لم يأت الربيع العربي من فراغ، بل جاء نتيجة تدبير يد خفية تدير الشأن السياسي العالمي مسخرة كل أسلحتها الإعلامية والاتصالية بمختلف أنواعها بهدف زعزعة تماسك بعض الأنظمة أمنيا والهشة اقتصاديا واجتماعيا. صحيح إن أسئلة كثيرة طرحت بشأن حدوث / اندلاع الربيع العربي أو اليقظة العربية كما أطلق عليه بعض الباحثين، وكانت الأجوبة متعددة بتعدد زوايا القراءة التأويلية؛ ذهب بعضها إلى اعتبار الحدث تدخلا سافرا في شؤون الدول النامية، واعتبرها البعض سياسة استعمارية جديدة ، بينما ذهب الطرف الأخير إلى وصف ما جرى/ويجري فوضى وفتنة حلت بساحة جسد الشعوب العربية، وكانت مرجعيته في إصدار هذا الحكم القيمي شرعية ودينية، ومن هذا المنطلق يأتي هذا المقال ليسائل الربيع العربي من خلال بعض الأحاديث النبوية الشريفة في باب الفتن.
1- لم تختص السنة النبوية فقط بالتشريع بل تعدته إلى الحياة المختلفة، وسايرت الإنسان المسلم في كل تطلعاته وتطوراته، وتحدثت عن أشياء حاضرة وعالجت مشاكلها وصعابها، ووضعت لها خططا تدبيرية وأخرى وقائية احترازية، كما تحدثت عن أشياء غيبية مستقبلية، مرة بالجزم في الوقوع ، ومرة بالتنبؤ والتوقع.
ومن هذا المنطلق، فالسنة النبوية الشريفة حسب بعض الباحثين في السنة النبوية بدار الحديث الحسنية، فيها ما يمكن تسميته بلغة العصر الدراسات المستقبلية للتصدي للفتن والأزمات التي قد تقع بسبب الانحلال الخلقي، وتفشي الجهل وحب الدنيا حيث يقل التدين وتضيع الأمانة والمسؤولية .
وقد تطرق العلماء إلى الأحاديث التي وصفت الفتن والهرج الذي سيحل بالأمة، وقد افترقوا في ذلك كل حسب فهمه، والذي يعنينا منها في هذا المقام؛ هي الأحاديث الواردة في باب الفتن؛ حيث اعتبرها فريق من العلماء تحذيرا استباقيا للأمة كي تضع الاستراتيجيات والخطط لتتجنب شرارة الفتنة التي تأتي على الأخضر واليابس متى وقعت .
2- تعني الفتنة مما تعنيه الاختبار والمحنة، وعلى هذا الأساس، يقال: هو مفتون بطلب الدنيا أي تعلق بطلبها أكثر من اللازم، والفتنة قد تعني الضلال والإثم والفضيحة كما تطلق على اختلاف الناس في الرأي الذي يدفع إلى الحرب والاقتتال.
أحاديث الفتن كثيرة ومتعددة، منها:
أ- أحاديث تحذر من الفتنة وتمقتها مثل قوله عليه الصلاة والسلام:( ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه . وعقد سفيان بيده عشرة . قلت : يا رسول الله ! أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ). الحديث رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة .
فالحديث واضح في تحذير العرب من شر قد اقترب، وقد أتى التحذير مفتتحا بالويل وهي لفظة معروفة في الوعيد. قد يطرح قارئ الحديث تساؤلين: الأول: لماذا نص الحديث على العرب فقط دون باقي العالمين، والحالة هذه، أن الإسلام يقدم نفسه دينا بديلا للناس كافة؛ أسودهم وأحمرهم وأبيضهم وأصفرهم لا فرق بين أحد منهم ؟ ربما لأن العرب قد انحرفت عن الحنيفية، وأنكرت البعث وعبدت الأوثان، وقالت ماهي إلا حياة وموت وهلاك الدهر وما نحن بمبعوثين. وعليه، أتى الحديث بصيغة التحذير بيأجوج ومأجوج كعلامة كبرى لقيام الساعة ودنو البعث والنشر والحساب .
والسؤال الثاني: ما علاقة الهلاك بالصلاح ؟ إن الإنسان خلق ليعمر الأرض وليخلف الله في أرضه، والإعمار يكون بالصلاح الذي هو ضد الفساد، وفي العالم الذي نعيش فيه هناك صلاح ومصلحون ، وفساد ومفسدون ، وعليه إذا غلب الفساد الصلاح ، وكثر المفسدون وأشياعهم، وعم الخبث أرجاء الأرض، وتقاعس الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلنحذر الشر .( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) . فالشر حين يأتي يهلك الصالح والطالح .
ب- أحاديث تخاطب الذين يتمردون على الدولة والحكام بهدف الإصلاح، دون أن تكون لهم نظرة بعيدة عن العواقب التي قد تنجم عن أفعالهم الثورية. فتعود ثورتهم إلى حالة الفوضى والتسيب وعدم النظام ولا انتظام، من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام ردا على جواب بعض الصحابة:( يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال : نعم . قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال : نعم، وفيه دخن . قلت : وما دخنه؟ قال : قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم ، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها . قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
ابتدأ الصحابي سؤاله بوصف الحالة التي كان فيها أهل جزيرة العرب، حالة يطبعها الشر والجاهلية، ولما أتى نور الإسلام حاملا معه العدل والإنصاف والبر والخير، تساءل هل بعده شر؟ فأجيب أن نعم، شر يحمله قوم طلبوا الهداية خارج الهدي والمنهج النبوي.
وهذا الأمر يعقبه شر كذلك، يحمله دعاة على أبواب جهنم، فكل من يغالطك ويموه الحقيقة في وجهك، فهو يدعوك إلى جهنم، لأن سبب القذف في جهنم هو الفعل الشنيع والسلوك القبيح، وهؤلاء يزينون لك الأفعال ويسندونها إلى خطاب الشرع وهي بعيدة عنه، فما ينقلونه لك هو مجرد تأويل، وفي التأويل الكثير من التغليط . فما العمل إذن إزاء هذا الواقع الحالك ؟
الالتزام بمنهج الجماعة وإمامها، ففيه العصمة والتقية، وإلا اعتزل الإنسان جميع الفرق إن لم يتبين له الحق مع أية واحدة منها، وانزوى في جبل تحت شجرة حتى يأتيه الموت وهو على تلك الحالة من الابتعاد والانعزال.
إن الحديث يرشد الإنسان إلى اعتزال حالة الفوضى حين يكثر القيل والقال، وينفلت الزمام الأمني من يد الدولة الحاكمة، ويسعى كل إلى أن يصير هو الغالب والحاكم، ولا غلبة ولا حكم إلا بكثرة القتل والهرج .
فالتزام الجماعة والالتفاف حول الإمام الحاكم هو الأسلم حين يكثر الهرج، فالحديث لا يشرع للاستبداد، وإنما يدعو إلى طاعة الحاكم تجنبا للفوضى وغياب السلطان. ولأنه يتعذر إيجاد حاكم عادل يرضي الجميع، فالعدل قيمة نسبية حين يمارسها الإنسان، وكمالها تستمده من عدل الله.
وقوله عليه الصلاة والسلام : (إنها ستكون فتن . ألا ثم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله. ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه. ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه. فقال رجل : يا رسول الله أريت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال : يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت ؟ قالها ثلاث مرات. فقال رجل : يا رسول الله أريت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الفئتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال : يبوء بإثمه وإثمك . ويكون من أصحاب النار ). الحديث رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة .
يشير الحديث إلى توالي الفتن في الأمة بدلالة ثم التي تدل على التكرار والتراخي في الزمن. فتنة مهولة حسب تصور الحديث لها، فحال فيها أحسن من الحال التي تضادها، فحال القاعد فيها أفضل بكثير من حال الماشي فيها، وهكذا.
فإذا وقعت هذه الفتنة، فالحديث ينصح المرء بالتزام إبله إن كان يملكها، ولينصرف إلى أي شغل يشغله عنها ويباعد بينه وبينها طلبا للنجاة والمفازة. كما ينصحه إلى أن يعمد إلى سيفه وليدق على حده بحجر حتى لا يشارك في القتل والاقتتال. وإن أكره الإنسان على المشاركة ودفع إلى معسكر ما عنوة فضرب أو قتل ، فالإثم يبوء به الضارب والقاتل ومصيره النار.
3- إن ما يجري اليوم في سوريا من تدويل للقضية على أنها صراع طائفي بين السنة والشيعة ليستوجب من كل ذي لب حكيم وحصافة عقل ورأي ثاقب التوقف عن القول مليا حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود في هذه الفتنة الحالكة. إنها فتنة خربت الديار، وهجرت النسوان والصبيان، ورمت بالشباب في رحى حربها الطاحنة، فتنة ما كان لها أن تحدث في أمة حذرت من اتقاء الفتن ولو بالتزام الجماعة.
يفصح السائل في الحديث أعلاه عن واقع كان سائدا في قبائل العرب ألا وهو سيادة الجهل والشر؛ اقتتال وتطاحن وتمزق مثلت بعض معالمه حرب داحس والغبراء، هذه الحرب التي دامت أربعين سنة وسخرت فيها القصائد على اختلاف قوافيها وأبحرها الشعرية المضمنة حينها، يستعاض عنها اليوم بترسانة إعلامية “مفبركة” للحقائق، ومضللة للرأي العام العربي، بل ومغررة بالشباب وبالعلماء والدعاة، فعوض أن يستحضروا تحذيرات الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، سايروا الضلال الإعلامي وأوجبوا بالفتاوى الشبيهة بالأكلات السريعة القتال في أرض الشام، ولسان حال الدين يقول:” لا تعودوا إلى العمية الجاهلية، احذروها فهي نتنة”، ولكنه التضليل الإعلامي والإيديولوجي.
إن التغيير ممكن وهو سنة كونية لا نقاش في ذلك، ولكن أن يأتي عن طريق جلب المصالح ودرء المفاسد، أما إذا كان التغيير سيجلب المفاسد المتمثلة في تخريب الديار وهتك الأعراض، والأدهى من ذلك زهق الأرواح بغير ما اكتسبت، فالساعي إلى مثل هذا التغيير العنيف يتحمل البهتان والإثم المبين في ذلك.
إن الدعاة والفقهاء الذين انخرطوا في السياسة في هذه الفترة الحالكة من تاريخ الأمة ارتكبوا جرما عظيما في حق الأمة من حيث لا يدرون، فالسياسة اليوم ليست هي مقالات ابن القيم أو ابن تيمية أو الماوردي، إن السياسة أعقد مما يتصوره الفقيه الذي يحصر تعريفها في إدارة شؤون الأمة أو في الحكم الرشيد، وشهادة ابن خلدون فيه لا زالت تدوي إلى اليوم، ولكن الفقيه يعظ ولا يتعظ.
{jathumbnail off}
المصدر : https://dinpresse.net/?p=2018