سعت الدكتورة مريم آيت أحمد، أستاذة التعليم العالي بجامعة ابن طفيل ورئيسة مركز إنماء للأبحاث والدراسات المستقبلية بالقنيطرة غرب المغرب، وخبيرة الإيسيكو في مجال الحوار بين الثقافات، في كتابها “جدلية الحوار”، بمنهج علمي رصين وأسلوب أدبي سلس، إلى ملامسة قضية الحوار بوصفه ظاهرة حضارية حيوية، والتطرق إلى شروطه وسياقاته وقواعد الاختلاف، فضلا عن طرحها لجدلية الحوار في الخطاب الإسلامي المعاصر.
ويتطرق الكتاب، الذي صدر حديثا في 160 صفحة، في مدخله بالتفصيل إلى قضايا الحوار، وفي فصوله الخمس: الأول يتطرق إلى البواعث الشرعية للحوار الديني في الإسلام، والثاني يؤسس لمقومات الحوار الديني في المنظور الإسلامي، والثالث حول الحرية الدينية كأساس لحقوق الإنسان، أما الرابع فيقترح قراءة في الخطاب الإسلامي المعاصر حول مسائل العلاقة مع الآخر، بينما يناقش الفصل الخامس والأخير سؤال الآخر في المشروع النهضوي الإسلامي.
خلط في العلاقة مع الآخر
ويقول المفكر الإسلامي المعروف الدكتور عبد المجيد النجار، في تقديمه للكتاب: ” أن صلة المسلمين بغيرهم صلة الأخوة في الإنسانية، وليست صلة عداوة إلا لمن سلك منهم مسلك الاعتداء، ولذلك جاءت أحكام الدين تحدد طرق التعامل بين المسلمين وغيرهم، وهي أحكام تنبني على المشترك بين بني الإنسان، فإذا ما كان الاعتداء وأصبحت العلاقة علاقة حرب فإن أحكاما أخرى تضبط هذا الوضع ولا تتركه مرسلا للشهوات.
واستطرد الدكتور عبد المجيد النجار بأنه نشبت في التاريخ قديمه وحديثه ملابسات كثيرة بين المسلمين وغيرهم، جرى فيها الواقع أحيانا بما لا يتماشى مع ضوابط الحوار وقواعده، وقد تكون الملابسات انتقلت أحيانا مما جرى بعد الواقع إلى ذات الأحكام فيما جرى به تقريرها من طرف بعض المتعاطين للشأن الشرعي ممن تستخفهم الظروف فتلفتهم عن الأصول، فحدث بعض الخلط الذي يجافي الحقيقة الشرعية، وهو الأمر الذي يكون له ظهور بارز في تلك المنعرجات التي يتعرض فيها المسلمون للاعتداء من لدن غيرهم.
وأفاد النجار أننا نشهد اليوم خلطا كبيرا في العلاقة الحوارية بين المسلمين “نحن” بغيرهم “الآخر”، وهو خلط يتطرف أحيانا ذات اليمين، فيذهب البعض إلى إزالة الفروق وطمس الهوية ليكون الناس جميعا متساوين في الانتماء الذي قد يسمى بالديانة الإنسانية، ويتطرف أحيانا أخرى ذات الشمال فيذهب البعض إلى الوقوف موقف العداء المبدئي لغير المسلمين معتدين كانوا أو غير معتدين.
وأبرز المفكر الإسلامي أن الحاجة إلى كتاب “جدلية الحوار” في هذا الظرف الراهن حاجة شديدة، بالنظر إلى اختلاط السبل على شق كبير من المسلمين في هذا الشأن، مما أدى فيه إلى نشأة ظواهر من الإفراط والتفريط، ولا يستقيم الأمر إلا بالعودة فيه إلى الأصول، عودة تردّ الشوارد في الأطراف إلى الوسط المحمود.
دواعي الحوار
وخلال الفصل الأول من كتابها، أكدت الدكتورة مريم أن الحديث عن البواعث الشرعية للحوار في الإسلام يفرض تحديد معنى الغيرية ومستوياتها كما حددها الإسلام، وتعني ضمنيا التعايش والتعارف مع احترام الفروق بالنسبة للأفراد شعوبا وقبائل وجنسيات ولغات وأدياناً على حد سواء.
وتسكن الغيرية، بحسب المؤلفة، في صميم جوهر الإنسان، وتنبع من هذا التدبير الكوني وتضرب بجذورها في أعماق الدين الإسلامي، لكن السؤال يظل قائما حول كيفية تحول المفاهيم والرؤى عن هذا المبدأ الإسلامي.
وبعد أن سردت الباحثة سياقات المستوى النظري للحوار، تابعت التفصيل في المستوى التطبيقي لمبدأ الحوار من خلال قصص الأنبياء وتاريخ الدعوة الإسلامية، وأيضا في السنة النبوية وردت العديد من التوجيهات التي ركزت مبادئ الحرية وأسست للمنهج التربوي والأخلاقي الذي سار عليه الصحابة الكرام.
بعد ذلك، تطرقت آيت أحمد إلى الأسس الإسلامية للحوار الديني، وإلى أهمية الحوار وأهدافه، باعتباره يؤسس للمعرفة المتبادلة العميقة التي تجعل النقد بناء بعيدا عن الإقصاء والإلغاء، ليكون بذلك الحوار والنقد متكاملين وغير متنافرين.
وخلصت المؤلفة إلى أن التعارف هو فعل معرفة وسلوك فكري حضاري متنوع، يقوم على أساس معيار الحقيقة كهدف شامل، يغني مسيرة الإنسان التاريخية والثقافية والحضارية من خلال عمق انفتاحها على النتاجات الفكرية وتفاعلها مع التجارب الحضارية الأخرى.
مقومات الحوار في الخطاب الإسلامي
وفي الفصل الثاني من الكتاب ذكرت مريم آيت أحمد أبرز هذه الأسس ومنها: الكرامة الإنسانية، ووحدة العنصر البشري، ووحدة الدين، والحرية والعدالة، وغيرها من المقومات.
وانتقل الكتاب إلى تحليل عناصر وشروط الحوار، وتنقسم إلى عناصر ذاتية من قبيل مؤهلات أطراف الحوار المعرفية، ومؤهلات أطراف الحوار النفسية والسلوكية. أما العناصر الموضوعية فتتمثل في تحرير مضامين الحوار وموضوعاته، وتحديد أسلوب الحوار، والعفو عن الهفوات، والمسامحة في الحقوق.
وعرجت الباحثة إلى أنواع الحوار السلبي، ومن ضمنها: الحوار العدمي التعجيزي، وحوار إثبات الذات، والحوار الازدواجي، والحوار السلطوي، والحوار السطحي، والحوار المعاكس، ثم حوار العدوان السلبي المُمثل في صمت العناد والتجاهل بين طرفي الحوار.
أما في الفصل الثالث “الحرية الدنية أساس حقوق الإنسان”، فقد أبرزت آيت أحمد مظاهر أدب الاختلاف في الإسلام من خلال عرض ملخصات عن الحرية الدينية في الفلسفة الهندوسية، وحقوق الإنسان في الفكر الديني اليهودي، والحرية الدينية وحقوق الإنسان في الفكر الديني المسيحي، ثم خلصت إلى ما يتميز به الإسلام في مجالي الحرية الدينية وحقوق الإنسان.
وبعد ذلك، تفرغت المؤلفة لمسألة موقف الإسلام من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، حيث إن الإسلام لم يتعامل مع غير المسلمين باعتبارهم أقليات منفصلة عن نسيج الأمة، وأن أهل الكتاب وفق دستور الصحيفة التي كانت ميثاقا حدد صيغة العلاقة بين المسلمين وغيرهم في المدينة المنورة، فإن أهل الكتاب كانت لهم حقوق المواطنة الكاملة يمارسون عبادتهم بكل حريتهم.
وبحسب الكتاب، فالإسلام كفل لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي بعيدا عن مفهوم المواطنة من الدرجة الثانية، حقوقا تمتعوا بها طوال التاريخ الإسلامي، وهي حقوق شملت صيانة وحماية أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، كما ضمنت لهم حرية العقيدة وممارسة الشعائر والشرائع في مجال الأحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق والنفقة والميراث.. إلخ. وقد تعامل فقهاء الإسلام مع أهل الذمة وأصّلوا لحدود الالتزام بمنهج القرآن في الدعوة إلى البر والقسط من خلال: تأمين الحماية من العدوان الخارجي، وأيضا تأمين الحماية الداخلية عبر حماية أبدانهم وأعراضهم وأموالهم..
التفاعل الحضاري
وبالنسبة للباحثة مريم آيت أحمد فإن عملية التفاعل مع الآخر الحضاري لا تعني الذوبان أو الانسلاخ من المدى الثقافي الأصيل، والانتقال أو القفز إلى المدى الثقافي المضاد والمهيمن والغالب، وإنما التفاعل يعني أنه ما من جسم حضاري إلا وله ركائزه ومقوماته ونقاط قوته، يحاول تعميمها ونشرها في ربوع العالم.
لذلك، كما جاء في الفصل الرابع من الكتاب، التفاعل لا يعني المماثلة وتقليده في ركائزه وأنماط معيشته، بل التفاعل هو عبارة عن حركية داخلية دينامية تجري في عروق المجتمع، وتمتلك الاستعداد النفسي الكافي لتكوين حالة تثاقف أو تفاعل مع الجانب الحضاري الآخر.
وتابعت المؤلفة لتكشف تناقضات وعلل الخطاب العربي إزاء الغرب، فالوعي السطحي بالغرب يجعل هذا الخطاب العربي يعيش دوما مرحلة الانفعال والدهشة بإنجازات الغرب وتقنيته المتطورة، مما يمنع عناصر الإبداع والتجدد في فكرنا الذاتي بفعل حالة الأسر والانبهار الفكري والنفسي. وفي الوقت ذاته، تعد نظرية القطعية وغلق الأبواب والنوافذ اتجاه الغرب نظرية طوباوية ولا نصيب لها من الواقعية الشرعية.
وطرحت الكاتبة سؤال العلاقة مع الآخر/ الغرب في الخطاب الإسلامي المعاصر، مشيرة إلى أن الغرب يكاد يكون عنصرا حاضرا في كل الخطابات الإسلامية منذ الغزو الاستعماري للعالم الإسلامي في القرن 19، وكانت الدراسات الإسلامية للظاهرة الغربية لم تتجاوز في أغلبها ثنائية الحكم، فالغرب إما طاهر مقدس وإما حقير مدنس.
وبالرغم من ذلك، لا يمكن نفي بعض المحاولات المبكرة في الفكر الإسلامي المعاصر التي حاولت أن تؤسس لخطاب علمي يتجه إلى البحث في عمق الظاهرة، واتجهت نحو دراسة التجربة الحضارية الغربية في خصائصها، ومدى إسهاماتها في الحضارة الإنسانية وآثارها عليها، مما أفرز توجهات ومؤسسات أكاديمية إسلامية كثيرة، تحاول أن تجعل من دراسة الغرب في حضارته وثقافته حقلا معرفيا قائم الذات.
وميزت الباحثة في كتابها بين الخطاب الإسلامي والعلاقة مع الآخر/ الغرب السياسي المتمثل في الاستعمار، وبين العلاقة مع الغرب/ العلمي، وأيضا العلاقة مع الغرب/ الثقافي كنمط حياة من خلال التمييز بين الحضارة كغاية والحضارة كوسيلة، ثم الغرب كوجه تبشيري يسعى لتحقيق أهداف دينية واستعمارية وسياسية.
العلاقة مع الذات
وفي الفصل الخامس والأخير من الكتاب، حاولت الدكتورة مريم آيت أحمد أن تجيب عن سؤال العلاقة التاريخية بين الداخل والخارج باعتبارها ليست وليدة أحداث تاريخية ماضية أو راهنة، وإنما تفاوتت في مستواها ليتشابك الماضي مع الحاضر الذي أضيفت له عناصر جديدة بحكم التغيرات العالمية.
ولمعرفة الآخر، ترى أستاذة الأديان المقارنة والفكر الإسلامي أنه ينبغي أولا البحث في العلاقة مع الذات، التي تعد بمثابة مقدمة ومدخل رئيسي لمعرفة سياق وماهية العلاقة مع الآخر، ومن ذلك الوعي بخطورة الشعور الانهزامي أي شعور المسلم في نفسه من إحساس بالدونية والضآلة بحكم المغلوبية الحضارية التي هو فيها، وأيضا الوعي السياسي، والوعي الثقافي، والوعي الحضاري، ثم الوعي الخلافي، والمقصود بهذا الأخير عدم وعي الفرد المسلم بمهمته في الحياة وغايته من الوجود، فغياب ذلك الوعي يجعله مكتفيا بما يكفيه من قدرة على الاستهلاك لحفظ الوجود، لا لخلافة الأرض وإعمارها..
وبعد أن تطرقت المؤلفة إلى تناقضات الواقع التي أفضت إلى نوع من التوتر والتعقيد في علاقة المسلم بالآخر، أفردت آيت أحمد فقرات بأكملها للمحور الخاص بعقبات الحوار مع الآخر على المستوى الداخلي للعالم الإسلامي، وأيضا لمحور الذات في رؤية الآخر خارج العالم الإسلامي.
المعرفة أساس الحوار
ولم يفت الباحثة الإشارة إلى المعرفة كأساس للعلاقة مع الآخر، مبرزة أن المعرفة بأبعادها المختلفة تحتاج إلى مشروع حضاري إسلامي قادر على إيصال مفاهيمها وأخلاقياتها إلى الآخر، ومضيفة أن غياب آلية للحوار مع الآخر غيبت المعرفة الصحيحة بالجانب الحضاري للمجتمع الإسلامي بماضيه وحاضره، وأعاقت المصالحة مع مستقبل العلاقة معه، واستبدلتها بمنطق الاحتواء والإملاء مما عمق الفجوة بين الإسلام والغرب، وساعد على تطرف مزدوج، أصبح اللقاء بسببه بالغ الصعوبة.
وشددت آيت أحمد على أن الإسهام المعرفي الذي نجده في البلاد الإسلامية اليوم هو لا شك حافز سردي نحو تراتبية فكرية تساند المجتمعات ثقافيا، ولكنها لا تستطيع أن تفعلها سياسيا بدون تحقيق قدر كاف من العلاقة الداخلية بين السلطة ورجال الفكر، مما يوحد ويقوي ويساند منطق الحوار في الداخل قبل التوجه نحو المجتمعات الخارجية.
وخلصت المؤلفة في هذا الفصل إلى أن المشروع الحضاري الإسلامي يجب أن يحدد رؤيته في مستقبل العلاقات بين الإسلام والغرب، مشيرة أن المقصود ليس هو الغرب المرتبط بالسياسة الأمريكية أو المواقف الأوروبية المشحونة ضد الإسلام وحضارته، وإنما بتفعيل العلاقة ومد جسور التعاون والتواصل مع الأصوات الأوروبية العاقلة التي هي أقرب جغرافيا ومعرفة بقضايانا ومصالحنا المشتركة، وذلك بأن يفتح لها المجال لتأخذ مكانها في خضم المناقشات الجارية حول حوار الحضارات والثقافات والأديان في عالمنا الإسلامي..
إن بناء المشروع الحضاري يتطلب، وفق المؤلفة، على المستوى المنهجي والمعرفي والسياسي الاستناد إلى معرفة وثيقة بقضايا ومشكلات الذات داخليا، وبالتطور التاريخي الحضاري للعالم العربي والإسلامي، وربط توازن مصالح علاقاته الدينية والثقافية والاقتصادية والسياسية بالنظام العالمي السائد من خلال مستويين رئيسيين: المستوى الداخلي/ الذات، والمستوى العالمي/ الآخر.
وجدير بالذكر أن الدكتورة مريم آيت أحمد ألفت العديد من الإصدارات والمقالات والأبحاث في مجلات علمية محكمة، وشاركت في العديد من المؤتمرات العلمية الدولية حول قضايا الإصلاح والتجديد في الفكر الإسلامي، كما أنها شاركت في تقرير التنمية العربي عام 2010.
وقد حازت الأكاديمية المغربية د مريم آيت احمد مؤخرا على جائزة الدوحة العالمية في حوار الأديان والثقافات لسنة 2013.
الصفحة الرسمية للدكتورة مريم أيت أحمد على الفيسبوك
{jathumbnail off}
المصدر : https://dinpresse.net/?p=1787