عرضت مؤخرا على المستشفى الإقليمي لمدينة اليوسفية حالتا انتحار في ليلة واحدة لسيدتين بدويتين عشرينيتين بدافع الخلافات الزوجية، أو بمعنى أوضح تحت ضغط السلوك السلطوي الاستبدادي الذي يعتبر أدنى التفاتة إنسانية إلى المرأة انكسارا وخنوعا وسقوطا مدويا إلى أقصى دركات “اللارجولة”، وهاتان الحالتان ليستا معزولتين، بل تمثلان ظاهرة ممتدة عبر ربوع جغرافيا مغرب الهامش.
محاولات الانتحار المتكررة التي نسمعها هنا وهناك عن نساء المغرب العميق بالضبط صفارة إنذار ونداء استغاثة لكل ضمير حي من أجل الالتفات إلى السم اليومي الذي يتجرعنه ولا يكدن يستسغنه لمرارته التي لا تطاق من لدن رجال سلطت وتسلط عليهم بدورهم كل أصناف الظلم والطغيان بدءا بالمدرسة التي حرموا من ولوج أبوابها، واكتفوا بالدندنة حول أسوارها بأنعامهم ودوابهم، ومرورا بظروف عملهم الكارثية في ورشات البناء وفي الحقول الزراعية التي تغتصب كرامتهم وتذيقهم الذل والمهانة، وانتهاء بابتزاز الإنسان “المتحضر” لهم كلما شدوا الرحال صوب إدارة من الإدارات، حتى إن حصولهم على عقد ازدياد قد يكلفهم أحيانا تقديم إتاوة قيمتها خمسون درهما، ليجدوا أنفسهم في نهاية المطاف مستنزفي “الرجولة”، ويبدؤوا رحلة البحث عما يملأ بطاريتها المفرغة عن الآخر، ولن يتأتى لهم ذلك إلا من خلال تسليط كل أصناف الإذلال والمهانة على نسائهم رغبة منهم في خلع قميص المظلوم المحتقر، والاستعاضة عنه بقميص الظالم المدثر بما يسميه مغربي الهامش “الراجل القاد بشغالاتو” الذي لا ترد زوجته كلمته، ولا تناقشه في اختياراته، وتفتح أحضانها لسبابه وشتمه بلا تضجر أو تأفف، وتتلقى صفعاته وركلاته تباعا وبانتظام بطريقة استعراضية حتى لا تنسى وضعها كقينة مملوكة، وحتى يرى الناظر “فحولته” ومنطقه الرجولي الراسخ الذي لا تأخذ منه الأيام.
أذكر أنني حدثت أحدهم عن واجب الإحسان إلى الزوجة، وذكرته بالحديث الشريف: “” ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم””، فانفجر ضاحكا مستهزئا من كلامي، ورد بصفاقة بأنه يحجز زوجته عن زيارة والديها المجاورين له، مفتخرا بقدرته على نجاحه في حصاره لها، وتحديه لما يسميه عادة التزاور في الأعياد الدينية والمناسبات العائلية.
للأسف الشديد مازال منطق الجاهلية الجهلاء الذي يشيطن المرأة ويجردها من إنسانيتها حاضرا بقوة عند إنسان الهامش المغربي، مستوحيا ومستلهما بيت قدوته الشعري:
إن النساء شياطين خلقن لنا…… نعود بالله من كيد الشياطين
إن المرأة في عرف هؤلاء الأبيسيين شيطان مبين، وبما أنها كذلك، فهي جديرة في نظرهم بالرجم المعنوي بشتى الكلمات الجارحة، والرجم المادي بكل ما أوتوا من قدرة على تصويب الضربات التي تزهق الروح إلى بارئها أحيانا، أو تخلف وراءها كسورا وتشوهات غاية في الفظاعة أحيانا أخرى، وهي جديرة بأن تتخذ عدوا مبينا أمام الآباء والأقارب، وجديرة بأن تصب على أذنيها اللعنات مع كل إشراقة شمس، ومع كل غروب على عين القريب والبعيد، وجديرة بألا ينصت لكلامها، وبألا تستشار في أمر خاص أو عام حتى لا تذهب بالزوج إلى جحيم خرق المألوف مع المخلفين من الرجال الذين رضوا بأن يكونوا طوع بنان زوجاتهم، وهي حرية بأن تستخدم في كل أعمال السخرة داخل البيت وخارجه، ليس كشريك حياة، وإنما كمستخدم موقوف الأجر، ومحكوم عليه بالأعمال الشاقة المؤبدة، حظه التنقيص والتقريع إذا أخطأ، والصد والإعراض والتنكر إذا نجح.
كل هذا وذاك يتوخى منه ابن الهامش أن يعصمه من وصف “ماشي راجل” الذي يرتبط في المخيلة البدوية بالخضوع للمرأة وذوبان الشخصية لمجرد معاملتها بالمعروف كإنسان كرمه الخالق عز وجل.
لقد آن الأوان للجمعيات النسائية أن تخرج من شرنقتها، وأن تنزل إلى أرض واقع المغرب العميق لتقف عن كثب على نكبة نساء قست عليهن الجغرافيا وتكالبت عليهن ظروف واقع قاس لا يرحم، فلم يجدن قلبا رحيما، ولا أذنا مصغية، ليبقى أمامهن خيار واحد ووحيد هو الارتماء في أحضان القبر بوضع حد لحياة هي في حد ذاتها موت وانتحار وغوص في غياهب اليأس والحرمان والشقاء وفقدان الأمل في غد أحسن وفق ما عبر عنه الشاعر:
ليس كل من مَاتَ فاستراح بِمَيْتٍ…. إنما المَيْتُ مَيِّتُ الأحياء
إنما المَيِّتُ من يعيش شقيــــــــــا…..كاسفا باله قليل الرجاء.
{jathumbnail off}
المصدر : https://dinpresse.net/?p=1781