واحة تينونا أو ذات الآبار لأحمد التوفيق: قراءة نقدية في البنية الباطنية للتجربة الروائية المغربية

16 نوفمبر 2025

حمزة مولخنيف
تبدو رواية واحة تينونا أو ذات الآبار (واحة تينونا أو سر الطائر على الكتف، المؤلف هو أحمد التوفيق) عملاً روائيًا يُخفي أكثر مما يُظهر، ويكشف من المعنى بمقدار ما يغيب، فتغدو القراءة عملية كشف تدريجي، لا لطبقات الحكاية فحسب، بل لطبقات الوعي التي يتأسس عليها العالم الروائي.

ليس في الرواية ما يمكن التعامل معه كـ”حبكة” بالمعنى المتعارف عليه؛ فالأحداث فيها ليست أهدافًا بذاتها، بل مفاتيح، إشارات وممرات توصل القارئ إلى نواة التجربة: الإنسان في مواجهته المستمرة مع ذاته، ومع رموز الوجود التي تتجسّد في الماء والرمل والطائر والصمت والظل.

هذه ليست رواية للتسلية، بل هي ممارسة فكرية وروحية، تُعاد فيها كتابة العلاقة بين الإنسان والعالم من جذورها.

أوّل ما يواجه القارئ عند الدخول إلى النص هو الإحساس بأنّ الواحة ليست مكانًا فحسب، بل كيانٌ حيّ، له ذاكرة وأصوات وصمت، وله علاقة خاصة بكل شخصية تظهر في الرواية. الاسم ذاته، تينونا، لا يأتي كعلامة جغرافية، بل كطابع روحي، وكأنّ المكان اختار أن يكون مختبرًا للوعي، وأن يجمع بين من يدخل إليه برباطٍ غير منظور.

الواحة هنا ليست إطارًا خارجيًا للحدث، بل هي رحمٌ رمزي، يولد فيه الإنسان مجددًا، أو يكتشف ولادةً لم يكن يعلم بها. تشعر أثناء القراءة أن كل خطوة داخل الواحة هي دخول إلى طبقة أعمق من الذات، وأن كل بئر من آبارها هو فتحة على المجهول، على الذاكرة السحيقة التي سبقت الإنسان وستبقى بعده.

تتعامل الرواية مع الماء باعتباره محورًا للوجود، ليس فقط لأنه عنصر الحياة، بل لأنه رمز الحقيقة؛ الحقيقة المتحركة والمتغيرة، التي لا تُمسك بيدٍ واحدة ولا تُرى من زاوية واحدة.

لآبار في الرواية ليست مجرد مصادر للماء، بل نوافذ إلى طبقات الوجود. كل بئر لها تاريخ، ولها ظلّ، ولها أثر في الشخصيات. بعض الآبار تخضع للقدر، وبعضها يخضع للمعرفة، وبعضها لا يخضع إلا للصمت. الارتباط بين البشر والآبار في الرواية أشبه بالارتباط بين الذاكرة والجسد؛ علاقة لا يمكن تفسيرها بلغة الواقع وحدها.

وهنا يكمن الجانب الباطني للرواية: الماء يصبح مرآة، والمرآة تصبح سؤالًا، والسؤال يصبح تجربة روحية.

الشخصيات في واحة تينونا ليست نماذج اجتماعية منفصلة، بل درجات من درجات الوعي، أو تجسدات متعدّدة لذات واحدة تبحث عن الخلاص. هناك الشخصيات التي تتحرك على السطح، تلك التي يبدو أنها تعيش تفاصيل الحياة اليومية، تتبادل الحديث، تختلف، تخاف، تحب، وتبحث عن خلاص مادي.

وهناك الشخصيات التي يبدو أنها تتحرك في الظل، في طبقات تحت السطح، تلك التي لا تُفهم من ظاهر تصرفاتها، بل من علاقتها بالماء، بالصمت، بالطائر الذي يحطّ فجأة على الكتف، أو بالضوء الذي ينكسر على صفحة البئر.

في هذه الشخصيات الثانية تكمن روحية الرواية؛ هي ليست شخصيات بالمعنى التقليدي، بل رموزٌ متحركة، وأنماط وجودية متجسدة في شكل بشر.

إحدى أهم السمات التي تميّز الرواية هي قدرتها على خلق زمن خاص بها، زمن ليست له ملامح التاريخ ولا إيقاع الحياة اليومية، بل زمن داخلي، أشبه بزمن الخلوة الصوفية. الزمن هنا لا يقاس بالأيام والسنين، بل بالمكاشفات، باللحظات التي يلمع فيها معنى، أو يختفي فيها ظل، أو يظهر فيها صوت طائر جاء من المجهول.

هذا الزمن الداخلي يجعل الرواية نصًا غير محكوم بالماضي أو الحاضر، بل نصًا يدور في دائرة متصلة، تتكرر فيها التجارب، لكن المعنى يتغير. الزمن بهذا الشكل لا يمكن فهمه إلا بوصفه طريقًا نحو الكشف، نحو إعادة بناء العالم في كل مرة.

من يقرأ الرواية بعمق يدرك أن حضور الطائر ليس تفصيلاً عابرًا، بل هو أحد المفاتيح الكبرى للنص. الطائر لا يُظهر نفسه كثيرًا، ولكنه حين يظهر، يغير اتجاه الوعي لدى الشخصية المعنية. الطائر هنا ليس رمزًا للتفاؤل أو الحرية، بل رمز لحضور آخر، لمعنى يتجاوز اللغة، لمعرفة تهبط على الإنسان ولا يبحث عنها.

في كل مرة يحط فيها الطائر على كتف شخصية ما، يشعر القارئ أنّ الرواية تنتقل من مستوى سردي إلى مستوى معرفي. الطائر ينتمي إلى الغيب، لكنه يعمل داخل الزمن. وهذه الثنائية تعكس طبيعة الرواية ذاتها: نصّ يقف على الحافة بين الواقع والميتافيزيقا.

اللغة الروائية في واحة تينونا ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل أداة لبناء الرؤية. اللغة هنا تتخلّى عن الزخرف حين يكون الزخرف عائقًا، وتسترسل حين يكون الاسترسال ضرورة للكشف. هناك اقتصاد لغوي في بعض المشاهد يوحي بأن الروائي يعرف متى يجب أن يصمت، كما يعرف متى يجب أن يتكلّم.

هذا الصمت النصّي—الذي يُترك للقارئ كي يملأه بالمعنى—هو جزء أساسي من جمال الرواية. فالصمت ليس فراغًا، بل هو لغة داخل اللغة، ومجاز داخل المجاز. وكلما تقدم القارئ داخل الرواية، يدرك أن اللغة ليست في الكلمات، بل في الإيقاع الذي ينتظمها، في الظلال التي تُلقيها على الذاكرة، وفي المساحات التي تتركها مفتوحة للتأويل.

على المستوى التاريخي، تطرح الرواية رؤية دقيقة لفكرة “المكان” بوصفه ذاكرة، لا بوصفه جغرافيا. الواحة لا تُقدّم كمنطقة معزولة عن العالم، بل كفضاء تلتقي فيه القوى الاجتماعية والروحية، التقاطعات بين القبيلة والزاوية، بين السلطة والعرف، بين التاريخ المكتوب والذاكرة الشفوية.

هذا الإدماج الذكي للتاريخ لا يجعل الرواية وثيقة، لكنه يجعل القارئ يحس بأنّ الشخصيات تتحرك داخل سياق واقعي، سياق له جذور في التاريخ المغربي وفي تشكيل الإنسان الروحي عبر الزمن. وهنا يكمن جمال النص: إنه لا يكرر التاريخ، بل يخلق من التاريخ لغة جديدة يُقرأ بها العالم.

من الجانب الفلسفي، تتبنى الرواية رؤية عميقة للوجود، رؤية تتقاطع مع الفكر الصوفي، ومع الفلسفة الوجودية، ومع التأملات الكونية التي ترى الإنسان كائناً يسعى، لا ليعرف العالم فقط، بل ليعرف نفسه أولاً.

وهذه الرؤية تتجلى بقوة في علاقة الشخصيات بالواحة: فكل شخصية تدخل الواحة تحمل سؤالاً، وتخرج منها بشيء آخر؛ لا جوابًا نهائيًا، بل مستوى جديدًا من الوعي. الواحة هنا ليست حلاً، بل طريقًا. والإنسان ليس كائنًا ضائعًا، بل كائنٌ في رحلة.

لا يمكن قراءة الرواية دون الانتباه إلى حضور “الظل” كعلامة فلسفية. الظلال في الرواية ليست ظلالاً ضوئية فحسب، بل ظلالًا للوعي، ظلالًا للذاكرة، ظلالًا لحقائق لم تُقل بعد.

وربما كان هذا ما يجعل القارئ يشعر بأن الرواية لا تُقرأ مرة واحدة؛ فكل قراءة جديدة تكشف طبقة جديدة من الظلّ، طبقة لم تكن مرئية من قبل.

يظهر للقارئ أنّ واحة تينونا أو ذات الآبار ليست نصًا روائيًا فقط، بل نصًّا روحياً، نصًّا يعلّم القارئ كيف ينظر، لا إلى الواحة فحسب، بل إلى ذاته أيضًا. لأنها رواية تجعل من التفاصيل العادية—قطرة ماء، صوت طائر، ظل نخلة—أدوات لفهم ما هو أبعد من العادي. إنها رواية تُصغي للصمت، وتُربي القارئ على أن يفعل الشيء ذاته.

الإنجاز الأكبر للرواية أنها لا تقدم أجوبة، ولا تدّعي امتلاك الحقيقة، بل تدعو القارئ إلى أن يصبح جزءًا من التجربة، أن يمشي بين آبارها، ويصغي للماء، ويتابع مسار الطائر، ويقرأ الظلال، ويعيد اكتشاف ذاته في كل خطوة. لهذا تبدو الرواية عملاً منفتحًا، نصًا لا يكتمل إلا حين يكتبه القارئ من جديد داخل وعيه.

إنّ واحة تينونا ليست مجرد رواية، بل هي حالة. ليست عالمًا يُقرأ، بل عالمًا يُعاش. نصّ يربط الأرض بالسماء، والماضي بالحاضر، والظاهر بالباطن، ليقول للقارئ إن الحقيقة لا توجد على صفحة الماء، بل في العمق الذي لا يظهر إلا لمن استعدّ للنظر.

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

توكل كرمان.. من جائزة نوبل إلى خطاب الفتنة

عمر العمري تقدم توكل كرمان نفسها، منذ حصولها على جائزة نوبل للسلام سنة 2011، بوصفها رمزا عالميا للحرية وحقوق الإنسان، إلا أن مسارها الإعلامي والسياسي اللاحق سرعان ما كشف عن تناقض صارخ بين الشعارات والممارسة. فبدل أن تكون صوتا للحوار والسلام، تحولت إلى منبر للتحريض والتجريح، مستخدمة المنصات الرقمية لنشر خطاب عدائي يستهدف المغرب ومؤسساته […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...