د. حمزة النهيري
يكاد يجمع الباحثون في العلوم الإنسانية أن الأسئلة تبقى والاجوبة تفنى، لأن عملية السؤال محركة للبحث عن الحقائق، ولايمكن أن يصل الإنسان إلى مرحلة اليقين دون مروره بمرحلة الشك في مستوى من مستوياته.(انظر المنهج لديكارت).
وفي موضوع سؤال الإجتهاد والتقليد، يطلق الإجتهاد ويراد به بذل الوسع في استفراغ حكم شرعي بظن.
فالاجتهاد محله النصوص الظنية التي لم تصل إلى مرتبة القطع، ولذلك لايطلق على المسائل المجمع عليها في الفقهيات و الاعتقادآت بأنها حصلت عن طريق الاجتهاد، وهذا أمر معلوم عند السادة الفقهاء الاصوليين.
و لا شك أن الدرسين الفقهي والأصولي يدور فيهما الحديث عن مراتب المجتهدين، من مجتهد المذهب والفتيا إلى مرتبة المجتهد المطلق.
والاجتهاد محمود مطلقا و ضده التقليد فهو مذموم مطلقا.
والتقليد يطلق ويراد به قبول قول الغير من غير دليل وحجة.
و المقلد غير مكلف بالنظر في الأدلة وطرق الأقيسة والعلل ولا هو معني بتحقيق المناط وتخريجه.
وفي تعريف الفقه بأنه العلم بالاحكام الشرعية المكتسبة من ادلتها التفصيلية، يأتي ذكر لفظ العلم بما تدل عليه “ال” المفيدة للإستغراق والشمول، فليس من شرط الفقيه أن يلم بكل جزئية جزئية من مسائل الفقه والاجتهاد، لأنه أمر عسر من جهة، وهو غير حاصل لتجدد النوازل و الوقائع وانحصار الأدلة.
فلأجل ذلك يطلق العلم ويراد به الملكة والتهيؤ(انظر مقاصد الكليات المنطقية ورسالة الجدل في أصول الفقه بتحقيقي ففيهما تفصيلات مهمة في ماهية العلم وإطلاقاته عند ابن البناء).
ويطلق المناطقة مصطلح الفاعل بالقوة والفعل ويقصدون به معنى معينا.
فالإنسان متكلم بالقوة تطلق على القادر على الكلام وإن لم يتكلم، والإنسان متكلم بالفعل حين يباشر الكلام متكلما.
وقد عرف صاحب جمع الجوامع المجتهد بأنه الأصولي العارف بها أي العارف بالقواعد الاصولية.
وعلى هذا فإن العالم بالقواعد الأصولية المحيط بكليات العلم وجزئياته مجتهد بالقوة، لأنه مدرك لادلة الفقه وقواعد الاستدلال فيجوز إطلاق المجتهد عليه إن كان محيطا بالقواعد مدركا لها غاية الإدراك.
وهو مجتهد بالفعل حين يفتي في الفقه والنوازل.
(كتاب ابن السبكي جمع الجوامع يصنف من كتب الأصول التي جمعت بين طريقتي الجمهور و الفقهاء، وهو متن اصولي شافعي اهتم المالكية والشافعية بمدارسته، وهذا المتن لقي قبولا وشهرة، وأنا أتعجب من المالكية كيف اعتنوا به دون غيره من المتون المالكية في أصول الفقه، وقد تعرض لنقد ذلك أيضا الدكتور عبد الله دراز في مقدمة الموافقات وهذا أمر نناقشه في مقال لاحق بحول الله وقوته وله شروح وحواشي مشهورة متداولة أهمها حاشية العطار الشافعي وحاشية البناني المالكي، وبعض مشايخنا يفضل حاشية العطار على حاشية البناني.. ، وهذا المتن ينبغي مدارسته مع كتاب منع الموانع للمؤلف نفسه حيث أجاب فيه عن جملة الاعتراضات الواردة على متن جمع الحوامع).
ولا يهمنا في هذا المقام الحديث عن ضوابط الاجتهاد وأمر تيسره في كل عصر وحين، وأن المجتهد لا ينقطع في كل وقت وحين، كما لا يهمنا نقد رسالة ابن رجب في وجوب التقليد و منع الاجتهاد والخروج عن المذاهب الفقهية الاربعة، ولا نقد كلام صاحب المراقي: والمجمع اليوم عليه الأربعة
وقفو غيرها الجميع منعه.
لأن شيوع وإطلاق مسألة التقليد في المدارس الإسلامية الفقهية كان وراءه مصلحة معتبرة مرتبطة بظروف ثقافية وسياسية يمكن أن تلغى في عصرنا او في أي عصر ءاخر، فالمصالح النظرية والعملية متغيرة غير ثابتة.(وهذا موضوع ءاخر) .
عودا إلى السؤال الذي حرك النفس على الكتابة.
هل كان الشاطبي مقلدا!؟
يجمع الباحثون في علوم الشريعة أن الإمام الشاطبي المغربي الغرناطي(أو اللخمي) أقام ثورة تجديدية في علم أصول الفقه، فهو العالم الذي جعل أصول الفقه تنتقل إلى مرحلة ترتبط فيها بالمقاصد الشرعية حتى أضحى علم المقاصد علما قائما بذاته له الشروط الموضوعية لمسمى العلم من حيث المسائل والمبادئ بعد أن كانت المقاصد من مباحث الأقيسة والعلل والإجتهاد.
وهو العالم النحوي الذي ابدع في الدرس النحوي بكتابه الموسوعي الفذ المقاصد الشافية بشرح الكافية.
وهو العالم النحرير الذي كان له موقف معلوم في مسمى البدعة، نصر فيها مذهب أهل الحديث ولم يرتض تقسيمها إلى مراتب خمسة كما هو رأي الجمهور.
وهو العالم الأشعري الذي نصر مذهب الأشاعرة الاعتقادي في كتابه الاعتصام، وقد كتبت قديما رسالة بعنوان الكسب عند الشاطبي كما هو عن الأشعري. (يسر الله تنقيحها و طبعها بمنه وكرمه) .
وهو العالم الفقيه المفتي الذي جمعت فتاواه في مجلد لطيف، جمعها العلامة المرحوم ابو الأجفان طيب الله ثراه.
وهذا العالم الجليل المجتهد المتبحر في العلوم والفنون وصف نفسه بالتقليد في بعض ماكتب وهو لايعني البتة أنه مقلد لاعتبارات عديدة.
فالمقلد لاينقح العلل والمناطات ولايستخرجها ولا ينظر فيها، فهذه وظيفة المجتهد والشاطبي يؤصل لهذه المسائل ويؤثلها تاثيلا فهو مجتهد لانه يقوم بعمل المجتهد.
المقلد لايفتي كما نقل في ذلك الإجماع، فالمفتي الذي لايعرف الأدلة ناقل للفتوى وليس مجتهدا ولا مفتيا بالمعنى الاصطلاحي للفظ المفتي.
المقلد لايجدد والشاطبي مجدد في الاصول بدون منازع في مستوى من مستويات التجديد الأصولي.
المقلد غير ريان من علوم اللغة فضلا عن باقي العلوم الاجتهادية الملية، والشاطبي ملك ناصية النحو والأصول والفقه والكلام.
وعلى شرط الباقلاني في اشتراط المعرفة بعلم الكلام للمجتهد أو على شرط الغزالي باشتراط معرفة علم المنطق او على شرط الشاطبي نفسه في ضرورة ان يكون الناظر في الشريعة ريان من علوم اللغة فإن كل هذه الشروط متوافرة في الامام الشاطبي بالفعل والقوة والاستدلال على ذلك أجلى من ابن جلا.
فالادعاء بأن الشاطبي كان مقلد اعتمادا على بعض مقولاته مقالة غير سديدة، بل تدل فقط على التواضع العلمي ولا يمكن للمنصف العالم العاقل أن يطلقها عليه، وقد ذكر الامام الشوكاني في البدر الطالع حينما ترجم لابن الوزير كلاما عن علماء بعض المذاهب الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد المطلق ولم يخرجوا عن المذهب الذي يتبعونه، وأظنه أشار إلى الإمام المازري المالكي الذي بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق ولم يخرج عن المذهب..
والسبب يرجع في ذلك إلى أمور منها
أن إعلان الاجتهاد يمنع المجتهد من صلاحيات عديدة، ويخرج المجتهد من حظيرة الوقف المسبل على علماء المدارس الفقهية وغير ذلك، ومن ذلك أيضا أنه يجلب ثلب العوام وحساد عوام الفقهاء الذين يتقنون الصيد في الماء العكر إلا الفتوى و النظر و الإجتهاد.
وقد حمل لنا التاريخ الفقهي الحديث عن اللخمي صاحب التبصرة حين نظموا مذهبه بقولهم:
لقد مزقت سهامي جفونها كما مزق اللخمي مذهب مالك
لأنه كان يخرج على المذهب في تبصرته، وهو من أيمة المالكية الفحول.
ومثله ابن رشد الحفيد الذي لم يعتمدوا الإفتاء بما في كتابه البداية وفي ذلك نظر بلاشك، و موقفهم من هذه الكتب ينبغي ٱن يراجع ويجدد وهذه مسؤلية تقع على عاتق فقهاء المذهب المالكي والكاتبين في نظرية الاجتهاد الفقهي الأصولي(ولعل الله يمن علينا بإخراج ماشرعنا في تحريره حول نظرية التجديد الأصولي والفقهي).
فهناك أمور فقهية اصولية ينبغي إعادة النظر فيها وتجديد القول فيها سواء على المستوى التنظيري أو على المستوى الفقهي.
وحركة التصحيح الفقهي والأصولي لصيقة بحركة التصحيح الكلامي.
… حينما ننظر للشاطبي من خلال كتبه النحوية والأصولية ومن خلال فتاويه المجموعة المنشورة، فلا يمكن لعاقل منصف إلا أن يصفه بالمجتهد ولا يمنعنا عن وصفه بالمجتهد المطلق إلا كونه مجتهدا داخل المدرسة الفقهية المالكية.. ، فإن ماقام به في الدرس الأصولي حري بأن يوصف بذلك، فإن نازع منازع في ذلك فهو مجتهد الفتوى كما يدل على ذلك ماسطره في كتبه من فتاوى.
فإن نازع منازع في ذلك فهو مجتهد غير مقلد، وعلى قول من قال بوجود مرتبة بين المجتهد والمقلد وهي مرتبة الاتباع فهو بلا شك متبع وزيادة.
ومرتبة المتبع التي شهرها الشيخ محمد عيد عباسي في كتابه المتميز عن التمذهب ومثله الألباني تشبه نظرية الحال عند البهشمي المعتزلي في الدرس الكلامي العقائدي، فقد نص على وجود واسطة بين المعدوم والموجود سماها بالحال، وهي نظرية قامت الفيزياء الحديثة على تبنيها.
ولم تعد نظرية الحال عند البهشمي و نظرية الطفرة عند النظام و نظرية الكسب عند الأشعري من محالات العقول..
وخلاصة القول فالشاطي هو الإمام مجتهد وليس بمقلد ولا يليق برجل يحترم العلم ويحترم نفسه أن يصف الشاطبي بالمقلد، ولو اقسم الشاطبي بين الركن والمقام على أنه مقلد لحملنا قسمه على المجاز والتواضع وكتبناه في صحيفة المجتهدين في عصره و في عصرنا الذي اشتهرت فيه كتبه وتداولها السادة العلماء بالبحث والنظر و المدارسة.
والحمد لله رب العالمين.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14959