يطلع علينا، بين الحين والآخر، الصوت الإسلامي السلفي، المتعدد والمتفاوت النبرات، بشعارات تحمل “بريقا” خاصا؛ بريقا نابعا من بساطة هذه الشعارات من جهة، وموافقتها الظاهرة ليوتوبيا الوجدان الديني من جهة ثانية، مع ما في هذه الشعارات من مصادرات وتسطيحات قائمة على إعدام أسئلة أساسية تاريخية وتيولوجية ومعرفية، هي لا محالة آتية “ألغامها” حين ننتقل من الشعار إلى “الأجرأة”، ومن “التجييش” إلى “التفكير”؛ ومن النظر المتسرع إلى النظر المؤسس على جدلية النظر والممارسة. من ذلك إطلاقهم لشعار”الإسلام وكفى”، وهو الشعار الذي يحمل في نظرنا سؤالا أساسا مسكوتا عنه هو التالي: ماذا نعني هنا بـ”الإسلام” الذي “سنكتفي” به دون سواه!؟
إن القوم، المُتبنِّينَ لهذا الشعار، يشيرون بإطلاقه إلى زهدهم في المذاهب والاجتهادات الفقهية والعقدية والسلوكية، و”اكتفائهم” بالنهل المباشر من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة؛ ومن ثم “تحررهم” من مختلف التصنيفات والمعارف والوسائط التي يحدد بها “المسلمون” انتماءاتهم العقدية والفقهية والسلوكية، وهذا ما يطرح علينا فيضا من الأسئلة والاستفهامات هذا غيض منها:
كيف نتواصل مع النصين التأسيسين للإسلام دون وسائط تاريخية ومعرفية؟ هل نسيَ أصحاب هذا الشعار أنه تفصلنا أكثر من أربعة عشر قرنا عن الأحداث و”أسباب النزول” و”أسباب الورود” والسياقات المخصوصة التي أوحي فيها الخطاب القرآني وتبلورت في نسقها التاريخي السنة النبوية!؟ وهي معطيات لابد منها لمعرفة “خصوص السبب” من أجل الفهم قبل الأخذ بـ”عموم اللفظ”!؟ ألا يدرك أهل هذا الشعار أن ما أنشأه المسلمون من معارف وعلوم منذ عصر التدوين في القرن الثاني للهجرة، كانت الغاية منه تقعيد المعارف التي من شأنها تمكين المسلمين من تجاوز الإشكالات التي يطرحها التاريخ؛ والملابسات التي أفرزتها صيرورة الأحداث منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى “الخلافة الراشدة” فنشوء “الملك العضد”، وتشكل إمبراطورية إسلامية متعددة الأعراق واللغات والثقافات والذاكرات والعادات؛ دوائر وانتماءات كان دخولها “لملة الإسلام” إيذانا بتفاعلات ظاهرة وباطنه بين الإسلام، كما تبلور في عهوده الأولى، وبين مسارات تأطيره واستيعابه لمجمل هذه الثقافات والذاكرات، مع ما تخلل ذلك من صراعات ونزاعات على السلطة السياسية وعلى فهم الحقيقة الدينية والاستئثار بها؟؟، لقد تحمل العلماء عبءا كبيرا من أجل بناء أنساق عقدية وفقهية وسلوكية قادرة على استيعاب التحولات المشار إلى بعضها، ومن ثم الإجابة عن احتياجات وأسئلة جديدة طرحت على المسلمين في التاريخ وعبر تطور مجالهم الجغرافي والثقافي ومسارهم السياسي والحضاري. من هنا بُدو المخاتلة في شعار “الإسلام وكفى” بالمعنى المشار إليه أعلاه.
فهل يعي أصحاب هذا الشعار أن هذه الدعوة “المخاتلة” للاكتفاء بالقرآن والسنة الصحيحة، هي بحد ذاتها مبنية أساسا على تأصيلات علماء الأصول، منذ العمل التأصيلي للإمام الشافعي في “رسالته” الشهيرة؟ وهل يعون أن هذا العودة مقرونة أساسا بالرجوع إلى “التفاسير” المختلفة ومتون الأحاديث الصحيحة؛ وكلاهما يقتضي مرجعيات وسيطة للمفسرين واللغويين وعلماء “أسباب النزول” و”الناسخ والمنسوخ” وغيرهما من “علوم القرآن”، فضلا عن كتب “الصحاح” في الحديث، هذا مع إنكارهم التام وتجاهلهم المطبق لما يناظر هذه المرجعيات في الجناح الشيعي.. إلخ؟؟ أليس في ذلك اختيارا وموقفا وتوجها يكشف عن انتماء وفهم ووساطة علماء مذهب معين… إلخ؛ ومن ثم ما جدوى شعار “الإسلام وكفى” سوى التضليل والمخاتلة… ؟؟. أليس الأخذ بالعلوم السالفة والإجازة فيها مبنيين على “الإسناد”، وهو معتمد المذاهب المختلفة؟؟
إن الخطر كل الخطر أن يكون المقصودُ بهذا الشعار فهما معينا لأصحابه يطابقون بينه وبين “الإسلام الحق”؛ ومن ثم نكون إزاء مصادرة لحقوق الآخرين في الفهم؛ ونكون إزاء إعادة إنتاج منطق الاستبعاد والاستئصال المتبادل باسم الحقيقة والفرقة الناجية، وهو المنطق الذي أراق، وما زال يريق، دماء بريئة للمسلمين باسم “الإسلام الحق” ضد ما يُنظر إليه “مروقا” و”ضلالا”.
نعم لـ”الإسلام وكفى”، ولكن بمعنى الإسلام الواحد الذي يقبل ويستوعب تعدد الفهم ويقبل بتنوع الثقافات، ويرسخ الإطار العام للقيم الدينية الكونية التي يقوم عليها من توحيد وعدل ومساواة ومنظومة أخلاق ناظمة للحق في السعادة. فهذا الشعار، كما هو مستعمل اليوم، “مخاتل” لكون ينفي الوسائط ويتبناها؛ يرفض التعدد باسم اتجاه أوحد ويزعم التماهي مع الحق مع أن الاختلاف واقع لا يرتفع؛ فكثير من هؤلاء يرفضون المذاهب الفقهية مثلا باسم “الاكتفاء بالإسلام”؛ لأنهم يصدرون عن قصور سحيق في فهم التعدد الذي لا يرونه إلا تفرقة، فيما هم يكرسون فهما حرفيا أحاديا وفقيرا معرفيا للنصوص الدينية، متوهمين استغناءهم عن اجتهادات علماء الأمة بتوهمهم النهل المباشر منها؛ في حين تحتاج هذه الدعوى إلى إعادة “صوغ الوسائل”، إذ لا مناص في كل فهم من وسائل الفهم في العقيدة والتاريخ واللغة والتحقيق والمنطق.. فأي معرفة يمتلكها أصحاب هذه الدعوى لصياغة فهم بديل للإسلام ينتشل النصين التأسيسين في ركامات وترسبات وطبقات الفهم والتأويلات والاجتهادات والتحقيقات التي شملتهما على مدى أربعة عشر قرنا؛ وكيف يميزون بين “الإسلام” وبين “التراث البشري” المتمحور حوله؟ ووفق أي معيار سيعتبرون ما ينهلون إليه “إسلاما” وليس وجها جديدا من التراث المذكور!؟
يؤسف كثيرا أن هؤلاء بطروحاتهم هذه يعيدون إنتاج نفس الانزلاقات في الفهم القائم على التعصب الفكري والتماهي مع الحقيقة المطلقة، وهو ما يعتبر مقدمة كل عنف رمزي أو مادي أو دموي؛ وهو فهم يروم أن يمارس السلطة ويستقوي بها ولا يمكنه أبدا أن يصل إلى الحقيقة لأنه يعصف وينسف طريقها الوحيد، وهو المعرفة؛ وهذه الأخرى تقتضي التواضع أمام العلم الإلهي الأصلي، والذي كان يعبر العلماء عنه بصيغة “الله أعلم”، أي أن كلامهم لا يعدو أن يكون حصيلة ما أداهم إليه اجتهادهم البشري، فيما تبقى الحقيقة المطلقة في علم الله سبحانه. لذا، نقول نعم لـ”الإسلام” ، لكن بالعلم والمعرفة، سواء منها معارف وعلوم أجدادنا واجتهاداتهم بعد دراستها وتمحيصها وتمييز ما هو أسطوري وتاريخي فيها مما معرفي وعلمي قابل لكي يكون مكتسبا نهائيا أو على الأقل مكتسبا متواصلا للعقل البشري، أو ما يمكن فهمه بـ”العلوم الدقيقة” من معارف تضيء كثيرا من المجالات والأسئلة التي عجز أسلافنا عن فهمها، لا لقصور فيهم، بل لأن النظام المعرفي لزمانهم لم يكن ليسمح لهم بالتفكير فيها، فسقف المعرفة البشرية كان دونها.
ولعل من علامات هذا السقف الإقرار العلمي بالاختلاف في الفهم، لكن مع عدم القدرة على تفسيره بغيره تُهم “الضلال” و”الفسق” و”الكفر”… إلخ؛ ذلك أن المعرفة البشرية في زمانهم لم تكن قد وصلت إلى الشك في مُنتَجات الوعي، أو الإيمان بتعدد الحقيقة في ذاتها، لأنها لم تكن تربطه بإكراهات وموجهات ومحددات لها على الوعي تأثير وسلطان. وهو أدركه العقل المعاصر مما حوله إلى باحث دائم عن تطوير آلياته في الفهم، وجعله يمارس نقدا مستمرا لمُنْتجَاته حتى يميز فيها، بشكل مستمر، بين الإيديولوجي والإبسميولوجي، بين التاريخي والمعرفي، بين ما قد يكون نتاج نزوة وهوى ضامرين؛ وبين ما هو نتاج علم ومعرفة مجردين… إلخ، إنها علاقة جدلية نقدية بين منتجات العقل وأدواته. وهذا لم يكن ممكنا التفكير فيه في الأزمنة السابقة.
إن شعار “الإسلام وكفى”، بالمعنى الذي ننتقده وبمخاتلاته المذكورة، يعيد إنتاج نفس الانزلاق الخطير الذي وقع فيه العقل الديني خلال القرون الوسطى في الجهة الغربية، إننا بهذا الفهم السقيم والمنغلق نعيد إنتاج أسبابَ التحارب الديني في ثقافتنا المعاصرة، دون أن نعي أننا بفهم آخر أكثر وعيا بالتاريخ وبرهانات المعرفة في آننا المعاصر، نستطيع أن نجعل من الإسلام أفقا كونيا لمستقبل أرقى للعالمين. ذاك ما يحتاج إلى إصغاء آخر لبذور مستقبل أرقى كامنٍ في الرحمة المحمدية العالمية.
{jathumbnail off}
المصدر : https://dinpresse.net/?p=1639