د. عبدالله القيسي
من يتأمل الروايات الواردة في صيام عاشوراء يلاحظ بوضوح تضاربًا يصعب التوفيق بينه؛ فهل هو يوم نجاة موسى من فرعون كما في روايات موافقة اليهود، حين صامه النبي صلى الله عليه وسلم إقرارًا لما وجد عليه أهل المدينة من صيامه؟ أم أنه كان يومًا تصومه قريش في الجاهلية من بقايا ملة إبراهيم، فواصل النبي صيامه في مكة والمدينة حتى نُسخ بفرض رمضان؟ اختلاف هذه الروايات يثير تساؤلات جدية حول أصل الصيام وسببه، مما يدعو إلى التمحيص والتدقيق في ثبوتها.
عند المقارنة والتمحيص لروايات عاشوراء، تظهر لنا العلل التالية:
1- هناك تباين واضح في سبب الصيام وبدايته: فالروايات المنسوبة للفريق الأول من الصحابة (عائشة وابن عمر وابن مسعود وجابر)، تروي أن صيام عاشوراء كان معروفًا في الجاهلية، وكانت قريش تصومه، وكان يومًا تُكسى فيه الكعبة. فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ صيامه، وأمر به حتى فُرض صيام رمضان، فخيّر الناس بعد ذلك في صيامه أو تركه. وتصرح بعض هذه الروايات بأن النبي ترك صيامه لاحقًا.
أما روايات الفريق الثاني، (ابن عباس وأبي موسى)، فتُرجع سبب صيام عاشوراء إلى حادثة وقعت عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، إذ رأى اليهود يصومونه، فسألهم عن سبب صيامهم، فقالوا: إنه يوم صالح، نجّى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى شكرًا. فقال النبي: “أنا أحق بموسى منكم”، فصامه وأمر بصيامه. وتشير هذه الروايات إلى أن صيام عاشوراء لم يكن معروفًا قبل الهجرة، وأنه شُرع حينها لأول مرة، بدليل أن النبي أرسل من ينادي في الناس: من كان قد أكل فليُتم، ومن لم يأكل فليصم.
2- ومن العلل الظاهرة أيضًا في روايات الفريق الثاني أنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لئن عشتُ إلى قابل لأصومن التاسع”، ثم يُروى أنه توفي قبل أن يصومه، مما يوهم بأنه توفي في العام التالي مباشرة، أي في السنة الثانية للهجرة، وهذا خطأ بيّن يخالف ما هو متفق عليه من أن وفاته كانت في السنة العاشرة للهجرة.
وإذا قيل إن النبي بدأ صيام عاشوراء في السنة التاسعة، وقع ذلك في تناقض صريح، إذ تفيد الروايات أنه صامه أول ما قدم المدينة، فهل يُعقل أن يكون قد قدمها في السنة التاسعة؟!
ثم كيف يُقال إنه اكتشف صيام اليهود له بعد تسع سنين من مجاورتهم، مع أن اليهود أُجلوا من المدينة وما حولها قبل ذلك، بما فيهم يهود خيبر؟
3- ومن العلل أيضًا ما ورد في إحدى الروايات من أن أهل خيبر كانوا يصومون يوم عاشوراء ويتخذونه عيدًا، ويُلبسون نساءهم فيه الحلي والزينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فصوموه أنتم». وهذه الرواية تخالف روايات أخرى ذكرت أن النبي صامه أول ما قدم المدينة، لا خيبر، مما يثير إشكالًا حول مصدر معرفة النبي بهذا الصوم: فهل أخذه من يهود المدينة أم من يهود خيبر؟ وإذا كان من خيبر، فكيف خفي عليه طوال فترة وجوده في المدينة، التي سكنها اليهود وعاش بينهم؟
4- ومن العلل كذلك ما يظهر من تناقض رواية قتادة – التي انفرد بها مسلم دون البخاري – والتي تذكر أن صيام عاشوراء يكفّر ذنوب سنةٍ ماضية، مع روايات أخرى تُظهر أن بعض الصحابة لم يكونوا يصومونه، كابن عمر الذي كان لا يصومه إلا إن وافق صيامه، وابن مسعود الذي أنكر صيامه أصلاً، كما في رواية مسلم. فهل خفي هذا الفضل العظيم عليهما؟
وهذا يتعارض أيضاً مع الروايات التي جعلت صيامه أمراً اختيارياً، فإذا به يتحول فجأة إلى عبادة عظيمة تُكفَّر بها السيئات، فأين كان هذا الفضل حين خُيّر الناس بين الصيام والفطر؟
وتزداد العلة وضوحاً في رواية معاوية، إذ رُوي عنه أنه خطب في الناس وقال: سمع النبي يقول إن عاشوراء لم يُفرض صيامه، فمن شاء صامه ومن شاء تركه. فلو كان فيه هذا الفضل العظيم، لنبّههم عليه لا أن يكتفي بذكر التخيير.
ثم إن في روايته إشكالاً آخر، فهو يقول: “سمعت النبي”، مع أنه لم يُسلم إلا بعد فتح مكة، أي بعد أن طُرد أغلب اليهود من المدينة، فمتى سمعه؟ وكيف يسأل أهل المدينة عن حكم صيام عاشوراء – كما ورد في بعض الروايات – وكأنهم يجهلونه؟
كل هذا يعزز وجود اضطراب واضح في الروايات، ويضع علامات استفهام حول صحتها.
كان ما سبق عرضًا موجزًا لأبرز العلل والتناقضات التي تكتنف روايات فضل صيام يوم عاشوراء، ومعلوم أن وجود مثل هذه الاضطرابات في السند أو المتن يضعف الثقة بالروايات، ويضعنا أمام احتمالين:
إما أن بعض تلك الروايات قد اختُلق وأُضيف لاحقًا،
أو أن جميعها من الوضع الذي تسرب إلى المدونة الحديثية.
– وإذا رجحنا الاحتمال الأول، فإن روايات الفريق الأول – التي تنسب صيام عاشوراء إلى ما قبل الإسلام – تبدو أقرب إلى القبول، إذ تخبر بأن قريش كانت تصومه، وأن النبي واصل صيامه حتى فرض رمضان، ثم خيّر الناس في صيامه أو تركه، كما جاء عن ابن عمر وابن مسعود.
أما روايات الفريق الثاني – التي نسبت صيامه إلى تقليد لليهود في المدينة – فتظهر فيها تناقضات أشد، ومخارجها التأويلية أضعف، مما يرجح كونها الأبعد عن الأصل.
– وإن رجحنا الخيار الثاني، وهو أن جميع هذه الروايات مختلقة، يبرز حينها سؤال جوهري: من الذي وضعها؟ وما الغاية من اختلاقها؟
وهل يمكن أن تكون قد تسربت من الثقافة اليهودية عبر الروايات الإسرائيلية؟
خصوصًا وأن أغلب روايات الفريق الثاني جاءت عن ابن عباس، وهو من صغار الصحابة المعروفين بكثرة مجالستهم لكعب الأحبار وغيره من الداخلين إلى الإسلام من أهل الكتاب، ما يجعل احتمال التأثر بالمرويات الإسرائيلية وارداً بقوة.
إن التداخل الثقافي بين اليهود والمسلمين في صدر الإسلام، خاصة في المدينة، قد يكون سببًا في شيوع بعض القصص ذات الطابع التوراتي في ثوب إسلامي.
– ويُطرح في هذا السياق سؤال مهم آخر: هل كان للصراع السياسي بين التيارين الأموي والعلوي (الطالبيين) دور في صناعة الروايات المتعلقة بعاشوراء وتعظيم هذا اليوم؟
وعليه، فإن من المحتمل أن يكون تعظيم يوم عاشوراء في بعض المرويات، نتاج تفاعلات سياسية ومذهبية أكثر منها دينية خالصة. وهذا يجعل من الضروري النظر النقدي في نشأة هذه الروايات وظروف تداولها، وربطها بالسياقات التاريخية التي أحاطت بها.
رابط صفحة الكاتب على فيسبوك: https://www.facebook.com/Abdullahalqaisi43