هوامش بمناسبة صدور كتاب شرح المستصفى للشيخ مولود السريري
عبد الله القيسي. باحث يمني
بمناسبة صدور كتاب شرح المستصفى للشيخ مولود سروري، طرح البعض تساؤلاً: كيف يشرح فقيهٌ مالكيّ مصنَّفًا أصوليًّا ألّفه إمامٌ شافعيّ كالغزالي؟
ومن هذا المنطلق، أحببت أن أشارككم مبحثًا من كتابٍ لي لم يُنشر بعد، تناولتُ فيه بيان العلاقة بين المذاهب الكلامية والمذاهب الفقهية، بما يسهم في توضيح هذه المسألة.
وفي حدود اطّلاعي وتتبعّي، لم أقف على دراسةٍ تناولت هذه العلاقة بالبحث التفصيلي، ولا سيما في جانبها المتعلّق ببيان الصلة بين المعتزلة وأهل الرأي.
علاقة المذاهب الكلامية بالمذاهب الفقهية:
عند التأمل في العلاقة بين المذاهب الكلامية والمدارس الفقهية، يتضح وجود توازن داخلي بين مساحة العقل في العقيدة ومساحة الرأي في الفقه. فالفقيه الذي ينتمي إلى مدرسة أهل الرأي غالبًا ما يبنى فكره الأصولي على رؤية عقلية مرنة، تُتيح له أفقًا أوسع في الفروع الفقهية. وكذلك المتكلم الذي ينتصر للمدارس العقلية في أصول الدين، يميل في فقهه إلى المذاهب التي تفتح المجال للاجتهاد والرأي.
وعلى النقيض، فإن من يضيق لديه مجال العقل في قضايا الاعتقاد، تجده يميل إلى التقليد والاحتياط في الفقه، ويضيق لديه أفق الرأي والاجتهاد. ومن هنا يمكن القول: إن هناك تماهيًا منهجيًا بين الموقف العقدي والموقف الفقهي، بحيث يعكس كل منهما تصورًا متقاربًا عن حدود العقل والنقل، وعن طبيعة الاجتهاد ومجاله.
ولو تأملنا في المذاهب الكلامية والفقهية، للاحظنا تلازمًا بين ما يُختار في العقيدة وما يُتبنّى في الفقه، فغالبًا ما يعتنق أصحاب المذهب العقدي ما ينسجم معه من توجه فقهي. فعلى سبيل المثال:
يُلاحظ أن الماتريدية جميعهم من أهل المذهب الحنفي، فكل ماتريدي حنفي، ولكن ليس كل حنفي ماتريديًا بالضرورة. بعد ظهور الماتريدية، اتجهت غالبية الحنفية إلى تبني هذا المذهب العقيدي. قبل زمن الماتريدي، كان بعض الحنفية يميلون إلى المعتزلة، كـ أبي الحسن الكرخي (340هـ)، بينما كان آخرون أقرب لأهل الحديث، مثل أبي جعفر الطحاوي (321هـ) الذي بدأ فقيهًا شافعياً ثم تحول إلى الحنفية.
أما الأشعرية، فغالبًا ما كانت مرتبطة بالمذهبين المالكي والشافعي، حيث يُعتقد أن مؤسس الأشعرية، أبو الحسن الأشعري، كان شافعياً، بينما كان ثاني أبرز رجالات الأشعرية، أبو بكر الباقلاني، مالكياً، ثم بعدهما الجويني والغزالي شافعيان.. من الحنفية، برز اثنان ممن اتبعوا المذهب الأشعري في العقيدة، وهما أبو جعفر محمد بن أحمد السمناني (444هـ)، الذي كان حنفي المذهب، وأشعري الاعتقاد، متأثراً بالباقلاني، وبدر الدين العيني (ت 855هـ) الذي انتقل من موطنه الحنفي بعنتاب إلى دمشق، ثم استقر في القاهرة، في بيئةٍ غلب عليها الانتماء الأشعري.
أما الحنابلة، فلم يُعرف عنهم اتباع الأشعرية، رغم وقوع بعضهم في مواقف مثل التفويض والتأويل، كما في حالة ابن الجوزي، لكنه لم يكن أشعريًا.
أما المعتزلة فعند الاطلاع على مدى التقارب الفكري والمنهجي بين أهل العقل “المعتزلة” وأهل الرأي “الحنفية”، يبرز سؤال مهم: هل كان هناك تلاقٍ بين هاتين المدرستين الكبيرتين؟ فالمعتزلة بالبصرة تمثل مدرسة أصول الدين التي تركز على العقل، بينما الحنفية في الكوفة تمثل مدرسة أصول الفقه التي تعول على الرأي والاجتهاد. هل جمع لقاء بين واصل بن عطاء (131هـ)، مؤسس المعتزلة، وأبي حنيفة (150هـ)، إمام الفقه وأصوله في عصره، والذي ذاع صيته وانتشر علمه في أنحاء العالم الإسلامي آنذاك؟
يجيب الدكتور علي سامي النشار فيقول: “ليس بين أيدينا ما يثبت أن ثمة اتصالاً شخصياً قد حدث بينهما، ولكن نلاحظ ما يلي: كان المعتزلة رواد العقل في الأصول الدينية وكان أبو حنيفة وتلامذته رواد العقل في الأصول الفقهية.. فمن المعتقد أن ثمة تلاقياً في الآراء قد تم، ولكن ليس لدينا وثائق حتى الآن توضح مسألة العلاقة توضيحاً تاماً”( ).
لكن هذه العلاقة اتضحت أكثر مع من جاء بعد واصل بن عطاء وأبي حنيفة من المعتزلة والحنفية الأوائل، حيث كان غالبية متكلمي المعتزلة، إن لم يكن جميعهم، يتبعون المذهب الحنفي في الفروع، في حين أن بعض فقهاء الحنفية الأوائل كانوا معتزلين أو يميلون إلى منهج المعتزلة في الأصول. ومن الجدير بالذكر أن كل متكلم كان فقيهاً، لكن ليس كل فقيه متكلمًا، وهذا يفسر سبب كون غالبية متكلمي المعتزلة حنفية، وليس العكس.
ومن المعتزلة الذين كانوا على مذهب الحنفية في الفروع: بشر المريسي، وتلميذه ابن شجاع البلخي، وابن أبي دواد، ومحمد بن أبي الليث، والخصاف والكعبي، وأبي علي الجبائي، وأبو هاشم الجبائي، وأبي سعيد البردعي، وأبي عبدالله الحسين البصري تلميذ الكرخي، وعثمان بن جني وإسماعيل السمان، والحاكم الجشمي، والزمخشري، ونجم الدين الزاهدي، وغيرهم من أئمة الاعتزال( ).
ومن فقهاء الحنفية الذين قيل إنهم معتزلة أو عندهم ميلٌ إلى الإعتزال، أبو الحسن الكرخي وتلميذه أبو بكر الجصاص، قال الذهبي عن الكرخي: “كان رأسا في الاعتزال”( ). وقال عن الجصاص: “كان يميل إلى الاعتزال”( ).
ولا نكاد نجد معتزلياً يتبع المذهب الشافعي أو غيره من المذاهب إلا القاضي عبد الجبار، الذي كان من قبل أشعرياً في الأصول وشافعياً في الفروع، كما هو الحال مع معظم الأشاعرة. إلا أنه بعد انتقاله من أصفهان إلى البصرة، مركز الفكر المعتزلي، تأثر بأبي إسحاق إبراهيم بن عياش، شيخ المعتزلة هناك، فانتقل إلى مذهب المعتزلة وأصبح من أبرز أعلامهم. لكن رغم تحوله في الأصول من الأشعرية إلى المعتزلة، ظل في الفقه على المذهب الشافعي، ولكن المتأمّل في الشروط التي وضعها للعمل بخبر الواحد يلحظ أنه جارَى فيها مذهب أهل الرأي من الحنفية، كما أن من تلامذته القاضيُ أبو عبد الله الصيمري (ت 436هـ)، وهو شيخُ الحنفية في بغداد في زمانه( ).
وأمّا تلميذه أبو الحسين محمد بن علي البصري، فلم يتضح مذهبه الفقهي المذهبي، فترجم له أبو الوفاء القرشي ضمن الحنفية( )، في حين ذكر حاجي خليفة أنّه كان شافعي المذهب( ). ومعظم من ترجم لهم من أهل التراجم لم يذكروا مذهبه، لكن يلاحظ أنّ البصري غالبًا ما يوافق ما ذهب إليه شيخه القاضي عبدالجبار، سواء في الأصول أو الفروع. وبعض اختياراته الأصولية توحي بأنه كان يميل للشافعية، وهو ما يتضح من نقاشه لبعض مسائل خبر الواحد، لا سيما ما يتعلق بخبر الواحد فيما تعمّ به البلوى وتخصيصه لعموم الكتاب، وتعارض الخبر مع القياس، حيث كان له تفصيل خاص في تلك المسائل مع ميل لمذهب الشافعية.
التعليقات