في هذا التاريخ وقع المولى عبد الرحمن رحمه الله كتابَ بعثِ أولاده إلى الحج، وهو عبارة عن رسالة، تضمنت نصائح من السلطان إلى بنيه وما ينبغي أن يتحلون به من الحرص على القصد والغاية من رحلتهم إلى الحجاز، وهي حج بيت الله الحرام وزيارة الروضة الشريفة بالمدينة المنورة،
ونسوق لكم نص الكتاب كما ورد في كتاب الاستقصا للناصري:
وفي سنة أربع وسبعين ومائتين وألف بعث السلطان رحمه الله أولاده إلى الحجاز بقصد أداء فريضة الحج، وهم: المولى علي، والمولى إبراهيم، والمولى عبد الله، والمولى جعفر، وابن عمهم المولى أبو بكر بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الله.
وبالغ السلطان رحمه الله في حسن تجهيزهم بما لم يتقدم مثله لإخوتهم الذين حجوا قبلهم، لا من الأموال ولا من الرجال ولا من الأدوات والمراكب الفارهة والمرافق العديدة، وبعث معهم من الأموال شيئا كثيرا لأشراف الحرمين ولخواص معينين من الفقهاء والمجاورين.
ووجه أكابر التجار والأمناء العارفين بعوائد البلاد والأقاليم والأمم، مثل الحاج محمد بن الحاج أحمد الرزيني التطاوني والحاج محمد بن جنان البارودي التلمساني، وبعث معهم قاضي مكناسة الفقيه العلامة السيد المهدي بن الطالب بن سودة المري الفاسي وأخاه الفقيه العلامة السيد أحمد بن سودة في جملة من الفقهاء يقرؤون عليهم.
أخبرني الحاج عبد الكريم بن الحاج أحمد الرزيني، وهو أخو الحاج محمد المذكور آنفا، أن السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله لما عزم على بعث أولاده إلى الحجاز استدعى الأمين الحاج محمد المذكور فدخل عليه فأوصاه بما تنبغي الوصاة به وأخبره أن المال الذي عينه للنفقة على الأولاد المذكورين هي نفقة جمعت من حلال، بعضها من أصول بتافيلالت وبعضها من غيرها مما هو حلال. وقال له: احتفظ بذلك المال واجعل السخاء فيه بمنزلة الملح في الطعام اه.
ولما عزم الأولاد المذكورين على الانفصال إلى وجهتهم أصحبهم السلطان رحمه الله وصية كافية يقول فيها ما نصه:
الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه،
أولادنا عبد الله وإبراهيم وعليا وأبا بكر وجعفرا، وفقنا الله وإياكم للعمل بطاعته، وحفظكم وأرشدكم وتولاكم، وكان لكم في سائر أحوالكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد..
فإنه لما كانت الأولاد قطع الأكباد وعماد الظهور وثمار القلوب وشفاء الصدور، وجب أن يكون لهم الآباء السماء الظليلة والسحابة المنيلة، وخير الآباء للأبناء ما لم تدعه المودة للتفريط في الحقوق، وخير الأبناء للآباء ما لم يدعه التقصير إلى المخالفة والعقوق، قال رسول الله: الأولاد من رياحين الجنة، وقال القائل:
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
إن هبت الريح على بعضهم تمتنع العين من الغمض
هذا، وإن أولى ما زود به والد ولده وصية يتخذها في سفره إمامه ومعتمده، فاعلموا أنا وجهناكم لحج بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه عليه الصلاة والسلام واستودعناكم الله الذي لا تضيع ودائعه، فاقدروا قدر هذه الوجهة التي قصدتموها، واعرفوا حق هذه العبادة التي يممتموها، فتوجهوا لها بحسن النية، راجين من الله سبحانه بلوغ القصد والأمنية.
وأوصيكم بتقوى الله في السر والعلانية، فإن خير الزاد التقوى، وبما أوصى به إبراهيم بنيه: (يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) البقرة، وبما قال لقمان لابنه وهو يعظه (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم، يا بني أقم الصلوة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) لقمان الآية.
واستوصوا بعضكم بعضا خيرا، وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.
وأخوكم مولاي عبد الله أكبركم، فكونوا عند إشارته، فإن للسن حقا في التقدم، وفي الحديث الشريف: كبر كبر.
ومنذ نوينا توجيهكم لهذه الوجهة السعيدة، ونحن نجيل الفكر فيمن نوجهه معكم، حتى وقع اختيارنا على خديمنا الحاج محمد الرزيني لكونه نعم الرجل، واجتمع فيه من الأوصاف المحمودة ما افترق في غيره، فكونوا له بمنزلة الأولاد البررة، وليكن لكم بمنزلة الوالد الشفيق، كما قال القائل:
وكان لها أبو حسن علي أبا برا ونحن له بنين
وآزرناه بالحاج أبي جنان البارودي لمروءته وحسن هديه وسمته، وكلاهما خير، والحمد لله.
وآثرناكم على أنفسنا بالفقيه الأوحد المشارك، السيد المهدي ابن سودة، وتوجه معه أخوه وهو أيضا ممن يشفع بعلمه، فأوفوا كل واحد منهم قسطه ومستحقه، مما أرشد إليه الرسول فهذب وأدب إذ قال: ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه.
وحافظوا على دينكم، واشتغلوا بما يعنيكم، واتركوا ما لا يعنيكم، ففي الحديث الشريف: من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه.
واعكفوا على قراءتكم ولا تضيعوا الأوقات في البطالة، خصوصا ما يتعلق بالعبادة التي أنتم بصددها، فمن الآن اصرفوا كليتكم لقراءة المناسك وابدؤوا بأسهلها وأقربها مناسك المرشد المعين، ثم منها إلى ما هو أوسع فروعا وأكثر مسائل، وعلى الفقيه السيد المهدي المذكور أن لا يألو جهدا ونصيحة في تعليمكم والقراءة معكم.
واجعلوا أيضا وقتا مع أخيه فإنه من طلبة الوقت المدرسين، فلم يبق لكم عذر في التقصير والبطالة، وكل من توجه معكم من الأصحاب والأتباع والدايات فهو في رعايتكم، وفي الحديث: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فعلموهم أمر دينهم ومناسك حجهم وخاطبوهم في ذلك على قدر ما يفهمون، ليكون عملهم في صحيفتكم، وفي الحديث: خيركم من تعلم وعلم، وفيه أيضا: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس.
وتحلوا بحلية أهل الفضل والكمال، وكونوا على ما ينبغي من الأدب مع الخلق ومع الخالق، وهذبوا أخلاقكم، وهشوا وبشوا لملاقاة الناس، وعاملوا كل واحد بما يستحقه، ولا زال الناس يذكرون هنالك أخاكم مولاي سليمان أصلحه الله، ويدعون له في تلك الأماكن الشريفة لما رأوا من سعة أخلاقه وحسن بشره وبشاشته مع الناس.
ونعهد إليكم أن لا تتركونا من الدعاء في أي موطن حللتموه من تلك المواطن الشريفة، خصوصا عند الملتزم والمقام وغيرهما من الأماكن التي ترجى إجابة الدعاء عندها.
ونوبوا عنا في استلام الحجر الأسعد، وفي زيارة قبر النبي والتسليم عليه وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وعليكم بالاستقامة في جميع أموركم، وسلوك سبيل الموافقة والائتلاف، وترك المشاجرة والاختلاف، ومخالفة الهوى والنفس والشيطان، فإن له مزيد تسلط بالشر في طرق الخير، فكونوا في جميعها على حذر، قال تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) فاطر.
نسأل الله لكم الحفظ والسلامة والأمن والعافية ذهابا وإيابا في أنفسكم ودينكم ودنياكم، ونستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتم عملكم.
فتوجهوا في حفظ الله على مهل حتى تصلوا إلى القصر، وأقيموا به في جوار أبي الحسن بن غالب نفعنا الله وإياكم ببركاته كما فعل إخوانكم قبل، فإن المقام بالقصر خير من المقام بطنجة، حتى يقدم البابور ويكتب لكم الخطيب بالإعلام، وحينئذ توجهوا إليها راشدين، وقد كتبنا بذلك للطالب محمد الخطيب وطالعوا الحاج محمد الرزيني على كتابنا هذا حين تتلاقوا معه إن شاء الله.
واعلموا أننا عينا عشرين ألف ريال بقصد أن يشتري بها حبس في سبيل الله، عشرة آلاف ريال يشتري بها ما يكون حبسا بمكة، وعشرة آلاف ريال يشتري بها ما يكون حبسا في سبيل الله بالمدينة المنورة، وهي من جملة ما حاز الحاج محمد الرزيني ورفيقه فيما حازا من الصائر، رجاء أن يبقى أجر ذلك جاريا منتفعا به إن شاء الله.
والسلام
في السادس من رمضان المعظم عام أربعة وسبعين ومائتين وألف.
Source : https://dinpresse.net/?p=2149