حين القول بهذا قد يأت من يظن- بادي الرأي- بأنّ فيه معنىً من معاني تهوين الاعتبار التشريعي للسنةِ، وهو باب بالضرورةِ يفضي إلى ردِّ السنّة بالجملة. (وليس لأحد أن يزاد على حبنا للسنة وصاحبها).
إلا أنّ الأمر ليس كذلك مطلقاً، وذلك أن ما سأكتبه -اجتهاداً- لا يعدو أن يكون بكل حالاته سوى اشتغالٍ تأصليٍّ، من شأنه أن يمضي بالتشريع القرآني إلى ما هو أهله، وذلك في ظلّ فهوم لم تتمكن بعد من التخلّص من حساسيةِ التمييز المعتبر-شرعا- فيما بين الحكم الذي تكفل الله تعالى بالإبانةِ عنه بـ: «القرآن»، وبين الحكم الذي أناب الله تعالى فيه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الإبانةِ عنه. ولا يمكن أن يفهم من هذا تنحية: «السنة» وحاشاني ذلك. إذ هي وحيّ أوتيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع القرآن، غير أن للقرآن مكانة لا يمكن أن ترقى إليها: «السنة» تشريعاً ومن ثم حكماً والتزاماً. وأحسب أنّ رعاية هذا الفهم حق الرعاية، من حيث الإفاضة في بسطه وتجليته، سيكونُ له النفع الكبير في حلّ إشكالاتٍ كثيرة، لعلّ أظهرها ما نشهده في باب: «الفتيا» و: «مراعاة الخلاف»
ويمكن أن نتبيّن هذا بصورة أوضح من خلال ما يلي:
القرآن وحده الذي تكفّل بأصل التشريع لأصول الدين في: بابي الاعتقاد أو العمل، بحيث لم يترك للسنةِ إلا ما كان من قبيل البيان والتفصيل -قولا أو فعلا أو تقريرا- وهذا أمره ظاهر ومبسوط فيما كان من السنة من حيث الإفاضة في توضيح الهيئات وبيان الكيفيات.. فضلا عما كان من التوكيد على ما جاء به القرآن فيما كان للأخير وحده: «أصل التشريع» به ابتداءً، وذلك ما يمكن رصده في شأن الإيمان بالله واليوم الآخر- أركان الإيمان الستة- وقل مثل ذلك في شأن: أركان الإسلام الخمسة من الفروض والواجبات..، وكذا شأن المحرمات من: الربا والخمر والميسر والزنا وأكل الميتة ولحم الخنزير وما ذبح على النصب و.. و.. من المحرمات القطعية ورودا في القرآن.
ينظر في سبيل استيعاب ذلك الآيات: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) وفي المحرمات: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) و(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ..) و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ..) وهكذا هي مثيلاتها من الآيات في باب أصول العقيدة (أركان الإيمان الستة) إلى غير ذلك من أصول الواجبات والمحرمات في الدين، ما يفهم منه تنصيصا بأن الله تعالى أنزل كتابه وأراد منه أن يكونَ أصل التشريع الأول دون أن ينازعه في مهمته تلك شيءٌ (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) أي من أصول التشريع وكليات الأحكام – وهو قول اعتنى به المحققون من المفسرين- وإذن.. فلا حكم شرعي في الاعتقاد والعمل إلا وأصله التشريعي في القرآن.
ويجب ها هنا الاحتراز من الفهم المغلوط الذي قد يظن معه صاحب هذا الفهم بأن بعضاً من أصول الدين التشريعية قد أهملت قصداً من القرآن لتتولى السنة تشريعها! وحسبنا أنّه فهمٌ لا يستقيم مطلقاً لمن كانت لديه آثارةٌ من علم شرعيٍّ، وذلك أنّه فهمٌ يخالف مرادات الشارع فيما ابتغاه من السنة، ويناقض قصده في متواليات التشريع ترتيبا. إذ الأمر في شأن: «السنة» يأتي كما قرره الأصوليون لها من مهام التفصيل والإبانة لتلك الأصول (التشريعية التي تولّاها القرآن ابتداءً) من الواجبات والمحرمات كما في هذه النصوص :»صلوا كما رأيتموني أصلي» – وحديث المسيء صلاته.. وتبيين مقادير الزكاة وأنصبتها وبسط كيفية الصيام والحج وبقية الأحكام أتت على مثل «أيها الناس خذو عني مناسككم»
ومثل هذا كثير وما سقته يأتي على نحو من التمثيل ليس إلا.
لعل في كل ما سبق ما ثمَّ جديدٌ فيه، وما احسبني قد قلتُ إلا معادا، وكتب الأصول وهي الطافحة بهذا التقرير هي من قد قامت بكلّ هذا الجهد العلمي الاستفصالي وأزيد، وذلك ظاهر لمن كان منكم يقرأ بعينه نثار المسائل ويحرر بعقله حيثيات تكييفها لا أن يتوسل في سبيل ذلك عيون الآخرين وعقولهم. وعلى أيّ حالٍ.. فإن ما يمكن أن يكون فيه شيء من جدّةٍ أو جديد فيما أطرحه لدى بعضهم هو ما سأوجزه بالتالي:
إن أي استقراء تام- من خبير- لأصول الشريعة وفروعها يمكن أن ينتهي بصاحبه إلى القول: بأن القرآن لم يترك للسنة من التشريع إلا ما كان بمنزلة: «الفروع والجزئيات» لا :»الأصول والكليات» وعليه: فالسنة إنما تأتي نصوصها من باب تأكيد التشريع لا تأسيسا له. ولئن ظُنّ بادي الرأي بأنّ ثمة نصا -من السنة- قد أتى بوصفه تأسيسا لحكم شرعيّ أوليٍّ كليٍّ وليس فرعيّاً، فلا بد وأن تجد له في كتاب الله أصله الأول على اعتبار هذا الأخير هو من قد أنيط به – من لدن الله تعالى- تقرير الكليات والأصول كما تم توكيده بأول المقالة..
وعليه.. فقد يسوغ القول: بأن ما تفردت السنة بتشريعه تأسيساً سيان أكان من الوجبات أو من المحرمات فإنه عند التأمل -لمن كانت له خبرة بنصوص الشارع- لن يكون هذا- الذي تفردّت به السنة – من الأصول ولا من الكليات، وإنما هو من قبيل: الفروع والجزئيات، وذلك بالنسبة إلى ما ورد في القرآن من التشريع، ما جعل السنة تأتي في مرتبة ثانيةٍ، ولعل في هذا استنطاقا لما كتبه قبلا: «الشافعي». ولما كان يلمح إليه كثيرا: «الشاطبي» في تقسيمه للضرورات والحاجيات والتحسينات.
وبالجملة، فإن الفقه في حيثيات هذه المسألة نافع بالمرة في أبواب: الفتيا وومراعاة الخلاف والتعامل مع النوازل إذ يصح – فيما أحسب – الجزم بأن ما جاء في السنة من حيث الإيجاب والتحريم لا يجب أن يتعامل معه كما هو الإيجاب والتحريم مما يأتي به: «القرآن» وإنما يكون بدرجة أقل عزيمة، وحسبنا فقهاً أن: «السنة» بعامةٍ إنما تأتي بدرجة ثانية بالنسبة إلى ما أوجبه الله أو حرمه بآياتِ كتابه الكريم.
ومن ابتغى فقها لدينه فحريٌّ به وعي هذه القاعدة وتدارسها تالياً وبتجرّدٍ عما وجد عليه آباءه.
ومن مؤكدات الفقه لهذه القاعدة النظر -البصير- إلى ما قد حفلت به: «المقاصد الشرعية» إذ إن شأن الضرورات والحاجيات ما ثم شيء منها إلا وأمره مما قد تكفّل به القرآن، في حين كانت: «السنة» أكثر اضطلاعاً بما كان في المقاصد من أمر التحسينات.
ولعل إدراكاً فاقهاً لهذه القاعدة أن يمنحنا الجزم بأن الغالب من المناهي التي جاءت السنة بتقريرها -وبخاصةِ فيما ساغ فيه الاختلاف وشاع – بمعنى: أكان النهي فيها تحريما أم كراهة تنزيه أم …. أم .. أقول: لعل في استصحاب هذه القاعدة ما يتحقق به الحسم لمادة النزاع، إذ يمضي بالتحريم إلى الكراهة كحال: «أحاديث الشرب قائما» أما ما رتب عليه الشارع من عقوبة دنيوية أو أخروية فالنظر الدقيق للنص يأخذك إلى أن ثمة شيئا آخر قصد -في التحريم- غير ذلك الفعل بمعنى أن التحريم اكتسابه من غيره لا بذاته مثاله: «الإسبال» فلا بد إذن للحرمة في مسألة الإسبال من ارتفاق الخيلاء مع التلبس بالفعل – كما نص عليه- والذي يفضي إلى الكبر والأصل في تحريمِ هذا قرآنا… ومثل هذا كثير.
المسألة تدفعنا إلى ما هو أبعد من ذلك غير أن المساحة تفرض علينا التوقف هاهنا..
وثمة عودة أخرى لمثل هذه المباحث ولعل من أخطرها مبحث: «هل السنة تستقل بالتشريع»؟!
{jathumbnail off}
المصدر : https://dinpresse.net/?p=1611