقول: كنت عند أحمد بن حنبل فجرى ذكر الشافعي. فرأيت أحمد يرفعه، وقال روي عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “”إن الله تعالى يقيض في رأس كل مائة سنة من يعلم الناس دينهم”[11].
ه- روى عن أحمد بن حنبل قال: يروى في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم “أن الله يمن أهل دينه على رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم”[12].
هذه روايات الأئمة للحديث بطرقه المختلفة، وهو حديث صحيح قال عنه السخاوي في المقاصد الحسنة “وسنده صحيح ورجاله كلهم ثقات”[13] وقال عنه العجلوني في كشف الخفاء “رواه أبو داوود عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه الطبراني في الأوسط عنه أيضا بسند رجاله ثقات، وأخرجه الحاكم من حديث بن وهب وصححه وقد اعتمد الأئمة هذا الحديث”[14].
وقال عنه الحافظ بن حجر عقب كلامه عن تخصيص الإمام أحمد بن حنبل للإمام عمر بن عبد العزيز بالمجددية في المائة الأولى. وللإمام الشافعي بالمجددية في المائة الثانية. “وهذا يشعر بأن الحديث كان مشهورا في ذلك العصر ففيه تقوية للسند المذكور مع أنه قوي لثقة رجاله”[15].
إن القصد الأصلي من إيراد هذا الحديث بطرقه المختلفة، هو إثبات شرعية مصطلح التجديد، إذ لولا هذا الحديث الشريف لانتفت الإسلامية عنه، أما القصد التبعي فهو محاولة متواضعة لفهم معاني التجديد، انطلاقا من جهود علماء الشريعة الذين قدموا لنا تفسيرا وتحديدا. اختلف باختلاف ألفاظ الروايات من جهة، وباختلاف العصر من جهة ثانية. ونجد صدى هذا الاختلاف في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، حيث اصطبغ مفهوم التجديد بسمات الفكر المتداول وتفاعله مع القضايا المستجدة.
تنوع دلالات التجديد:
اقترن فهم لفظ التجديد في الحديث النبوي الشريف عند شراحه بفهم السياق العام للحديث والألفاظ المركبة له. فنجد إلى جانب التجديد (يبعث. الأمة. رأس كل مائة عام. دينها أو أمر دينها)، وهي في مجموعها تفيد معان تزيد لفظة التجديد ظبطا وبيانا. (فالبعث) في الحديث معناه الإرسال، أي أن الله تعالى يرسل لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها، وهذا الإرسال يكون إما تقييض[16]، وتفسره رواية أحمد بن حنبل (إن الله تعالى يقيض… الحديث). أو منا[17]، وتفسره رواية أحمد بن حنبل أيضا (إن الله يمن… الحديث) “وأصل البعث إثارة الشيء وتوجيهه يقال بعثته فانبعث، ويختلف البعث اختلاف ما علق به”[18].
فيتحصل لهذا أن الله يرسل لهذه الأمة من يجدد لها دينها، إما تفضلا منه وإحسانا أو بتهييئ أسباب التجديد وإثارتها وتوجيهها.
والمقصود (بالأمة) في الحديث أمة الإجابة، ويحتمل أن تكون أمة الدعوة، وبيان ذلك “أن أصل الأمة الجماعة مفرد لفظا جمع معنى، وقد يختص بالجماعة الذين بعث فيهم نبي وهم باعتبار البعثة فيهم ودعائهم إلى الله يسمون أمة الدعوة، فإن آمنوا كلا أو بعضا سمي المؤمنون أمة إجابة وهم المراد هنا (أي في هذا الحديث) بدليل إضافة الدين إليهم في قوله (أمر دينهم)”[19].
واختلف العلماء في معنى (على رأس كل مائة سنة) هل هو ابتداؤها أم انتهاؤها ؟ وهل يعتد بالمائة من المولد النبوي أو البعثة أو الهجرة أو الوفاة.؟
قال في فيض القدير “أعلم أن المراد من رأس المائة في هذا الحديث آخرها… والدليل الواضح على أن المراد من رأس المائة هو آخرها لا أولها أن الزهري وأحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة المتقدمين والمتأخرين اتفقوا على أن من المجددين على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز رحمه الله وعلى رأس المائة الثانية الإمام الشافعي رحمه الله، وقد توفي عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة وله أربعون سنة. ومدة خلافته سنتان ونصف، وتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين وله أربع وخمسون سنة”[20]. هذا معنى رأس كل مائة، أما ابتداؤها فقد رجح السبكي أن تكون من الهجرة، لأنها البداية التي ألهم الله المسلمين منذ عهد سيدنا عمر أن يؤرخوا بها دون غيرها، ولأنها المعتبرة عند تصنيف المجددين.
وبقي الحديث عن لفظة في هذا الحديث الشريف وهي (دينها، أو أمر دينها) إذ هي حجر الزاوية فيه، وما البعث والتجديد إلا وسائل لتحقيق هذا المقصد العالي، وهو الحفاظ على الدين بإقامة أركانه وتثبيت قواعده، وبدرأ الاختلال الواقع أو المتوقع فيه.
والدين هو الإسلام كما جاء في القرآن الكريم على صيغة الحصر “إن الدين عند الله الإسلام”[21].
والدين لفظ عام يطلق ويراد به اصطلاحا معنيان:
الأول: المنهج الإلاهي الذي بعث به الله رسوله وأنزل به كتابه من العقائد والعبادات والأخلاق والشرائع، وهذا المعنى بالنظر إلى أسسه وأصوله ثابت لا يقبل التغيير ولا التجديد.
والثاني: الحالة التي يكون عليها الإنسان في علاقته بهذا المنهج الإلاهي فكرا وشعورا وسلوكا، وهو التدين. والدين بهذا المعنى متغير لأنه كسب إنساني في تكييف الحياة بتعاليم الدين.
فالدين بهذا المعنى هو مناط التجديد، لأن التدين “هو جهاد لإنجاز الدين. فيه معانات يكابدها الإنسان عبر واقعه الذاتي والموضوعي، وفي ذلك الجهاد يصوغ من تصرفاته الفردية والاجتماعية والكونية، في مكابدته لواقع النفس والمجتمع والكون أفعالا جزئية غير منحصرة يحقق بها كليات الدين، ويقترب بها قدما من المثال الكامل”[22]. لكن يطرأ للإنسان في هذا الجهاد والمكابدة لتحقيق المثال الكامل للدين. أن يزيغ بممارسته عن المنهج الإلهي، من ثم يأتي دور المجدد ليزيل عن الدين الممارس ما قد أظيف إليه وهو ليس منه، وليزيد عليه ما قد نقص منه وهو منه، وهذا المعنى تجده عند شراح الحديث حيث عملية التجديد عندهم هي إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما، أو تبيين السنة من البدعة.
ولعل كلمة (أمر) مضافة إلى الدين الواردة في رواية أحمد بن حنبل تساعد على توضيح وبيان ما سبق تقريره بخصوص الدين المراد تجديده. فكلمة (أمر) تعني التشريع، وهو ما أريد من نفس الكلمة في قول الله عز وجل {ألا له الخلق والأمر}[23] أي له وحده الخلق والتشريع.
وبناءا على ما سبق فالمجدد(بالفتح) هو التشريع في مقابل العقيدة التي لا تحتمل تجديدا ومعها الأخلاق التي لا يتحدث عن تجديد فيه أيضا.
وبقي أن نتكلم عن تنوع دلالات التجديد في إطار السياق العام للحديث، وذلك بالعودة إلى الشروح، لنرى كيف فهم السلف هذا المصطلح وشرحوه. لنجد أنفسنا أمام ثلاثة فهوم له وهي:
أ/ التجديد بمعنى الإحياء:
وهذا المعنى وارد عن العلقمي قال في شرح معنى التجديد “إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما”[24].
فعبارة إحياء ما اندرس من العمل. توحي بأن المشكلة أخلاقية وسلوكية تهم المجتمع الإسلامي من حيث اندراس مظاهر التدين وانتفاؤها، وإشارة أخرى أيضا وهي أن مظاهر التدين وإن كانت موجودة فهي على غير مقتضى الكتاب والسنة.
وهذا المعنى للتجديد نجده عند الإمام الغزالي رحمه الله فهو قد وضع كتابا سماه (إحياء علوم الدين) قصد به الكشف عن أسرار العبادات وحكمها، حتى يبعث روحا في هذا الدين ويرده إلى أصوله العقدية. كيما يكون أقرب للإمتثال، وأصفى في الدلالة على المثال الكامل للدين، يقول في مقدمة الكتاب “أما علم طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه: فقها وحكمة وعلما وضياء ونور وهداية ورشدا، فقد أصبح من بين الخلق مطويا وصار شيئا منسيا.
ولما كان هذا ثلما في الدين ملما وخطبا مدلهما، رأيت الإشتغال بتحرير هذا الكتاب مهما. إحياء لعلوم الدين، وكشفا عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحا لمباهي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالحين”[25].
وهذا المعنى أيضا نجده عند ابن حجر رحمه الله، حيث خص عمر بن عبد العزيز بالمجددية، وجعلها عامة في جميع عصره وإمكانيتها في حقه، وذلك لما عرف عن الخليفة الراشد من فقه وورع وعلم بالدين والسياسة، مكناه من إحياء الخلافة الإسلامية وإعادة الاعتبار للكتاب والسنة. خصوصا إذا علمنا أنه أول من أمر بجمع السنة النبوية الشريفة. يقول ابن حجر: “لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة وهو متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد. إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه”[26].
والإحياء بهذا المعنى لم يكن مقتصرا على ما اندرس من أحكام الشريعة أو ما ذهب من معالم السنن. بل كان يتعدى إلى إحياء العلوم الدينية الظاهرة والباطنة لذا نجد من شروط المجدد “أن يكون عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة ناصرا للسنة وقامعا للبدعة، وأن يعم علمه أهل زمانه”[27]، وهو ما تؤكده روايات الحديث الواردة بألفاظ (يعلم الناس السنن) (يبين لهم أمر دينهم). فلا يعلم ويقوم بمهمة البيان إلا من كان حائزا لمقاليد العلوم مبدعا فيها.
ب/ التجديد بمعنى قمع البدع والانتصار للسنن:
هذا المعنى نجده مبثوثا في الشروحات على مستويات عدة، فتخصيص البعث برأس المائة أي آخرها “لكونه مظنة انخرام علمائه غالبا وظهور البدع ونجوم الدجالين”[28]، ومن لم يجعل رأس المائة آخرها علقه بوصف هو قلة العلم والسنة وكثرة الجهل والبدعة، ومن ثم كان التجديد بهذا المعنى هو أن العالم المجدد “يبين السنة من البدعة ويكثر العلم وينصر أهله ويكسر أهل البدعة ويذلهم”[29].
وبالتالي خص الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بالمجددية على رأس المائة. لأنه أظهر كل سنة وأمات كل بدعة، والشافعي على المائة الثانية لأنه نصر السنة وأعاد لها الاعتبار في مواجهة دعاوى الزنادقة في الاكتفاء بالقرآن وحده، حيث أنكروا حجية السنة جملة، ووجد منهم من أنكر خبر الواحد فكان أبرز عمل للإمام الشافعي والذي به نصر السنة “إثبات القوة للسنة كأصل مبين ومفصل ومكمل، وإثباتها للآلاف من الأحاديث لتكون مصادر للفقه. فوسع القاعدة للاحتجاج بالسنة، وبهذا كان جديرا بلقبه عند المسلمين (ناصر السنة)”[30].
لما اتخذ التجديد معنى قمع البدعة ونصر السنة، أخذ بذلك تفسيرا فرقيا بمعنى كونه موقفا اتجاه فرق المبتدعة على أنواعها، في مقابل مذهب أهل السنة والجماعة، لذا نجد صاحب عون المعبود ينتقد ابن الأثير لأنه عد مذهب الإمامية من المذاهب التي يقوم عليها الإسلام، وذكر منهم من اعتبره مجددا في الدين. يقول رحمه الله في انتقاده “فالعجب كل العجب من صاحب جامع الأصول أنه عد أبا جعفر الإمامي الشيعي والمرتضى أخا الرضا الإمامي الشيعي من المجددين… وقد ذكره العلامة محمد طاهر في مجمع البحار ولم يتعرض لذكر مسامحته ولم ينبه على أخطائه، ولا شيهة في أن عدهما من المجددين خطأ فاحش وغلط بين”[31].
فيتضح أن التجديد ارتبط عند المحدثين بصلب عملهم، ألا وهو الذب عن السنة من انتحال المبطلين وتأويل الغالين، وهو ما يجد مبرراته إذا علمنا حجم الفرق المبتدعة في عصرهم ومدى تأثيرها على مسار التدين بشكل عام.
ج/ التجديد بمعنى الاجتهاد المذهبي:
نجد هذا المعنى مضمن في تفسيرات الشراح لمعنى (من) من الحديث، هل تقع على الواحد أو المتعدد ؟ وما هي صفات هذا الواحد ؟ فمن بين التفسيرات نجد أن المجدد يجب أن يكون “مجتهدا واحدا أو متعددا قائما بالحجة ناصرا للسنة له ملكة رد المتشابهات إلى المحكمات وقوة استنباط الحقائق والدقائق النظريات من نصوص الفرقان وإشاراته ودلالته واقتضاءاته من قلب حاضر وفؤاد يقظان”[32]، وإن كانت هذه الأوصاف تنطبق على المجتهدين في كل عصر من غير تقيد بمذهب معين أو بمفهوم الاجتهاد المطلق الذي يمثله أهل المذاهب، أو بصنف مخصوص من العلوم. فإننا نجد من حمل الحديث على إمام المذهب الذي اتبعه، وهذا الحمل هو نتاج التعصب المذهبي الرامي إلى نصرة الدين بنصرة المذهب، قال ابن كثير :وقد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر والله أعلم أنه يعم حملة العلم من كل طائفة وكل صنف من أصناف العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء ونحاة ولغويين”[33].
وما يفسر التجديد الاجتهادي على أنه الاجتهاد الفقهي الجزئي من داخل المذهب وليس الاجتهاد المطلق. أن الإمام السيوطي لما ادعى الاجتهاد المطلق قامت عليه القيامة بسبب ذلك وطلبوا مناظرته فامتنع. قال العلامة الشهاب بن حجر الهيثمي “لما ادعى ذلك قام عليه معاصروه ورموه عن قوس واحد، وكتبوا لـه سؤالا فيه مسائل أطلق الأصحاب فيها وطلبوا منه إن كان عنده أدنى مراتب الاجتهاد وهو اجتهاد الفتوى فليتكلم على الراجح من تلك المسائل بدليل على قواعد المجتهدين فرد السؤال من غير كتابة عليه واعتذر بأن لـه اشتغال يمنعه من الجواب على ذلك. قال الشهاب الرملي فتأمل صعوبة هذه المرتبة أعني اجتهاد الفتوى الذي هو أدنى مراتب الاجتهاد يظهر لك أن مدعيه فضلا عن مدعي الاجتهاد المطلق في حيرة من أمره وفساد فكره وأنه ممن ركب عمياء وخبط خبط عشواء”[34].
إذن فالتجديد بمعنى الاجتهاد المذهبي يعني أن المجدد مجتهد. قال السيوطي في أرجوزته المسماة (تحفة المهتدين بأخبار المجددين)[35].
بأنه في رأس كل مائة يبعث الله لهذى الأمة
منا عليها عالما يجدد دين الهدى لأنه مجتهد
وهذا الاجتهاد هو من داخل المذهب أي في القضايا الفقهية الجزئية المبنية على قواعد وأصول المذهب في الاستنباط.
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى نص للشيخ المناوي يذكر فيه الحكمة من بعث المجددين والعمل الذين يقومون به، وهو عمل ينطبق على المجتهدين إلى حد كبير. يقول: “لما جعل (الله تعالى) المصطفى خاتم الأنبياء والرسل وكانت حوادث الأيام خارجة عن التعداد ومعرفة أحكام الدين لازمة إلى يوم التناد، ولم تف ظواهر النصوص ببيانها بل لابد من طريق واف بشأنها اقتضت حكمة الملك العلام ظهور قرم من الأعلام في غرة كل قرن ليقوم بأعباء الحوادث إجراءا لهذه الأمة مع علمائهم مجرى بني إسرائيل مع أنبيائهم”[36].
إن دلالات التجديد وتنوعها من إحياء للدين وقمع للبدعة ونصر للسنة، إلى الاجتهاد المذهبي، توحي أن مصطلح التجديد قد أخد هذه الدلالات المختلفة بسبب اختلاف الظروف التاريخية التي كانت تواجه المسلمين، إذ لكل عصر خصوصياته، ولا يعني هذا أن كل عصر اختص بدلالة معينة. بل قد نجد هذه الدلالات داخلة في كل عصر إلا أن الذي يميزها هو موقعها من شروحات الحديث، حيث تطورت هذه الدلالات بتطور العلوم الإسلامية.
إن التجديد هو إحياء للدين، وهذا الإحياء لا يتم إلا بقمع البدعة ونصر السنة، وهذا لا يتأتى أيضا إلا لمن حمل راية الاجتهاد في المذهب، والاجتهاد في المذهب لا يقتصر على الفقه فقط. بل يتعداه إلى الحديث والتفسير والنحو واللغة وغيرها. إذ المجتهد يكون حاملا لهذه العلوم، ويكفينا في موسوعية علماء الإسلام المجددين دلالة على الاجتهاد المقصود.
————————–
الهوامش:
1. سورة البقرة الآية:109 قال ابن العربي في الأحكام “هذا دليل على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعرض للتنقيص والفض”. أحكام القرآن ج 1 ص32 تحقيق علي محمد اليجاوي، دار الجيل بيروت لبنان.
2. معجم ألفاظ القرآن الكريم ج.1 ص: 506 جمهورية مصر العربية مجمع اللغة العربية. الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث 1409هـ – 1988م.
3. المصطلح الأصولي عند الإمام الشاطبي فريد الأنصاري ص:15 معهد الدراسات المصطلحية والمعهد العالمي للفكر الإسلامي. الطبعة الأولى 1424هـ.
4. قضايا التجديد نحو منهج أصولي. حسن الترابي. ص:9 دار الهادي الطبعة الأولى 1421 هـ 2000 م.
5. المختار من صحاح اللغة. ص:70 تأليف محمد محيي الدين عبد الحميد ومحمد عبد اللطيف السبكي. مطبعة الاستقامة بالقاهرة.
6. لسان العرب لابن منظور. ج 3 ص:113/111 مادة (جدد) دار صادر ودار بيروت 1388 هـ 1968 م.
7. منهج التجديد في الفكر الإسلامي. فاروق النبهان، ضمن ندوة التجديد في الفكر الإسلامي ص:60 مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود. المركز الثقافي العربي.
8. منهج تجديد الفكر الإسلامي. عبد الله بن عبد الحسن التركي.
9. سنن أبي دلوود. ج 4 ص 480، رقم الحديث 4291 موسوعة السنة (الكتب الستة وشروحها) إشراف وترقيم وفهرسة الدكتور بدر الدين جيتين. الطبعة الثانية.
10. المستدرك عل الصحيحين للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكـم النيسابوري. ج 4 ص 567 دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطى. دار الكتب العلمية بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1411 هـ 1990 م.
11. عون المعبود سرح سنن أبي داوود للعلامة أبي الطيب محمد شمس العظيم آبادي مع شرح الحافظ بن قيم الجوزية. مج 11 ص 387. تحقيق عبد الرحمان محمد عثمان. دار الفكر لبنان. بيروت الطبعة الثالثة 1399 هـ 1979 م.
12. عون المعبود شرح سنن أبي داوود. مج 11 ص388.
13. المقاصد الحسنة للسخاوي. ص203.
14. كشف الخفاء للعجلوني الجراحي. ج 1 ص 282 تحقيق أحمد القلاش. مؤسسة الرسالة. بيروت. الطبعة الرابعة 1405 هـ.
15. عون العبود. مج 11 ص388.
16. قيض الله فلانا لفـلان: جائه وأتاحه له، وقيض الله له قرينا: هيأه وسبته من حيث لا يحتسبه، لسان العرب ج 7 ص 225 مادة (قيض).
17. من عليه يمن منا. أحسن إليه وأنعم والاسم المنة. لسان العرب ج 13 ص 417 مادة (منن).
18. فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي. ج 1 ص 19 الطبعة الأولى 1416 هـ 1996 م.
19. نفسه. ج 1 ص20.
20. عون المعبود. هج 11 ص 387/386.
21. آل عمران. الآية:19
22. في فقه التدين فهما وتنزيلا. عبد المجيد النجار. ج 1 ص 30 كتاب الأمة. العدد 22 نشر وزارة الأوقاف بدولة قطر الطبعة الأولى.
23. سورة الأعراف. الآية 53
24. عون المعبود. ج 11 ص 386.
25. إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي ج1 ص 2. دار المعرفة بيروت-لبنان.
26. فتح الباري شرح صحيح البخاري. ج 13 ص 308 للإمام بن حجر العسقلاني. مراجعة محب الدين الخطيب. دار الريان للتراث القاهرة. الطبعة الأولى 1407 هـ 1987 م.
27. عون المعبود. مج 11 ص 391.
28. فيض القدير. ج 1 ص 23.
29. عون المعبود. مج 11 ص 386.
30. الإمام الشافعي ناصر السنة وواضع الأصول. عبد الحليم الجندي. ص 238 دار المعارف. مصر.
31. عون المعبود. مج 11 ص 392.
32. فيض القدير. ج 1 ص 20.
33. كشف الخفاء. ج 1 ص 282 وانضر فيض القدير. ج 2 ص 351.
34. فيض القدير. ج 1 ص 21.
35. أوردها الأبادي في عون المعبود. مج 11 ص 393/394 والمناوي في فيض القدير ج 2 ص 351/352.
36. فيض القدير. ج 1 ص 20.
{jathumbnail off}
المصدر : https://dinpresse.net/?p=2796