هل يُدرَك حكمُ الموسيقى بالعقل أم بالشرع؟

عبد السلام أجرير
2019-11-06T01:06:36+01:00
آراء ومواقف
عبد السلام أجرير29 سبتمبر 2013آخر تحديث : الأربعاء 6 نوفمبر 2019 - 1:06 صباحًا
هل يُدرَك حكمُ الموسيقى بالعقل أم بالشرع؟

عبد السلام أجرير
عبد السلام أجرير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الطيبين، وبعد؛
* هل بالعقل فقط نستطيع إدراك معاني الشريعة؟
1- معلوم أن الشريعة -المحروسة بإذن الله تعالى- طلبت من المسلم استخدام عقله وذهنه وتفكيره، بل الشريعة كلها تفكير وتأمل وتعقّل؛ بل العقل آلية التكليف، فغير العاقل مرفوع عنه القلم والتكليف. والاجتهاد لا يكون إلا باستخدام العقل.
ولكن عن أي عقل نتحدث؟ فمن المعلوم أن عقول الناس تتفاوت وتختلف، فما نراه نحن في هذا البلد مسلَّما به وضروريا قد يراه آخرون في مناطق أخرى رجعيا وتخلفا، وما قد نراه منطقيا هنا قد يراه غيرنا غير منطقي. فترك الحكم الفاصل للعقل وحده فيه خطورة ومدعاة للتسيب. وكما قرر الفلاسفة، فإن للعقل حدود، ويكمن الرجوع في هذا الأمر إلى مباحث “مصادر معرفة العقل وحدوده” في الدراسات التأملية الفلسفية.
ومعلوم أيضا أن مصادر حكم العقل هي الحواس: بصر وسمع وشم ولمس وذوق، فما غاب عن هذه الحواس لم يدرك العقل حقيقته، وعُدّ من الغيبيات عنه، وكل ما غاب عن الحواس فهو غيب، والغيبيات لا تدرك بالعقل وإنما العقل يساعد على تصورها أو تخيلها فقط. فيمكن له تخيلها وتصورها ولكن يستحيل إدراكها والإحاطة بها.
2- كانت هذه مقدمة ضرورية للتمهيد، وبناء عليها فإنه يتقرر أن العقل وظيفته أن يتعقّل الأشياء الجارية مجرى العوائد القابلة للتعليل فقط.
وإذا نظرنا إلى الشريعة وجدنا أحكامها صنفان:
أ- أحكام معللة ومعقولة المعنى يستطيع العقل أن يفهم علاقة الحكم فيها بالفعل، وجل هذه الأحكام متعلقة بالمعاملات من بيع وشراء ونكاح وطلاق… ومعظم الشرائع معللة كما نص عليها العلماء؛ أي أنه يدرك العقل سبب الحكم والحكمة فيها وعلتها…(1).
ب- أحكام غير معللة، وهي التي اصطُلح عليها بالأحكام التعبّدية، وجل هذه الأحكام متعلقة بالعبادات كالصلاة والصوم والحج… فلا يستطيع العقل أن يدرك علة لِمَ أربع ركعات في الظهر وثلاث في المغرب؟ ولمَ لم يكن العكس؟ ومعظم العبادات غير معللة.
وقد تقرر أن أحكام الشريعة لا تُؤخذ بالعقل بداية، وإنما تؤخذ من الوحي والشرع، ثم يستخدم المسلم عقله في تعقّل معناها وحِكَمها والبحث عن عللها…
فكيف يستطيع عقلنا القاصر فهم علّة حكم أن المرأة الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ مع أن الصلاة أعظم من الصوم ولا تسقط بعذر حتى في اللحظة التي يكون فيها الإنسان في المعركة وسيفه مع سيف عدوه، لا بد له من الصلاة ولا يخرجها عن وقتها، فلم لا تقضيها المرأة والحالة هذه؟
وهل يستطيع العقل أن يدرك علل عِدَد (جمع عدّة) النساء؛ لِمَ كانت عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا؟ وعلة المطلقة العادية ثلاثة قروء (حوالي ثلاثة أشهر)؟ وعدة الحامل أن تضع حملها؟
ثم هل يستطيع العقل أن يدرك لمَ كان المسح على الخفين الواجب فيه ظاهر القدم لا باطنه؟ مع أن الباطن أولى بالمسح من الظاهر إذا قلنا إن العلة من المسح هي الطهارة من الأوساخ.
وقد استشعر سيدنا علي –رضي الله عنه- هذا الأمر التعبدي في العبادات وأحكام الشريعة، وعلم أن عقول الناس قاصرة عن فهم كل الأحكام الشرعية فقال: ((لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ»)) (2).
فالعقل إذن في حكم الموسيقى والمعازف تابع للشرع، ولا يستقل عنه في إثبات الحكم. فما حكم الموسيقى في الشريعة (عزفا وسماعا وشراء…)؟

* حكم الموسيقى في الشريعة:
قبل الكلام عن حكم الموسيقى لا بد من التنبيه إلى الفرق بين النشيد والغناء، نظرا لكثرة الخلط الذي نقع فيه في زماننا. وقد اختلف الناس في ذلك وتاهوا، ولكن عند تحرير محل النظر ينحصر الكلام في الموسيقى (المعازف)، فهي الفيْصل؛ أما الكلام الملحن الجميل في المعنى لم يُحرمه أحد. وعلى هذا فكل كلام ملحّن جميل المعنى خال من الموسيقى فهو نشيد، سواء كان دينيا أو وطنيا… أما إذا دخلت الموسيقى إلى هذا النشيد فيصير غناء وليس نشيدا، وينطبق عليه حكم الغناء تبعا لحكم الموسيقى.
ويُخطئ من يخلط بين الألحان بدون معازف والغناء معها، فالغناء المجرد؛ كالأناشيد والحُدَاء بأبيات نزيهة لا يصاحبها منكر، جائزة، وكلام أهل العلم فيها ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وعليه يجب حمل كلام المبيحين. وأما الغناء مع المعازف فحكمه المنع والتحريم عند الجمهور.
وما يروج في الساحة الآن من تسجيلات فيها ذكر لله والصلاة على رسول الله مصحوبة بالموسيقى هو غناء محض، سواء أغناه ماهر زين ويوسف إسلام أو غناه إيهاب توفيق ووائل جسّار… كل ذلك سواء، فالعبرة بالمعاني لا بالمباني، والعبرة بحالة الشيء لا بمن يؤدي هذا الشيء. وقل حوالي 15 سنة كان يُسمى هذا النوع من الغناء ب”الغناء الملتزم” أو “الغناء الديني”، وهذا الاسم هو أقرب عندي في الصواب من تسميته نشيدا.
أحيانا قد يقع اختلاف بين العلماء في الحكم: هل هو من قبيل معقول المعنى المعلل، أم من قبيل الحكم التعبدي غير المعلل؟
وموضوع الموسيقى أو المعازف من الصنف الذي وقع فيه الاختلاف، فعندما نأتي إلى موضوعنا -وهو مسألة حكم المعازف والموسيقى- نجد ظواهر النصوص تصرح بتحريم كل المعازف وتستثني الدف وما شابهه. ولذلك ذهب الجمهور إلى حرمة الموسيقى وما ترتب عليها من غناء وغيره، ورأوا أن الموسيقى حرام لذاتها لا لعلة أخرى. وهذا المذهب هو الذي يهمنا لأنه مذهب الجمهور، بل عليه شبه إجماع إلا من شذ من العلماء في ذلك، وشذوذهم غير معْتبر.
ولن أكتفي هنا بنقل النصوص الحديثية مباشرة ومجردة عن توجيه العلماء؛ لأنها كثيرة ويمكن أن يدخلها التأويل، ولكن سوف أنقلها وأنقل معها كلام العلماء الذين أوصلوا لنا أحكام الشريعة الأخرى من صلاة وصوم وزكاة وحج… فهم أمناء في النقل، وكما وثقنا بهم في نقل الشرائع الأخرى نثق في نقلهم لنا هذا الأمر، وحكم الغناء حكم فقهي محض لا دخل للمفكر ولا الفيلسوف ولا غيرهما فيه، فهو مثله مثل باقي الأحكام الشرعية.
فقد وردت أحاديث كثيرة جدا تذم المعازف والغناء، والمعازف معروفة نوعها عند العرب والعجم قديما وحديثا، وتشمل العود والمزهر والرباب والقانون… وما تطور عنها مثل “بيانو” والآلات الكهربائية الحديثة… بل هذه الأخيرة أولى بالحرمة وأقوى.
واستثناء الدف مشروط عند أكثر العلماء بأن لا يكون فيه خيط رنان، وإنما يكون دفّا عاديا مصنوعا من جلد خالص، لأن الرخصة جاءت فيه لا في غيره؛ قصرا للحكم على محله كما تقرر عند الأصوليين، كما تقرر أيضا أنه لا قياس في الرخص. وسوف نرى بعض الأدلة إن شاء الله.
ولا يوجد حديث -ولو ضعيفا- منسوب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحل المعازف رغم انتشارها وكثرتها في زمانه. بل من أجازها من القلة القليلة ذهب إلى أدلة عقلية وآثار لبعض السلف فيها نظر، والنقل عنهم غير آمن، وقد رأينا حدود العقل في هذه الأمور فيما سبق.
ويكاد يكون ابن حزم الظاهري -رحمه الله- العالم الوحيد الذي أجاز الاستماع إلى الغناء ودافع عنه بالحجج، وهو الذي اشتهر بين العلماء في ذلك بهذا الرأي الشاذ، فقد قال في كتابه “المحلى بالآثار” بعد أن أورد الآثار التي تحرم الغناء ونقدها من حيث السند قبل المتن، قال: ((فَمَنْ نَوَى بِاسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ عَوْنًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ – تَعَالَى – فَهُوَ فَاسِقٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ غَيْرُ الْغِنَاءِ، وَمَنْ نَوَى بِهِ تَرْوِيحَ نَفْسِهِ لِيَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ – عَزَّ وَجَلَّ – وَيُنَشِّطَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْبِرِّ فَهُوَ مُطِيعٌ مُحْسِنٌ، وَفِعْلُهُ هَذَا مِنْ الْحَقِّ، وَمَنْ لَمْ يَنْوِ طَاعَةً وَلَا مَعْصِيَةً، فَهُوَ لَغْوٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَخُرُوجِ الْإِنْسَانِ إلَى بُسْتَانِهِ مُتَنَزِّهًا، وَقُعُودِهِ عَلَى بَابِ دَارِهِ مُتَفَرِّجًا وَصِبَاغِهِ ثَوْبَهُ))(3).
وابن حزم له شذوذ وطوامّ كثيرة مشهورة؛ ومذهبه الظاهري الجامد على ظاهر النصّ قد جره إلى القول بأمور خرج بها عن جادة الصواب، منها قوله بحلّيّة الربيبة التي ليست في حجر الزوج، معللا ذلك بأن القرآن اشترط أن تكون في حجر الزوج في قوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن…} [النساء: 23]. ولكن الإجماع على أن هذا القيد في الآية (قيد الحِجْر) لا مفهوم له؛ لأنه خرج مخرج الغالب، فتحرم الربيبة التي في حجر زوج أمها والتي ليست في حجره بل كانت تسكن لوحدها(4). ولله در القائل:
واجزم بتحريم الغنا كجزمي * ولا تطع قولاً لابن حزم

* أهم الأدلة الشرعية على تحريم الموسيقى:
وأقوى ما في الباب من النصوص المحرمة للمعازف ما يلي:
1- روى الإمام البخاري في صحيحه وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ))(5).
وهذا الحديث من أقوى الأدلة على التحريم، إذ قوله عليه السلام “يستحلون” يفيد بمفهوم المخالفة أن هذه الأشياء محرمة في الأصل، وقد جمع الخمر والمعازف (الموسيقى) والفرج في جملة واحدة.
وهناك أحاديث كثيرة منسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام تحرم المعازف ولكنها أقل قوة من هذا الحديث، فنكتفي بهذا نصا مرفوعا للنبي عليه السلام.
2- ما تظافرت به النقول عن سيدنا عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أنهما كانا يقولان في قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} [لقمان: 6]، أن لهو الحديث هو الغناء، وكانا يقسمان على ذلك ويحلفان عليه(6). ونحن نعلم أن الصحابي إذا جزم بتفسير آية أو حديث ما فتفسيره في حكم المرفوع، ولا يجوز أن نعتبر ذلك اجتهادا منه فقط.
فهذان نصان صريحان في تحريم الغناء والمعازف، وهناك غيرهما كثير.
وكما ذكرت سابقا فإني لن أكتفي بسرد النصوص حتى لا يُقال لنا إن الخبر الفلاني يحتمل التأويل والتخصيص… ولكن لا بد من نقل أقوال العلماء حتى تطمئن النفوس، وأكتفي بتقريرات علماء المذهب المالكي (وهو المذهب الرسمي للبلاد)، مع الإحالة على كتب باقي المذاهب الأخرى للرجوع إليها.
جاء في الشرح الكبير للشيخ الدردير الحجة المالكي -وهو يشرح قول خليل رحمهما الله-: ((“وَ” كُرِهَ “كِرَاءُ دُفٍّ”: بِضَمِّ الدَّالِ وَقَدْ تُفْتَحُ، وَهُوَ الْمُدَوَّرُ الْمَغْشِيُّ مِنْ جِهَةٍ كَالْغِرْبَالِ، “وَمِعْزَفٍ” وَاحِدُ الْمَعَازِفِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَعَازِفُ الْمَلَاهِي؛ فَيَشْمَلُ الْمِزْمَارَ وَالْأَعْوَادَ وَالسِّنْطِيرَ بِنَاءً عَلَى كَرَاهَتِهَا، “لِعُرْسٍ” أَيْ نِكَاحٍ، وَقِيلَ هِيَ جَائِزَةٌ فِي النِّكَاحِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِهَا جَوَازُ كِرَائِهَا، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الدُّفَّ وَالْكَبَرَ جَائِزَانِ لِعُرْسٍ مَعَ كَرَاهَةِ الْكِرَاءِ، وَأَنَّ الْمَعَازِفَ حَرَامٌ كَالْجَمِيعِ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ فَيَحْرُمُ كِرَاؤُهَا))(7).
وقد وجه المالكية قول إمامهم في القول بكراهة الدف في العرس، ورأوا أن ذلك منه على سبيل الورع وليس حراما، فيجوز استخدامه وحده دون المعازف الأخرى في العرس ونحوه، والكراهة ألصق بكرائه لأجل العرس وليس في جواز ضربه.
جاء في كتاب: “منح الجليل” للشيخ عِلِّيش المالكي-وهو يشرح قول خليل  السابق- ما نصه: ((“وَ” كُرِهَ “كِرَاءُ دُفٍّ” بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَشَدِّ الْفَاءِ: آلَةُ الطَّبْلِ الْمُدَوَّرَةُ الْمُغَشَّاةِ بِجِلْدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْغِرْبَالِ… فِيهَا [أي: المدونة] لِابْنِ الْقَاسِمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- لَا يَنْبَغِي إجَارَةُ الدُّفِّ وَالْمَعَازِفِ كُلِّهَا فِي الْعُرْسِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- وَضَعَّفَهُ ابْنُ يُونُسَ، أَرَادَ ضَعْفَ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ. [قال] ابْنُ يُونُسَ: الدُّفُّ الَّذِي أُبِيحَ ضَرْبُهُ لِعُرْسٍ وَنَحْوِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَجُوزَ إجَارَتُهُ. [وقال] ابْنُ عَرَفَةَ: كَرِهَهَا الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- لِأَنَّهُ غَيْرُ عَمَلِ الصَّالِحِينَ، وَإِنْ كَانَ ضَرْبُهُ مُبَاحًا فِي الْعُرْسِ فَلَيْسَ كُلُّ مُبَاحٍ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ)) (8).
ولا يتعجب المسلم من الشرع كيف حرم المعازف وأباح الدف؛ فالشارع الذي أباح استعمال الدف هو نفسه الذي حرم استعمال المعازف، وقد كانت كلها متوافرة في المجتمع حينها، ولا يشك عاقل في الفرق الكبير الحاصل بين الدف والمعازف. حتى قال بعض العلماء إن الدفّ جنس مستقل عن المعازف ولا يدخل فيها حقيقة.
وقد أفرد بعض العلماء كتبا خاصة في حرمة المعازف، فمن العلماء المالكية الذين أفردوا تأليفا في حرمة الموسيقى والغناء الإمام القرطبي صاحب كتاب “شرح صحيح مسلم”، وسمى كتابه هذا: “كشف القناع عن حكم الوجد والسماع”، وهو نفيس في بابه(9).
وما ذهب إليه المالكية من التحريم هو ما ذهبت إليه المذاهب الأخرى: الشافعية،(10) والحنفية،(11) والحنابلة(12).

* خلاصة:
وفي الختام ألخص الكلام فأقول إن جمهور العلماء على تحريم الموسيقى بجميع أنواعها وما تفرع عنها، والرخصة فقط في الدف وما شابهه كالطبل، لأنه في الأصل ليس من المعازف، وهو رخصة في الأفراح كالعرس والعقيقة ونحوها. وظواهر النصوص كلها مع التحريم، والقول بالإباحة ليس دليله قويا، وأقوى ما قد يصل إليه المعارض أن المعازف فيها شبهة. وقد أمرنا الشرع بتوقي الشبهات، فقال عليه السلام في الحديث الصحيح: ((الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ))(13).
والله أعلم بالصواب، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
وللمزيد من التفصيل والتدقيق والمناقشة أرجو زيارة “ركن الإفتاء والإرشاد على المذهب المالكي” سواء بصيغة الموقع أو بصيغة المجموعة التواصلية على الفيسبوك.

ـــــــــــــــ هامش الإحالات ــــــــــــــــــ
(1) وقال ابن القيم الجوزية الحنبلي: ((والْقُرْآن وَسنة رَسُول الله مملوآن من تَعْلِيل الْأَحْكَام بالحِكَم والمصالح)). يُنظر “مفتاح دار السعادة”، طبعة دار الكتب العلمية – بيروت، (2/22).
(2) رواه أبو داود بإسناد صحيح، يُنظر: سنن أبي داود، كتاب الطهارة: باب كيف المسح، (رقم: 162).
(3) المحلى بالآثار، ابن حزم الظاهري (المتوفى: 456 هــ)، دار الفكر – بيروت، (7/567).
(4) جاء في “المحلى” (9/140): ((وأما من تزوج امرأة ولها ابنة أو ملكها ولها ابنة، فإن كانت الابنة في حجره ودخل بالأم مع ذلك وطئ أو لم يطأ، لكن خلا بها بالتلذذ: لم تحل له ابنتها أبدا، فإن دخل بالأم ولم تكن الابنة في حجره، أو كانت الابنة في حجره ولم يدخل بالأم، فزواج الابنة له حلال)).
(5)  صحيح البخاري، كتاب الأشربة: باب ما جاء في من يستحل الخمر، (رقم: 5590).
(6)  يُنظر كتب التفاسير في تفسير هذه الآية، وعلى رأسها تفسير القرطبي المالكي.
(7) الشرح الكبير على مختصر خليل للشيخ الدردير، دار الفكر، (4/18).
(8) منح الجليل شرح مختصر خليل، محمد عليش، دار الفكر – بيروت، سنة: 1409هـ/1989م. (7/488).
(9) وللمزيد من التوسع يُنظر هذه الكتب المالكية: “مواهب الجليل مع التاج والإكليل” (5/248)، و”الفواكه الدواني” (2/392، 409)، و”المقدمات الممهدات” (3/462)، و”كشف القناع عن حكم الوجد والسماع” (ص: 131.(
(10) ينظر في ذلك هذه الكتب الشافعية: “روضة الطالبين” (11/228)، و”الحاوي الكبير” (17/191)، و”مغني المحتاج” (4/425)، و”نهاية المحتاج” (8/296).
(11) ومذهب الأحناف أكثر المذاهب تشددا في حرمة الغناء والمعازف، على غير عادته في التشدد. يُنظر على سبيل المثال: “رد المحتار على الدر المختار” (5/34، 223)، و”تكملة البحر الرائق” (8/346)، و”تبيين الحقائق” (5/ 125، 6/13).
(12) يُنظر في الكتب الحنبلية: “المغني” (14/157)، و”الإنصاف” (5/342)، و”الفروع” (5/310)، و”كشاف القناع” (6/537)، و”إغاثة اللهفان” (1/256).
(13)  رواه البخاري ومسلم.

{jathumbnail off}

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.