مبحث النبوات هو ثاني مباحث علم التوحيد، بعد الإلهيات، وقد اعتنى علماء الاسلام بهذا المبحث عناية أبرزت صدق معتقدهم في مقام النبوة، ومقدار تعظيمهم لها، بيانا لما يجب في حقههم عليهم السلام وما يجوز وما يستحيل .
وشملت هذه العناية البحث في إمكان النبوة وضرورتها وحاجة الناس إليها، وإقامة الأدلة العقلية والنقلية على ثبوتها للأنبياء عموما، ولسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على الخصوص، وذلك في مقام الرد على المنكرين لها، والكلام على المعجزة بما هي طريق لاثبات النبوة وبيان خصائصها، والكلام على عصمة الأنبياء، إلى غير ذلك من المسائل، مما هو مسطر في مبحث النبوات من علم التوحيد، أو مما خص بمؤلفات مفردة في نوع من أنواع تلك المسائل.
هذه العناية وهذا البحث، يبرز في ذلك الكم الضخم من المصنفات والتآليف التي خلفها لنا علماء الاسلام ، في الذود عن حياض النبوة، إمتثالا لأوامر التعزير والتعزيز والتوقير والتعظيم، وتمثلا لمعاني الأسوة والاقتداء والاتباع . [ انظر كتاب معجم ما ألف عن رسول الله] تأليف صلاح الدين المنجد، والمصنفات المغربية في السيرة النبوية ومصنفوها الدكتور محمد يسف]
هذا وقد كان لعلماء الغرب الاسلامي في هذا أوفر نصيب، حيث جمعوا فيه بين السهم والتعصيب، فكتب الله لمصنفاتهم ماشاء من القبول، كيف لا وموضوعها دلائل النبوة وخصائص وحقوق الرسول.
فهذا كتاب “الشفا في بيان حقوق المصطفى” للقاضي عياض اليحصبي السبتي، والذي سارت بذكره الركبان، وملك من العلماء العقول والجنان، بما اشتمل عليه من سحر البيان في بيان حقوق المصطفى العدنان، صلَّى عليه الله ما تعاقب الملوان، تلقوه بالقبول، وعكفوا عليه بالدرس والتدريس، وخصوه بكراسيَ وتحبيس، وألفوا في إقرائه وختمه الكراريس، واهتموا به شرحا وتحشية،وتقريظا وتوشية .
وما كان تأليف القاضي لكتاب الشِّفا إلا لشفاء العيِّ السَّائل، في بيان حقوق المصطفى، وكَبْتًا لكل منتقص من قدره، أو مُغالٍ في وصفه، أو حاسد لفضله.
فلقد شفا كل الصدور شفاؤه وكتابه كُبِتَت به الحسداء
“ختم كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى” ، الحافظ ابن ناصر الدين القيسي الدمشقي، [ص : 41]
قال في مقدمته : ” فإنك كررت علي السؤال في مجموع يتضمن التعريف بقدر المصطفى عليه الصلاة والسلام، و ما يجب له من توقير و إكرام، و ما حكم من لم يوفِّ واجب عظيم ذلك القدر، أو قصَّر في حق منصبه الجليل قلامة ظفر، و أن أجمع لك ما لأسلافنا وأئمتنا في ذلك من مقال، و أبينه بتنزيل صور و أمثال .” [ الشفا في التعريف بحقوق المصطفى، للقاضي عياض اليحصبي السبتي، ج : 1 ص : 5/6 بتحقيق علي محمد البجاوي]
وقدمنا ذكر كتاب “الشفا” لبيان تعظيم قدر النبي لدى علماء الغرب الإسلامي، لشهرته، وجامعيته ومانعيته، ولكونه المتبادر إلى الذهن من التآليف، عند ذكر هذا المقام، وإلا فقد سبقه جلة من العلماء في التأليف في هذا الفن، ببيان لقدره عند ربه وتعظيما لشأنه، من جانبي الوجود والعدم، إثباتا للكمالات ونفيا للنقائص ، من هذه المصنفات على سبيل التمثيل لا الحصر :
– ” فضائل النبي صلى الله عليه وسلم” و” مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لعبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون بن جناهمة بن عباس بن مرداس السلمي ( تـ 239 هـ ). [ الديباج لابن فرحون بتحقيق مأمون بن محيي الدين الجنان ، ص : 252]
– “رسالة فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم” للامام محمد بن سحنون ( تـ 256 هـ ) ذكرها له ابن فرحون صاحب الديباج المذهب ضمن تآليفه. [ الديباج ، ص : 197]
– “تحقيق المذهب في أن النبي كتب” لسليمان القاضي أبو الوليد بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث الباجي ( تـ 494 هـ) [ طبع بتحقيق أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري عن عالم الكتب الرياض]
– “شفاء الصدور في أعلام نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وخصائصه” لأبي الربيع سليمان ابن سبع السبتي )تـ(520 هـ مقال “أقدم عالم مغربي وصلنا تراثه: أبو الربيع سليمان ابن سبع السبتي” [للعلامة سعيد اعراب مجلة دعوة الحق]
– المقسط في ذكر المعجزات وشروطها للقاضي أبي بكر بن العربي ت 543هـ ذكره مؤلفه بهذا العنوان في كتابه ( أحكام القرآن) [ أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي المعافري المالكي ج : 1،ص : 40 ]
– البشائر والأعلام لسياق ما لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات والمعجزات الباهرات والأعلام للحافظ الحسن بن علي ابن القطان ت 548هـ
– “شمائل النبي صلى الله عليه وسلم” سفران كبيران، لعلي بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن الضحاك الفزاري من أهل غرناطة يكنى أبا الحسن ويعرف بابن النفزي ( تـ 557 هـ ) [كتاب معجم ما ألف عن رسول الله > ، ص : 75 303 ]
– مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ” لعبد الرحمن السهيلي أبو القاسم ( تـ 581هـ ) صاحب ” الروض الأنف في شرح سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم” [ الديباج، ص، 246 ]
– “معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في سفر” لعبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حسين بن سعيد الأزدي أبو محمد الإشبيلي ويعرف بابن الخراط )ت581 هـ (
– “قصد السبيل في معرفة آيات الرسول صلى الله عليه وسلم” لأحمد بن عبد الصمد بن أبي عَبِيدة ( تـ 582هـ)
– “نظم في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم.” لعلي بن أحمد بن محمد بن يوسف الغساني )تـ 609هـ) [الديباج المذهب ص : 276 و 119 و302 ]
– الآيات البينات فيما في أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات لأبي الخطاب بن عمر بن حسن ابن دحية السبتي (ت 633هـ ) [طبع عن مكتبة العمرين العلمية بدراسة وتحقيق جمال عزون ]، وله أيضا: الابتهاج في المعراج، وهو مطبوع،تحدث فيه عن قصة الإسراء والمعراج، وله أيضا ” نهاية السول في خصائص الرسول “[طبع عن وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية بدولة قطر بتحقيق عبد الله عبد القادر الشيخ محمد نور الفادني ]
– أرجوزة في “أسماء النبي صلى الله عليه وسلم” لمحمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الشيخ الإمام أبو عبد الله الأنصاري الأندلسي القرطبي المفسر (تـ 671 هـ ) . وله ” الاعلام بمولد النبي عليه السلام ” ولشيخه أبي العباس القرطبي ( تـ656 هـ) ” الاعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ” [الديباج، ص : 406، وهو مطبوع بتحقيق أحمد حجازي السقا عن دار التراث العربي .]
والقائمة تطول، وفي ما ذكر الكفاية في التدليل على تعظيم قدر النبوة من خلال غزارة التأليف لدى علماء الغرب الاسلامي.
أما من حيث المسائل المبحوثة، فإنا نجد لهذا التعظيم أثرا في توجيه البحث العقدي في النبوات وما يتعلق بها، من ذلك :
توجيه النهي الوارد في التفضيل بين الأنبياء أو الجمع بين ما يوهم التعارض :
قال تعالى : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } [سورة البقرة الآية: 253 ]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” لا تخيروا بين الأنبياء ” [ أخرجه البخاري فتح الباري 5 / 70 ومسلم 4 / 1845من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه .] ، وقال ” لا تفضلوا بين أنبياء الله ” [أخرجه البخاري فتح الباري 6 / 450 – 451 ومسلم 4 / 1844 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ]
فظاهر الآية جواز التفضيل بين الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام , وأما الأحاديث ففيها النهي عن ذلك , وهذا يوهم خلاف الآية .
ذكر الامام القرطبي رحمه الله اختلاف العلماء في وجوه الجمع بين الآية والأحاديث، فقال : “وهذه آية مشكلة … وأحسن من هذا [ أي مما ذكر من الأقوال ] قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلا، ومنهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} [الإسراء: 55] وقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253].
قلت : وهذا قول حسن، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ،” [ أحكام القرآن القرطبي (3 / 261)]
أما شيخه أبو العباس القرطبي فقال في النهي عن إطلاق لفظ التفضيل بين الأنبياء، ” فأولى منه أن يحمل الحديث على ظاهره من منع إطلاق لفظ التفضيل بين الأنبياء، فلا يجوز في المعين فيهم، ولا غيرهم، ولايقال : فلان النبي أفضل من الأنبياء كلهم، ولا فلان، ولا خير كما هو ظاهر هذا النهي، لما ذكر من توهم النقص في المفضول، وإن كان غير معين، لأن النبوة خصلة واحدة لا تفاضل فيها ” [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس أحمد بن عمر بن ابراهيم القرطبي ج : 6 ص : 229 ]
وجمع ابن جزي رحمه الله بين الأحاديث التي توهم التعارض في المسألة أيضا عقب حديثه على آية التفضيل حيث اعتبر الآية، ” نص في التفضيل في الجملة من غير تعيين مفضول : كقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تخيروا بين الأنبياء » « ولا تفضلوني على يونس بن متى » فإنّ معناه النهي عن تعيين المفضول، لأنه تنقيص له، وذلك غيبة ممنوعة، وقد صرح صلى الله عليه وسلم بفضله على جميع الأنبياء بقوله : « أنا سيد ولد آدم » لا بفضله على واحد بعينه، فلا تعارض بين الحديثين” [التسهيل لعلوم التنزيل ، أبي القاسم ابن جزي الكلبي (1 / 132) ]
فهذا التوجيه والجمع بين الأحاديث والآيات، وإن كان خاضعا في عمومه لمنهج الجمع، فإن تعظيم مقام النبوة، هو المقصد والحكمة الكبرى من ذلك التوجيه .
تعظيم مقام النبوة وتوجيه البحث في عصمة الأنبياء:
لقد كان لتعظيم مقام النبوة أثر كبير في توجيه البحث في عصمة الأنبياء عليهم السلام، وما يتعلق بها من مسائل، حيث ذهب معظم علماء الغرب الإسلامي الى عصمة النبي عليه السلام من الكبائر والصغائر لا قبل البعثة ولا بعدها لاعمدا ولا سهوا، ، وقد ردوا على من أجاز عليهم بعض ذلك بتفصيلاته .
يقول الامام أبو بكر بن العربي، في معرض حديثه على قصة زيد بن حارثة ط ” فهذا محمد صلى الله عليه وسلم ما عصى قط ربه، لا في حال الجاهلية ولا بعدها، تكرمة من الله وتفضلا وجلالا، أحله به المحل الجليل الرفيع ….. فلم يقع قط لا في ذنب صغير حاشا لله ولا كبير، ولا وقع في أمر يتعلق به لأجله نقص، ولا تعيير .” [أحكام القرآن لابن العربي – (6 / 363) ]
أما تلميذه الامام القاضي عياض فقد لخص القول في العصمة في فصل في تنزيه النبي عما لا يجب أن يضاف إليه بقوله ” قد استبان لك أيها الناظر بما قررناه، ما هو الحق من عصمته صلى الله عليه و سلم عن الجهل با لله و صفاته، و كونه على حاله تنافي العلم بشيء من ذلك كله بعد النبوة عقلاً و اجماعاً، و قبلها سمعاً و نقلاً، و لا بشيء مما قرره من أمور الشرع، و أداه عن ربه من الوحي قطعاً عقلاً و شرعاً، و عصمته عن الكذب و خلف القول منذ نبأه الله و أرسله قصداً أو غير قصد، و استحالة ذلك عليه شرعاً و إجماعاً، و نظراً و برهاناً، و تنزيهه عنه قبل النبوة قطعاً، و تنزيهه عن الكبائر إجماعاً و عن الصغائر تحقيقاً، و عن استدامة السهو و الغفلة، و استمرار الغلط و النسيان عليه فيما شرعه للأمة، و عصمته في كل حالاته، من رضاً و غضب، و جد و مزح، فيجب عليك أن تتلقاه باليمين، و تشد عليه يد الضنين و تقدر هذه الفصول حق قدرها، و تعلم عظيم فائدتها و خطرها، فإن من يجهل ما يجب للنبي صلى الله عليه و سلم، أو يجوز له، أو يستحيل عليه، و لا يعرف صور أحكامه، لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه، و لا ينزهه عما لا يجب أن يضاف إليه ” [الشفا للقاضي عياض، ص : 221 ]
وهذا مذهب الامام المازري / (تـ 536 هـ ) “مذهبي أن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر قبل النبوة وبعدها والذي وقع من بعضهم شيء يشبه الصغيرة لا يقال فيه إلا أنه ترك الأفضل وذهب إلى الفاضل ” [عمدة القاري شرح صحيح البخاري – (26 / 236) ]
ومذهب ابن عطية/ ( ت : 546 هـ( أيضا حيث يقول،” وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ومن الكبائر و من الصغائر التي فيها رذيلة، و اختلف في غير ذلك من الصغائر، والذي أقول به أنهم معصومون من الجميع .” [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، لابن عطية الأندلسي ، 1/221 ]
وهذا الاعتقاد انما جاء بعد التحقيق في الأقوال و النقد للروايات، وجمع النصوص في المسألة، ونفي التعارض بينها إن وجد والترجيح حيث توجب، وتأويل ما يستحيل حمله على ظاهره، والوقوف مع الظواهر حيث وجب الوقوف وامتنع التأويل، وفق مناهج مخصوصة في التجريح والتعديل، والتصحيح والتضعيف للروايات، والرد والاستدلال على الأدلة ووجوهها، كل ذلك في فلك تعظيم النبوة، وتنزيه الأنبياء عما لا يليق بهم مما ينسبه إليهم ” إما غبي عن مقدارهم، وإما بدعي لا رأي له في برهم ووقارهم، فيدس تحت المقال المطلق الدواهي، ولا يراعي الأدلة ولا النواهي.” [ أحكام القرآن لابن العربي – (6 / 363) ]
وهو ما حدا العالم الى تأليف كتابه ” تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء ” فانه وضعه استجابة لبعض الطلبة – رفعا لما يتوهم في بعض الآيات الواردة في حق الأنبياء – بالقصد الأولي، وردا على ذوي الأغراض الفاسدة بالقصد الثاني، يقول / ” لما سلط الله على سادات المرسلين من غثاء الفرق المضلين من أوباش المعطلة الضالين وأراذل اليهود والنصارى ومقلدة المؤرخين والقصاص المجازفين الجاهلين بحقيقة النبوة وما يجوز على أنبياء الله تعالى وما يستحيل وما يجب على الكافة من تعزيرهم وتوقيرهم وتدقيق النظر في استخراج مناقبهم على أتم الكمال وأعمه فتراهم يتركون ما أوجب الله عليهم من التفقة في آي القرآن من توحيد بارئهم وتنزيهه عن النقائص ووصفه تعالى بما يجب له من صفات الكمال والجلال ووصف أنبيائه بالصدق والعصمة والتنزيه من الخطأ والخطل .” [تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء ،لابن خمير السبتي ، ص : 23/24 ]
ومما يتعلق بالبحث في العصمة، «قصة الغرانيق»، حيث ذهب جماهير علماء الأمة من المحدثين، ومن المحققين الذين جمعوا بين المعقول والمنقول إلى إنكار القصة، والجزم بوضعها واختلاقها، ومن أشهرهم القاضي أبي بكر بن العربي والقاضي عياض رحمهما الله .
فأبو بكر بن العربي رحمه الله قدر رد الأحاديث الواردة في القصة ووهنها وأضاف إلى ذلك البحث في الاستدلال على نفيها وبطلانها ، حيث أنه لما تعرض في أحكامه للآية «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم »[ سورة الحج / 22، الآية : 52 ] .تكلم على الآية في عشر مقامات وقال في المقام العاشر : ” هذه الآية نص في غرضنا، دليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه أنه قاله عندنا، وذلك أنه قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرته في أنبيائه أنهم إذا قالوا عن الله قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه …. فأما المشركون والذين في قلوبهم مرض لقلة البصيرة وفساد السريرة فتلوها عن النبي صلى الله عليه وسلم ونسبوها بجهلهم إليه، حتى سجدوا معه اعتقادا أنه معهم، وعلم الذين أوتوا العلم والإيمان أن القرآن حق من عند الله فيؤمنون به، ويرفضون غيره، وتجيب قلوبهم إلى الحق، وتنفر عن الباطل ؛ وكل ذلك ابتلاء من الله ومحنة .” [ أحكام القرآن لابن العربي ، ص : 5/440 ]
وأما القاضي عياض رحمه الله فتكلم على الحديث الذي وردت فيه القصة من وجهين : وذلك بقوله ” اعلم ـ أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين :
أحدهما : في توهين أصله، و الثاني على تسليمه.
أما المأخذ الأول : فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، و لا رواه ثقة بسند سليم متصل، و إنما أولع به و بمثله المفسرون و المؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح و سقيم …. هذا توهينه من طريق النقل فأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة، و أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه و سلم و نزاهته عن مثل هذه الرذيلة….فالذي يجب اعتقاده تنزيه النبي أن يقع خبره في شيء من ذلك بخلاف مخبره، لا عمداً و لا سهواً و لا غلطاً، و أنه معصوم من ذلك في حال رضاه و في سخطه، و جده و مزحه و صحته و مرضه …. و أما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح ، و قد أعاذنا الله من صحته ، و لكن على كل حال فقد أجاب على ذلك أئمة المسلمين بأجوبة ، منها الغث و السمين .” [الشفا ، ص : 357 ]
وقد صنف الامام أبو عبد الله محمد بنُ العباس ابنِ محمد بنِ عيسى العبادي الشهير بـ “ابن العباس.”
( تـ871هـ) “العروة الوثقى في تنزيه الأنبياء عن فرية الإلقا.” في كراريس [انظر ترجمته : في البستان، ص: 299، وفي نيل الابتهاج، ص: 547 ] ، الأمر الذي يدل على أن المسألة كانت مثارة في الأوساط العلمية ، مما استدعى الأمر تصنيف هذا المؤلف للرد على من ينسب للنبي مثل هذه الفرية .
الاتفاق على أن أسماء النبي توقيفية:
اتفق العلماء على أن أسماء النبي توقيفية ، إذ لا يجوز أن نسميه إلا بما سمى به نفسه أو سماه به الله عز وجل ، وذلك تعظيما لمقام النبي وتنزيها له عن أن يسمى باسم أو يوصف بوصف لا يليق بمقامه الكريم ، قال الامام الزرقاني في شرحه على الموطأ عقب حديث باب أسماء النبي، ” حكى الغزالي الاتفاق [ أي على التوقيف ] وأقره غيره على منع تسميته باسم لم يسمه به أبوه ولا سمى به نفسه يعني ولو دل على صفة كمال ولا يرِد على الاتفاق وجود الخلاف في أسماء الله تعالى لأن صفات الكمال ثابة لله عز وجل والنبي إنما يطلق عليه صفات الكمال اللائقة به بالبشر فلو جازت تسميته بما لم يرده لربما وصف بأوصاف لا تليق إلا بالله تعالى دونه على سبيل الغفلة فيقع الواصف في محظور وهو لا يشعر هذا ” [شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني (4 / 556) ]
وذكر الباجوري في تحفة المريد ان ” الراجح أنها توقيفية ، والفرق بينهما أنه > بشر ، فربما تسوهل في شانه فأطلق عليه ما يليق ، فسُدَّت الذريعة باتفاق .” [تحفة المريد للشيخ ابراهيم البيجوري شرح جوهرة التوحيد للعلامة برهان الدين ابراهيم اللقاني ص : 43 ]
ولما كان الأمر بالنسبة لأسمائه > توقيفا ، فإن علماء الغرب الاسلامي قد عملوا على جمع أسمائه في مصنفات مستقلة ، أومفردة بباب في شمائله ودلائل نبوته ، وفي منظومات وأراجيز .وهي على كثرتها عمل إحصائي الغاية منه الرد والمنع للأسماء التي لم يرد بها السمع ، قال الامام القرطبي ” وقد تتبع القاضي أبو الفضل عياض في كتابه المسمى (بالشفا) ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومما نقل في الكتب المتقدمة… ” [ أحكام القرآن القرطبي (14 / 200) ]
وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه عقب قوله تعالى : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } ، من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم سبعة وستين اسما.
قائلا : ” إن الله سبحانه وتعالى خطط النبي صلى الله عليه وسلم بخططه ، وعدد له أسماءه ، والشيء إذا عظم قدره عظمت أسماؤه ، قال بعض الصوفية : لله تعالى ألف اسم ، وللنبي ألف اسم ، فأما أسماء الله فهذا العدد حقير فيها ، { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } ، وأما أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فلم أحصها إلا من جهة الورود الظاهر لصيغة الأسماء البينة ، فوعيت منها جملة ، الحاضر الآن منها سبعة وستون “[ أحكام القرآن لابن العربي – (6 / 370) ]
مقام النبوة وتوجيه أحكام اللغة:
من ذلك قول الناظم في جوهرة التوحيد :
محمَّدِ العاقبِ لرسل ربه وآله وصحبه وحزبه
حيث عقب الشارح البيجوري على البيت بشرح يبرُز فيه التأدب والتوقير والتعظيم للذات النبوية ، قال: ” قوله : ( محمد ) بحذف تنوينه للوزن كتسكين باء ( العاقب ) ويجوز في اللفظ الشريف أوجه الاعراب الثلاثة : الرفع على انه خبر لمبتدأ محذوف ، أي وهو محمدٌ ، وهذا هو الأولى من جهة التعظيم ، ليكون الاسم الشريف مرفوعا وعمدة كما أن مدلوله مرفوع الرتبة وعمدة الخلق .” [ تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد ، ص : 41 ، ومثل هذا التأدب نجده بكثرة عند شراح المتون العلمية ، وانظر حاشية الأخضري على شرح المكودي لألفية بن مالك عقب البيت الأول : يقول محمد هو ابن مالك ومثل هذا التعظيم نجده عند اأصحاب التراجم في مخالفتهم لمنهج الترجمة بالبدأ بمن إسمه محمد . ]
إن الحديث عن مظاهر وملامح تعظيم مقام النبوة لدى علماء الغرب الاسلامي ، بحر خضم ، لأن هذا التعظيم ملك منهم الخواطر والأفكار ، وحكم منهجهم في البحث والتصنيف ووضع الأسفار ، وكذا في النقد والرد على المنتقصين من قدر النبوة الأشرار ،والمغالين في حقه > وإن كانوا من الأخيار.
فكانت نصرتهم للنبي مستمرة مدى حياتهم، سائلين الله بما صنفوه وألفوه ان يكون في ميزان حسناتهم ، واستمرت هذه النصرة بعد وفاتهم ، بما خلفوا من تراث ما أحوجنا اليوم على إعادة إحيائه بحثا ودراسة وتحقيقا ، ثم إعتقادا وإقتداءا وتطبيقا ، ذلك أن ” شرف النبوة وكمال المنصب ثابت للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين الآن ، حسب ماكان ثابتا لهم في حال الحياة ، لم ينثلم ولم ينتقص ، سواء نسخت شرائعهم او لم تنسخ ، ومن راجع نفسه ولم يغالط حسه عرف وتحقق أن النبي > الآن لم يخاطب شفاها ، ولايأمرهم ولا يكلمهم بغير واسطة ، لكن شريعته وصحة نبوته ثابت لم ينتقض ، لآجل خروجه من الدنيا ، ولم تزل مرتبته ، ولا انخرمت رسالته ولا بطلت معجزته ، فاعلم ذلك وتحققه .” [الانصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ، القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني ص : 61]
والحمد لله رب العالمين
Source : https://dinpresse.net/?p=1681