31 مارس 2025 / 18:40

هل يمكن أن نكون “إنسانًا” قبل أي هوية أخرى؟

كريمة العزيز
ماذا لو استيقظنا ذات يوم بلا هويات تُعرّفنا؟ بلا دين أو عرق أو أيديولوجيا تحدد مواقعنا في المجتمع؟ ماذا لو كنا مجرد “إنسان” قبل أي تصنيف آخر؟ هل يمكننا بناء دولة لا تقوم على الانتماءات الضيقة، بل على قيم مشتركة تجعل العدالة والمساواة والكرامة هي الأساس الوحيد للعيش المشترك؟ أم أن الهويات، رغم ما تسببه من انقسامات، تظل جزءًا لا يتجزأ من طبيعتنا، وبالتالي من السياسة نفسها؟

في عالم يزداد ترابطًا وانفتاحًا، لم يعد ممكنًا أن تستمر الدول على الأسس التقليدية ذاتها. فالثقافات تتداخل، والمجتمعات تتغير، والأفكار تعبر الحدود، ومع ذلك، لا تزال السياسات قائمة على تصنيفات قديمة: يمين ويسار، مؤمن وملحد، قومي وعالمي.

لكن، ماذا لو كان السؤال الأهم ليس “إلى أي فئة تنتمي؟” بل “كيف يمكننا جميعًا أن نعيش معًا بعدل وإنصاف؟” ربما المشكلة الحقيقية تكمن في أننا نحاول تغيير الأنظمة قبل أن نغيّر الأفراد.

كيف يمكن لمجتمع تعوّد على تعريف نفسه من خلال الدين أو العرق أو الأيديولوجيا أن يتقبل فكرة أن هذه الانتماءات يجب أن تبقى شخصية، دون أن تحدد الحقوق والواجبات؟ إذا كانت الدول تُبنى على المواطنين، فمن المنطقي أن الدولة الإنسانية لا يمكن أن توجد إلا إذا وُجد الإنسان الإنساني أولًا، ذلك الإنسان الذي يرى في الآخر مجرد إنسان، وليس “آخرًا” مختلفًا.

لكن هل يمكننا إعادة تشكيل وعي الأفراد في مجتمعات تأسست لعقود أو قرون على أن الدين هو أساس التشريع، أو أن الأيديولوجيا تحدد الولاء؟ الفيلسوف جون راولز / John Rawls تحدث عن مفهوم “حجاب الجهل / Voile d’ignorance”، حيث يُطلب من الأفراد تصميم مجتمع عادل دون أن يعرفوا مواقعهم فيه. ماذا لو كان هذا المبدأ هو الأساس الذي يُبنى عليه التعليم، بحيث لا يُعلَّم الأطفال أنهم ينتمون إلى دين أو عرق أو طبقة، بل أنهم جزء من إنسانية واحدة؟ أم أن هذا مجرد حلم مستحيل في عالم صنعته الهويات المتوارثة؟

في كتابه “الهوية والعنف / Identity and Violence”، يرى الاقتصادي والفيلسوف أمارتيا سين / Amartya Sen أن الإنسان ليس هوية واحدة، بل مجموعة هويات متداخلة، لكن المشكلة تبدأ عندما يتم فرض هوية واحدة على حساب الأخريات. ربما الدولة الإنسانية ليست دولة بلا هويات، بل دولة تعترف بتعددها، لكنها لا تجعلها أساسًا للتمييز أو للسياسة. لكن كيف يمكن لمجتمع نشأ على أن الدين هو معيار القانون، أو أن القومية هي أساس الولاء، أن يتجاوز ذلك لصالح قيم أكثر شمولًا؟

الفيلسوف وعالم الاجتماع ماكس فيبر / Max Weber تحدث عن “نزع السحر عن العالم / Désenchantement du monde”، أي انتقال المجتمعات من تفسير كل شيء عبر الدين إلى تفسيره بالعقل والعلم. لكن أوروبا استغرقت قرونًا في هذا التحول، فهل يمكن للمجتمعات الحديثة اختصار الزمن؟ هل يمكن تحقيق التغيير عبر التعليم والإعلام، أم أن مقاومة التغيير ستكون أقوى من أي محاولة لإعادة تشكيل الوعي؟

ربما الدولة الإنسانية ليست حلمًا مستحيلًا، لكنها ليست قفزة يمكن تحقيقها بين ليلة وضحاها. قد يكون الحل في التغيير التدريجي: إصلاح المناهج التعليمية، تحرير القوانين من التحيزات الدينية والعرقية، وتشجيع خطاب إعلامي يُركز على الإنسان قبل أي شيء آخر.

لكن السؤال الأهم يظل: هل نحن مستعدون للتفكير في أنفسنا كـ”إنسان” أولًا، أم أن الهوية ستظل حاجزًا لا يمكن تجاوزه؟ قد يكون مستقبل المجتمعات مرهونًا بقدرتها على الإجابة عن هذا السؤال، وربما، فقط عندما نصل إلى مرحلة نرى فيها الإنسان قبل أي تصنيف آخر، سنكون قد بدأنا فعلًا في بناء الدولة الإنسانية.