في لقاء جمعني بالمفكر أبويعرب المرزوقي في أبوظبي، تطرقنا إلى المسار الذي تسير فيه تونس، وإلى دواعي استقالته من مهامه السياسية التي كلّف بها. أوجز الرجل كلامه، معربا عن رفضه أن يكون شاهد زور على مسار سياسي، وبما يعني أنه لا يريد أن يكون “مفكر كومبارس” لمجرد إضفاء الزينة.
فحين لا يحتمل ساسة مفكرا جنبهم وضمنهم فالأمر جللٌ ومؤشر خطير. مع أن الحاضنة الاجتماعية الحاملة لسياق التحولات الكبرى تقوم على تحالف وتضافر، بين مثلث رجال الفكر والساسة وأرباب الصنائع. فقط بتوكيل تلك القوى الاجتماعية المهمّة المنوطة بعهدتها، يمكن للدولة أن تشتغل بمثابة آلة عقلانية مثمرة، وإلا تغدو آلة يتهددها العطل في كلّ حين. لكن ما يلوح مع الترويكا في تونس التي آلت إليها مقاليد السلطة عقب الثورة، أن أضعف الحلقات فيها وهي حلقة رجال الفكر، الشقّ الأكثر تهميشا وتحقيرا، جنب العاملين في الحقل الثقافي عامة.
ربما يحتاج الأمر إلى تأمل أنثروبولوجي عميق لفهم أحجية تهميش المفكر والمثقف، في الوعي السياسي المتنطّع. فمنذ اندلاع الثورة التونسية، دبّ في جل أرجاء البلاد العربية حراك اجتماعي، لم نشهد له مثيلا في التاريخ العربي الحديث، وقد هزّ هذا الحراك الشأن الديني بقوة. غير أن التعاطي مع الدين لا يزال محكوما بنُظُم وعيٍ قديمةٍ، أكان في تفسير نصوصه وتنزيل أحكامه، أو في إقحامه في الشأن المجتمعي بمستوييه السياسي والثقافي. فالإسلام الإحيائي الذي تبلور مع رواد النهضة الأوائل، أمثال خير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني، ثم في مرحلة لاحقة مع محمد عبده وعبدالعزيز الثعالبي، سعى إلى تضمين الإسلام بعدا حداثيا، ونزَعَ إلى تخليص الدين مما يلفه من قدامة. غير أن تلك الجذوة الحداثية خبَتْ، بعد أن اتخذ الحراك الإسلامي منعطفاً دعويا سياسيا مع حركة الإخوان المسلمين، فتقلّص ذلك العمق الفكري الذي ميز الإسلام الإحيائي في مستهلّ ظهوره.
هذا الشرخ الذي دبّ في الفكر الديني، أخرج المفكر والمثقف مبكّرا، من رهان التعويل عليه في عملية التحول الحضاري. فقد ورثت حركة الإخوان المسلمين، ومجمل التشكيلات المتفرعة عنها والمنتسبة إليها، مشرقا ومغربا، ذلك الميراث الإحيائي، دون تطويره. وعملت على احتكار إرث رموز الإسلام الإحيائي، لتزيد من شرعيتها، دون أن تعمل على إنتاج مفاهيم فكرية، أو تأخذ على عاتقها مهمة مصالَحة الإسلام مع العصر. كان إهمال الجانب النقدي والثقافي والمعرفي في أوساط الإسلام الحركي بيّناً، وإن حاول الاستعاضة عنه باستقطاب المهندسين والتقنيين والأطباء ومن شابههم، من خريجي العلوم الصحيحة، ليضفي طابعا حداثيا على كيانه. ربما من مخاطر الافتقار إلى فسيلة المفكر النقدي داخل الإسلام الحركي، تحوّل حشود غفيرة، مع مرور السنين، إلى كتل مسوقة بوعي قطيعي جمعي. لاسيما وأن الإسلام بات طرحا سياسيا سطحيا يفتقر إلى عمق معرفي تأصيلي، تلخصه المقولة القائلة “فكر الفقر وفقر الفكر”.
كانت آثار ذلك جلية في الصراع الطويل، الممتد طيلة النصف الثاني من القرن الفائت، بين الشقّ السياسي الإسلامي من جانب، والشقّ الحداثي العلماني من جانب آخر. ذلك المنزع اللاحداثي الذي ميز الإسلام السياسي غالبا ما ولّد تصادما مع طوائف المثقفين، والأمر عائد لافتقاد أرضية مشتركة بينهما. ونعني بالمكوَّن الحداثي ذلك المنزع العقلي الذي يصبغ النظر العام للدين، ويناصر ثقافة التحرر، ويتطلع إلى بناء فهم عقلاني مستنير.
لم يتشكل تيار واسع داخل الفكر الديني متصالح مع الحداثة. ولذلك كانت العقول الإسلامية التي آمنت بالقوة الجوهرية للموروث الديني، وتعاطت مع المنتوج الفكري الكوني بروح من التفاعل الرصين، على أساس الاستيعاب الواعي قليلةَ العدد. يأتي في مقدمة هؤلاء الفيلسوف محمد إقبال والشهيد علي شريعتي. ما كان فكر الآخر، الغرب منه بالأساس، يمثل خطرا داهما على الذات مع هذين الرجلين، بل إثراء لها. ولذلك رغم استيعاب كليهما المنتوج الفكري الغربي كانت الروح الإسلامية طافحة من مقوليهما.
الإسلام السياسي اليوم وهو يمتطي ظهر السلطة، في تونس ومصر، ويطوّقها من كل جانب في ليبيا، بات مشغولا بالسياسي المباشر، إلى حد فاقَمَ من غفلته عن المبادئ الجوهرية التي قام عليها الإسلام الإحيائي، والمتلخصة في البحث عن تفاعل الإسلام الدائم مع العصر. فهناك نقيصة ماثلة للعيان في المحور الإسلاموي الحالي الممتد من تونس إلى القاهرة مرورا بطرابلس، وهو الافتقار للمكون الحداثي.
الإسلام السياسي ربح السلطة، لكنه خسر نفسه، وإن لم يتدارك الأمر فسيتحول ذلك إلى خسران مبين. “وفي ذلكم بلاءٌ من ربّكم عظيم” (البقرة: 49).
{jathumbnail off}
Source : https://dinpresse.net/?p=1968