واقعُ الكتاتيب القرآنية في مغرب اليوم..!!

ذ محمد جناي
2021-09-16T09:05:48+01:00
دراسات وبحوث
ذ محمد جناي16 سبتمبر 2021آخر تحديث : الخميس 16 سبتمبر 2021 - 9:05 صباحًا
واقعُ الكتاتيب القرآنية في مغرب اليوم..!!

ذ. محمد جناي
عملت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية خلال الموسم الدراسي 2020/2019 على إحصاء جميع الكتاتيب القرآنية بجميع عمالات وأقاليم المملكة، حيث بلغ عدد الكتاتيب القرآنية 10496 كتابا قرآنيا، 91,17% منها توجد داخل المساجد أو ملحقة بها في حين 8,65% فقط توجد خارج المساجد، تتمركز نسبة مرتفعة من الكتاتيب القرآنية بالوسط القروي (79 ,62%)، ونجد 44,30% من معلمي القرآن الكريم يعتمدون الوسائل التقليدية (اللوح ومتعلقاته) في طريقة التحفيظ، 14,14 % فقط يعتمدون الوسائل العصرية، في حين 41,56% يجمعون بين الوسائل التقليدية والعصرية.

تعد الكتاتيب القرآنية بمثابة المدارس الابتدائية في عصرنا الحاضر، ولعبت دورا كبيرا في الحفاظ على اللغة العربية من الاندثار، حيث نجد الأطفال يتعلمون فيها القراءة والكتابة والقراءة الصحيحة للقرآن الكريم، كما يتلقون في هذه الكتاتيب تعاليم الدين الأساسية، فيتعرفون على أركان الإسلام ومعنى الإيمان، ويتعلمون كيفية الوضوء والصلاة، إضافة إلى ذلك يستمعون فيها لجملة من مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه الكرام.

فالكتاتيب: هي جمع لكلمة كُتَّاب، تلك الكلمة التي تطلق على مكان أو فضاء واسع يكون بجوار المسجد غالبا، يشرف عليه في الغالب إمام المسجد وإننا إذا ما رجعنا إلى تاريخنا الإسلامي نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان المعلم الأول لأصحابه، يحثهم على طلب العلم ويقرئهم القرآن الكريم، ثم كان يقرئ بعضهم بعضا، ويحث كل واحد منهم على تعلم القراءة والكتابة، بل إنه صلى الله عليه وسلم جعل التعليم مساويا للحرية، حيث جعل فداء بعض أسرى بدر ممن لا مال لهم أن يعلم الواحد منهم عشرة من الغلمان الكتابة فيخلى سبيله، فكان ممن تعلم منهم زيد بن ثابت رضي الله عنه، وكانت هذه الحادثة نقطة نشوء الكتاتيب في التاريخ الإسلامي، وقد استمر نظام تعليم القراءة والكتابة بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الراشدون من بعده، و روي عن عبد الله بن سعيد بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعلم الناس الكتابة بالمدينة، وكان كاتبا محسنا.

وقد استمر التعليم بالكتاتيب مدى الأزمنة والعصور في كل المجتمعات الإسلامية خاصة في البوادي والقرى، فهذه الكتاتيب مع بساطتها وضيق مساحتها في الغالب إلا أن لها دورا مهما في محو الأمية وربط الأطفال بكتاب الله، وتنوير عقولهم وصقل ألسنتهم منذ الصغر، وممن اشتهروا في تاريخنا الإسلامي بالتعليم في الكتاتيب التابعي المقرئ أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي وقيس بن سعد، وعطاء بن رباح والكميت الشاعر، وعبد الحميد كاتب بني أمية، والإمام الزهري والأعمش والحجاج بن يوسف الثقفي، وأسد بن الفرات فاتح صقلية، وغيرهم كثير، ومنهم من كان يعلم الصبيان أول النهار والبنات في آخره.

كان التعلم في الكتاب يأخذ معظم نهار الطالب من بعد صلاة الفجر إلى صلاة الظهر أو العصر عدا يوم الجمعة غالبا، وتختلف طريقة التعليم من كتاب إلى آخر حسب بيئة الملقن ومستوى ثقافته، حيث يجلس الفقيه المعلم على الأرض مواجها طلابه، ويتجمع التلاميذ المبتدئون على مسافة قريبة من الفقيه المعلم، ويقوم مساعد له من الطلبة المتميزين بإرشادهم، وغالبا ما يعتمد التحفيظ على وسائل معروفة من ألواح خشبية وأقلام.

أول ما يبدأ به الطالب في الكتاب هو تعلم الحروف والكتابة والقراءة عن طريق الفقيه أو عن طريق مساعديه، ثم يلقنه الفقيه القرآن الكريم إلى أن يتعلم ويصبح ماهرا يكتب لوحه بيده، ويلزمهم الفقيه المعلم باستظهار القديم قبل الجديد من المحفوظ، ولا يسمح بالخطأ فيه، فإن أخطأ يكلفه بإعادته مرات ومرات حتى يستظهره، وقد يعاقبه إن أخطأ.

كانت عقوبات الفقيه المعلم نظاما متعارفا في الكتاتيب، ولكنها قد تكون قاسية في بعض الأحيان، حتى إن منها ما كان سببا في انفصال العديد من الطلبة عن التعلم وحفظ القرآن، ومنها ما ترك آثاره السلبية في نفوس كثير من الحفظة، كما لا ينكر أحد الآثار الإيجابية للعقوبات حينما توضع في موضعها وبمقدارها الصحيح.

وقد خرجت تلك الكتاتيب حفاظا وقراء وعلماء كبار في الماضي، ورغم انتشار التعليم الأكاديمي فقد كان طلاب الكتاتيب متميزين في المدارس لحذق فهمهم وتوقد ذاكرتهم بسبب أخذهم القرآن الكريم غضا طريا منذ نعومة أظفارهم، إلّا أن دورها قل في الأزمنة الأخيرة وضعفت وظيفتها، لأنها لم تر اهتماما ولا تطويرا في منهجها، إضافة إلى الحملة الشرسة من طرف جهات تزعم تطوير الفكر الديني .

لقد ضعف دور الكتاتيب في عصرنا الحالي نظرا لحلول المدرسة النظامية محلها، ولكنها ما زالت مستمرة في معظم المجتمعات الإسلامية في فترة الإجازة الصيفية أو بعد العودة من المدرسة، ومع كل التهميش والمضايقات التي تحاصرها فما زالت قائمة ، وقد اتخذت بعض القوى المتنفذة في العالم من هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م حجة للضغط على الدول الإسلامية لإجبارها على إغلاق كثير من كتاتيب تعليم القرآن الكريم، كما حدث في باكستان وأفغانستان وغيرها من الدول بحجة أن هذه الكتاتيب تخرج المتطرفين والإرهابيين، وقد وجدت بعض الحكومات العلمانية المتطرفة في ذلك الوقت في التوجه الأمريكي حجة للتضييق على الكتاتيب والمدارس الإسلامية من خلال إغلاقها أو التدخل في شؤونها وبرامجها.

لقد كان للكتاتيب القرآنية أعظم الأثر في التاريخ الإسلامي، وما زالت إلى اليوم تحافظ على لغة أبنائنا في ظل الإهمال الحكومي للغة العربية والاهتمام المبالغ فيه باللغات الأجنبية، وما زال لها الدور الأكبر في تعليم عامة الناس مبادئَ الدين والوضوءِ والصلاةِ؛ إذ أهمَلَت الحكوماتُ العربية والإسلامية هذا الواجب، وكذلك الحال في كثير من الدول الإفريقية والآسيوية فما زال الكتاب هو الرابط الأهم بين الطفل المسلم ودينه، ففيه يتعلم الأطفال الوضوء والصلاة والحروف العربية وقراءة القرآن وأركان الإيمان والإسلام، ولكن هذا لا يعني أبدا أن نغفل عن العمل على تصويب هذه الكتاتيب ودفعها للمزيد من العطاء.

و مما ينبغي إدراكه؛ أن أهم دور للكتاتيب القرآنية هو ربط الطفل بالقرآن الكريم، وتربيته على الخلق والعمل الصالح، والحفاظ على اللغة العربية والهوية الإسلامية في المجتمع، وهذا لا يتأتى إلا بالرجوع إلى المنهج الذي سار عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعلمي الكتاتيب هم أنفسهم عليهم أن يتخذوا القرآن الكريم منهاج حياة ومشروع عمر، وعليهم استشعار عظم الأمانة التي يحملونها، وأن حفظ القرآن ليس في حفظ حروفه فقط، ولكن بالعمل والتخلق به، قال العلامة المغربي فريد الأنصاري رحمه الله: (إن الحفظ هو الذي مارسه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا يتلقون خمس آيات أو عشرا فيدخلون في مكابدة حقائقها الإيمانية ما شاء الله.. وإن الذي لا يكابد منزلة الإخلاص ولا يجاهد نفسه على حصنها المنيع، ولا يتخلق بمقام توحيد الله في كل شيء رغبا ورهبا لا يمكن أن يعتبر حافظا لسورة الإخلاص.. ثم إن الذي لا تلتهب مواجيده بأشواق التهجد لا يكون من أهل سورة المزمل..، فلا بد للشيخ من أن يكون مربيا قدوة لطلابه، منتبها لأخلاقهم، فلا يليق بمن يحفظ القرآن أن يسب ويتكلم بالكلام الفاحش، أو يجلس يحفظ القرآن، فإذا أذن المؤذن للصلاة خرج يلهو ويلعب ولا يصلي كما يحدث في بعض الكتاتيب، وهنا يكون واجب المعلم ألا يركز على التحفيظ فقط، بل يجب أن يكون هدفه تكوين شخصية متزنة تجمع بين الحفظ وجمالية السلوك).

ولا يجب أن نغفل أن الكتاتيب القرآنية لعبت أدوارا طلائعية في تاريخ المغرب خاصة في زمن الاستعمار الفرنسي، باعتبار كونها كانت مصنعا للعلماء ومشتلا لإنتاج الفقهاء والمقاومين الذين دافعوا بدمائهم وأرواحهم من أجل استقلال البلاد، حيث تجلت عناية سلاطين المغرب بالكتاتيب القرآنية على مر السنين في احتفائهم بفقهائها وإجلالهم لهم، وامتد هذا الاهتمام الرسمي إلى أن خصص الملك محمد السادس جائزة للكتاتيب القرآنية بهدف تشجيعها على القيام بدورها في تحفيظ القرآن وتطوير طرق التلقين.

خاتمة:
إن الكتاتيب القرآنية شعاع ثقافي مهم في المجتمع المسلم، فهي تسهم في الحفاظ على اللغة العربية ونشر العلم، وتمسك الناس بحبل الله المتين، فإذا عمت وانتشرت هذه الكتاتيب في مجتمعاتنا، فسيكثر الخير والنفع والفضيلة ببركة القرآن الكريم، وينشأ جيل قرآني يحفظ عرى الإسلام، فمن أراد الدنيا فعليه بالقرآن ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن، ومن أرادهما معا فعليه بالقرآن، ففيه عز الدين والدنيا، والحمد لله رب العالمين.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.