فإذا عدنا إلى ما بعد الاستقلال مباشرة، نجد أن السلطات الاستعمارية عملت على قطع كل صلة تجمع بين المغاربة السبتيين والمليليين وبلدهم الأصلي المغرب، وكانت أول مبادرة هي حذف الأسماء العائلية، حتى لا يظل النسب حجة تدل على ما يربطهم بأصولهم، لتقوم مقامها الأسماء الثلاثية، ثم تحت غطاء التعليم والأعمال الخيرية، التي كانت تقوم بها راهبات قصد تلقين الديانة المسيحية لبنات المسلمين، كما أنشأت مدارس للأيتام والفقراء لنفس الغرض، فحاولت تغيير أسماء الصغار المسلمين بأسماء مسيحية بمجرد ولوجهم هذه المدارس.
وبعد فشل هذه الخطة، انتقلت السلطات الاستعمارية إلى طرد المغاربة الأصليين من مدينتهم أفرادا وجماعات، وتطبيق قانون جديد ينظم وجود الأجانب بإسبانيا مقحمة السكان المغاربة الأصليين في المدينتين السليبتين، قصد ضياع هوية مغربية المدينتين، وانسلاخ أبنائها عن مغربيتهم وعن مقوماتهم الثقافية والوطنية والدينية، أملا في ذوبانهم داخل مجتمع بعيد عن أصالتهم العربية والإسلامية.
ولم تسلم أيضا الآثار ذات الطابع الإسلامي بالمدينتين من الإجرام، حيث قامت السلطات الاستعمارية بمحوها من الوجود مستعملة لذلك الآلات الجارفة لهدمها وإتلاف محتوياتها ساعية إلى إلباس المدينتين العريقتين حلة أوربية تتلاءم وطبيعة محتليهما، وحاليا هناك مؤامرة تحاك من أجل فصل المدينتين عن المغرب من الناحية الدينية .
ومن أجل تحقيق ذلك، تصدت السلطات الاستعمارية لكل ما يتصل بلغة الدين والقرآن الكريم، فرحبت الحكومة الإستعمارية بمقترح ترسيم الدارجة والأماريغية كلغتين ثانيتين بعد اللغة الإسبانية في المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية، ورفضت مشروع ترسيم اللغة العربية كلغة ثانية في المدينتين، رغم أنه تم تقديم طلب في الموضوع للبرلمان الإسباني، واعتبر تجاهل مشروع اللغة العربية، وإقرار الاعتراف بالأمازيغية وإدماجها ضمن المنظومة التربوية في مدارس مليلية المحتلة، على حساب اللغة العربية، تشجيعا لمطلب الحكم الذاتي في الريف.
وفي السياق ذاته تعمد البرلمان الإسباني أن لا يناقش مشروع القرار الذي قدمته جمعيات سبتة ومليلية بخصوص الاعتراف باللغة العربية، في حين ذكرت وسائل الإعلام الإسبانية، أن استجابة الدولة الإسبانية لمطلب الجمعيات والمنظمات الإسلامية بالمدينتين السليبتين، بتدريس التربية الإسلامية وما تبعه من تعيين مجموعة من الأساتذة المختصين في الدراسات الإسلامية في المدارس، جر وراءه معارضة شديدة من قبل أعضاء فرع حزب اليسار الموحد بسبتة، الذين رفضوا قرار الحكومة بإدراج مادة التربية الإسلامية ضمن المقررات التعليمية، معتبرين ذلك الإجراء نوعا من الرضوخ لمطالب المنظمات والجمعيات الإسلامية بالمدينتين المحتلتين، وطالبوا حكومتهم المركزية بالتراجع الفوري عن هذا القرار، وإبقاء الدين بعيدا عن المدارس، أما تدريس الأمازيغية فلم يقابل بأي اعتراض من قبل الأحزاب الإسبانية.
بعد كل المحاولات المباشرة الفاشلة من طرف السلطات الإسبانية لإبعاد المسلمين بالمدينتين المحتلتين عما يربطهم بالمغرب من علاقات دينية وثقافة وتقاليد بالإضافة إلى الروابط العائلية، بدأت تتبلور لديها فكرة طمس هذه الروابط بخلق سلاح داخل المجتمع المدني الإسلامي بالمدينتين، فسخرت بعض الأفراد تزعموا عملية فك الارتباط الديني بين مسلمي المدينتين والمغرب، هذا الارتباط الذي ظل قائما بين سكان المدينتين ووطنهم قرونا متعددة، لتبقى الحكومة الإسبانية في صفوف المتفرجين على مكائدها ضد السكان وبلدهم الأصلي، ليصبح الشأن الديني بين أيدي جماعات استطاعت أن تسيطر على بعض المساجد، تحت غطاء الدعوة والأعمال الخيرية، أبرزها جماعة “الدعوة والتبليغ” وهي جماعة إسلامية، تعمل تحت رعاية السلطات الإسبانية .
ولم تقتصر مكائد الحكومة الإسبانية فقط على سكان المدينتين المحتلتين، بل طالت كذلك المسلمين القاطنين بإسبانيا، حيث تحاول السلطات الاسبانية منع المغرب من الإشراف على المسار الديني هناك وتأطير الجالية المغربية التي تفوق المليون مواطن، عبر جمعيات إسلامية، مما وصفته إسبانيا بالتدخل في شؤونها، وجعلها تحسب له ألف حساب، محاولة بشتى الوسائل قطع الطريق أمام المغرب وعرقلة ما يصبو إليه، وتمادت أكثر لما سيطرت على الفيدرالية الإسبانية للهيئات الدينية الإسلامية ومساعدة جمعيات إسلامية محسوبة على جماعة العدل والإحسان للسيطرة على إدارتها وتسييرها.
والجدير بالذكر أنه لم يتم السيطرة على الفيدرالية وتغيير رئيسها السابق بغيره لتطوير الشأن الديني بإسبانيا، وإنما لكي يظل الشأن الديني تحت سيطرة الإدارة الإسبانية عن طريق مراقبة تحركات الرئيس الجديد المنتمي لجماعة العدل والإحسان، وتوجيهه حسب هواها، وخلق ما يسمى بالإسلام الإسباني.
وفي خضم كل هذه المعارك الباردة بين ثلة من السكان والإدارة المستعمرة، تُـطرح أسئلة كثيرة في أفق الارتطامات التي يتصدى لها المسلمون الخاضعون لقوانين إسبانيا الجائرة، ما مصلحة سكوت الحكومة الحالية بالمغرب عن هذه المشاكل، ولِـم يتم التعتيم حول هذه القضية كلما أتيحت الفرصة لفتح ملفاتها؟ هل الغاية من هذا التجاهل الإبقاء على الصداقة التي تجمع بين رئيسي الحكومتين بإسبانيا والمغرب؟ وهل ستكون السنوات المتبقية من حكم الحزب الحاكم حاليا بالمغرب تمديدا لسنين مضت من التهميش والتنكيل والإبعاد لجزء من شعب المغرب؟.
قد تتنافى إسبانيا وما تدعيه من ديمقراطية واحترام لحقوق الإنسان، وضمان حقوق الأقليات الموجودة تحت إدارتها الفعلية، لأنها ربما لم تشْفَ من عقليتها الاستعمارية القديمة، أو لكونها مصابة بما يسمى “الرهاب الإسلامي” وكل ما يتعلق بالإسلام خصوصا المنحدر من المغرب، الدولة الأقرب إلى ضفافها والتي تذكرها بماض زحفت جيوش الإسلام إليها عبره، لكن كيف يفسَّـر نكوص الحكومات المتعاقبة على الحكم بالمغرب، في البت في هذا المشكل، وعدم اعترافها أو تجاهلها القدرات والامتيازات التي حققها هذا البلد، وأن باستطاعته الوقوف في وجه كل معتد على أجزائه وشعبه؟، وكم ستعول على قوة تحمل الساكنة المضطهدة في دينها وحريتها أمام تعسفات ومغريات البلد المستعمر؟، رغم ما تظهره هذه الساكنة من استماتة في الحفاظ على مكتسباتها الوطنية والدينية بما في ذلك تشبثها بهويتها المغربية.
{jathumbnail off}
المصدر : https://dinpresse.net/?p=993