ذ. عبد الله لعماري
ما فعله فينا أحمد الحاو المعتقل السياسي الإسلامي السابق من خلال كتابه: “عائد من المشرحة”، أنه نكأ جراحاتنا وقلب مواجعنا، وعرى عن وصمات العار في تاريخ الحركة الإسلامية بالمغرب، أو بالتدقيق في تاريخ بعض من خلعوا على أنفسهم صفة القيادة والتأسيس والزعامة لهذه الحركة، وأشربوا لأجيالها اللاحقين وللملاحظين من حواليها هذا التزييف وذلك الادعاء والانتحال، في ظل الصمت الذي أطبق على صفوف المؤسسين الأصلاء والفاعلين الحقيقيين الشرفاء، الذين ألجأتهم تربيتهم المبدئية إلى نبذ التباهي والترائي فاستنكفوا أن يحولوا أرصدتهم الدعوية والكفاحية إلى حساب جار من المغانم والمكاسب والوجاهات، والتي أصبحت هي الغلال التي ينتجها الحقل الديني في الزمن الراهن، أو في ظل السكون الذي أجبر عليه من تكالب عليهم قمع سنوات الرصاص وسجونها، وحرب الإقصاء والإبعاد والصد الضروس من قبل المستحوذين على إرث هذه الحركة الإسلامية وتركتها، من بعد تغييبهم القسري بالقمع والمطاردة والاعتقال.
منذ ذلك اليوم الأشأم في تاريخنا، يوم 18 دجنبر1975، يوم الجريمة الشنعاء، ظل دم عمر بن جلون يطاردنا بضراوة، ويصرخ في الزمن ملء السماء والأرض: أن قتلتني الشبيبة الإسلامية ومن سخرها لذلك، وظللنا نحن الشبيبة الإسلامية نصرخ ملء أوداجنا ومهجنا، قادة وقواعد، أننا أبرياء من ذلك، وأن في الأمر دس واختراق وإيقاع، بالرغم من كون المجموعة المنفذة هي من إحدى خلايانا في الشبيبة الإسلامية، ولكننا كنا في مجالسنا يوما بيوم بل ساعة بساعة نستنكر ما وقع ونتبرأ مما وقع، ونتبرأ من الذين تورطوا فيما وقع، وأرسينا لذلك ثقافة وخطا أيديولوجيا نتداوله ونتواصى به ونؤصله في خلواتنا ومجامعنا، أن الجريمة مؤامرة علينا وتستهدفنا نحن قبل أن تستهدف اليسار، بل وكنا نعدد في هذه المجالس بعض محامد وخصال عمر بن جلون، بما يستبعد في نفوسنا أي مأخذ عليه يستدعي حقدا أو قدحا، ما سوى الخصومة الفكرية السياسية مع اليسار في مجراه الشامل.
ومنذ دجنبر 1975 وإلى غاية شتنبر 1980 ونحن نمارس هذا الاستنكار وذلك التبرؤ، دفاعا عن الشبيبة الإسلامية، بالتوزيع السري والعلني للمناشير في الشوارع والمساجد والثانويات والجامعات، ونلصق الملصقات واللافتات ونكتب على الجدران، وكان في ذلك نشاطنا الميداني السري البديع، الذي ينضاف إلى نشاطنا الحركي التنظيمي المشبوب، إلى أن جاء يوم مشؤوم آخر لا يقل شؤما عن يوم الجريمة.
فعلى إثر صدور الأحكام في قضية اغتيال عمر بن جلون، والحكم بالإدانة على عبد الكريم مطيع رئيس جمعية الشبيبة الإسلامية، مع الحكم بالبراءة لفائدة المرحوم ابراهيم كمال مرشدها الروحي، قررنا ليلتها نحن قياديي الشبيبة الإسلامية في تلك الفترة، استنكار هذه الأحكام لأنها مدينة لحركتنا في شخص قيادتها، وذلك عبر تنظيم وقفة احتجاجية أمام المحكمة مصدرة الأحكام، محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، بعد الخروج من صلاة الجمعة بالمسجد المحمدي المحاذي.
لكن حصلت المفاجأة التي لم تكن مقررة، وحصلت بالشكل الذي يندى به الجبين عارا ومعرة واشمئزازا ولا زال يندى، فقد خرج على الجموع المحتجة، شخص غريب عن هذه الجموع من قواعد الشبيبة الإسلامية، هو عبد الإله ابن كيران، فلم يكن معروفا وقتها سوى في تنظيم الحركة بالرباط، وعند قياديي الشبيبة بشكل عام.
قال ابن كيران في كلمة مدوية بح منها صوته: من أجل قتل كلب أجرب كان يسب الله ورسوله يحكم على خيرة شباب الأمة بالإعدام والسجن المؤبد.
ولسوء حظه، بل ولسوء حظنا نحن مسؤولي الشبيبة الإسلامية زمنئذ، أن حفظ الجميع تلك الكلمة لكثرة ترديدها بالاستهجان والاستنكار والاستقباح، فقد أنكرت علينا قواعد التنظيم واحتجت لدينا بضراوة على هذا الكلام الشارد على ثقافتنا والشاذ عن خطنا الإيديولوجي الدعائي والدفاعي في موقفنا من جريمة الاغتيال، والذي أهدرنا من أجله عمرا من خمس سنوات طوال من الدعاية والتوضيح والدفاع عن براءة حركتنا، والسجال المرير مع قوى اليسار التي كان يصعب إقناعها كي تحيد عن لمزنا وقدحنا بالتورط في هذا الاغتيال.
هكذا إذن، ينعت الشهيد عمر بن جلون، وبصوت ظاهر من صلب صفوفنا أنه كلب أجرب، وكان يسب لله ورسوله، بما يضع القائل ويضعنا معه في ورطة أن في صفوفنا من يتبنى هذه الجريمة القذرة، بل إن هذا الكلام النشاز قد حمل على الاعتقاد بأن في أوساطنا، من يرى مشروعية وشرعية للفعل المدان ويستنكر على القضاء حكمه في القتلة بالإعدام والمؤبد، باعتبارهم خيرة شباب الأمة.
والحال والواقع الذي نقبنا فيه وجردناه جردا في أدبيات عمر في كلماته وتصريحاته ونقاشاته وكتاباته أنه لم يتهجم قط على الدين بالمساس بقدسية الله وحرمة الرسول، كما هي عقيدة الشعب، فلم تكن قضيته هي الدين، ولكن قضيته الكبرى هي النضال من أجل الديموقراطية الحقيقية التي تحرر الشعوب، وفي صلب ذلك كان يتصدى للاستغلال السياسي للدين في تطويع الشعوب كما مارسته في التاريخ السياسي الإسلامي وتمارسه في الحاضر أنظمة ودول وحكومات، ومن مرجعيته الاشتراكية وتأويله السياسي كان لا يرى الحركات الدينية سوى صدى ونتاجا لهذه الدول والأنظمة، يتم توظيفها كي تشرعن تكريس الاستغلال.
بل إن عمر بن جلون لم يسقط من حسابه ما كان يراه مشرقا وتحرريا في تاريخ الإسلام السياسي، ومنه ما كان يثيره باستمرار في نموذج الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، بل وأكثر من ذلك مما لا يعرفه إلا قلة من الرواد الأوائل للحركة الإسلامية أنه فتح نقاشا وعرضا مع المؤسسين الإسلاميين ذوي الماضي الاتحادي، أن تأخذ الحركة الإسلامية الناشئة موقعها ضمن الاتحاد كجناح إسلامي، كي تضم إليها القيادات الاتحادية ذات التوجه الإسلامي من أمثال المرحوم الدكتور عبد اللطيف بن جلون، والمرحوم المقاوم الحبيب الفرقاني، إذ قبل أسبوع من اغتياله، استضاف المرحوم الوديع الأسفي في بيته، خلال جلسة عشاء، الأقطاب الثلاثة المرحوم عمر بن جلون والمرحوم ابراهيم كمال وعبد الكريم مطيع، لمناقشة العرض الجدي لعمر بفتح مجال الاتحاد أمام المكون الإسلامي، وهو ما كان يظهر الاهتمام الجاد لعمر بالظاهرة الإسلامية.
في تلك الجمعة من شتنبر 1980، كانت الكلمة الهوجاء الصادرة عن بنكيران أمام جماهير الشبيبة الإسلامية صادمة لوعينا وجارحة لكبرياءنا الثوري التطهري ومربكة لحسابات الثقة في صفنا الداخلي.
وكان بإمكان هذه الكلمة أن تذروها الرياح، وتذوب في سراب النسيان الذي يبتلع الكلام التافه، لو قدر لصاحبها أن تصرفه مجاري الزوال والانسحاب من مسرح أحداث الحركة الإسلامية، ولكنه وبعد سنوات منها سيتصدر واجهة الحركة الإسلامية كواحد من قادتها، بعد أن هب إعصار الاعتقالات، وبعد سنوات أيضا سيصبح واحدا من القادة السياسيين في البلاد.
والحال كذلك، فإن تصدر الواجهة العامة للفعل السياسي تفرض على الفاعلين مبادرة جادة للتصالح مع الذات ومع التاريخ بتطهير تطوعي وذاتي لصحائف هذا التاريخ من شوائب الماضي، وفي تقاليد الفعل السياسي لا تصح هذه المصالحة إلا بالاعتذار العلني المسموع والراسخ الذي يعيد الاعتبار ويرد المظالم.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14292