يرى الفقيه مولود السريري أن الحكم الأصلي في الرِّجلين هو الغسل، وأن آية الوضوء من سورة المائدة: (وأرجلكم إلى الكعبين) قطعية الدلالة في ذلك، وأنه لم يجد في القرآن شيئا يدلّ على مشروعية مسح الخفين فضلا عن الجوربين، بل ادعى الإجماع على ذلك.
قال في درسه على اليوتوب بعنوان: جواب عن سؤال في مسألة بطلان المسح على التقاشير: (قد قطع بوجوب غسل الرجلين في الوضوء. فغسل الرجلين حكم قطعي ثابت في الرجلين- الغسل- لأن المقدر المحذوف الذي هو متعلَّق الحكم قد ثبت بما يفيد بأن ثبوته على هذا الوجه القطعي: الفعل النبوي. لم ينقل عن النبي ص أنه مسح رجليه في الوضوء. الأمة كلها، لم ينقل عن أحد أنه كان يمسح رجليه في الوضوء. الواجب هنا الذي عليه الاتفاق هو الغسل. هذا قطعي. لم يرد في القرآن الكريم ما ينقل عن هذا الحكم الذي ثبت بالقرآن مفسرا بالفعل النبوي مفسرا بعمل الأمة التي اقتدت به في ذلك لم يرد في القرآن ما ينقلُ (ثم تحدث عن معاني النقل وقال:) بمعنى أنه لم يرد في القرآن نص يستثني صورة من صور المسح في الوضوء بنص القرآن، لا بمفهومه ولا بمنطوقه ولا بمعناه ولا بقصده، إطلاقا. ومن عرف أن في القرآن آية استثنت شيئا مما يمسح في الوضوء فليذكره. الآية الفلانية دلت على أن الشيء الفلاني أو الحالة الفلانية أو الصورة الفلانية لا تغسل فيها الأرجل في الوضوء. قطعا لا يوجد. هذا الدليل قطعي. قطعي لا يوجد. وكفى من الثرثرة).
هذا الكلام ليس فيه فكرة وحيدة صحيحة، إذ اشتمل على “معطيات” لا وجود لها إلا في خيال الشيخ حفظه الله.
فالقرآن ليس قطعيا في غسل الرجلين، ولا إجماع على وجوب الغسل، والنبي منقول عنه الاكتفاء بالمسح، والأمة فيها طائفة كبيرة تكتفي بالمسح عملا بظاهر القرآن، وذلك منقول عن جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم، ودليل المسح على الخفين عند فقهاء السنة مأخوذ من آية المائدة (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) قبل الأحاديث…
يبدو أن الشيخ لم يفتح تفسيرا من تفاسير القرآن ككتاب الطبري ليجد فيه بطلان كل ادعاءاته ومزاعمه، ولم يكلّف نفسه مطالعة كتاب فقهي مالكي يسرد الخلاف مثل البداية والنهاية لابن رشد، فضلا عن تتبع الأحاديث والآثار في مظانها، بل اكتفى بتكرار الأوهام والظنون بطريقة لا تليق بفقيه أصولي مثله.
وبالعودة إلى القرآن الكريم، نجد عدة حجج وإشارات على مشروعية مسح الجوربين في الآية 6 من سورة المائدة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ. مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
الحجة الرابعة الأوضح في قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)، نؤجّل الكلام عنها لطوله وتشعبه.
الحجة الأولى: رفع الحرج والضيق في الوضوء والطهارة هو الأصل:
أفاد آخر الآية: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). أن الأصل هو رفع الحرج والضيق عن المسلم في وضوئه وطهارته، وأن التيسير هو الأصل.
ومن كان يعاني من حساسية الماء على مستوى الرجلين، أو موظفا أو عاملا أو مسافرا أو مريضا أو مقيما بغير بلاد المسلمين أو متوضئا في وقت الوضوء أو ضيفا عند قوم أو سيتوضأ في مكان يمنع فيه صب الماء على الأرض… يدرك أن الحرج قد يكون يسيرا أو متوسطا أو شديدا في نزع الجوربين لغسل الرجلين.
ومن زعم أن ذلك لا حرج فيه مطلقا، فهو بدوي بعيد عن الواقع.
وحيث أن القرآن قرّر أن الحرج مرفوع في الوضوء والطهارة، فالمسح على الجوربين هو الوسيلة لرفعه في كثير من الأحوال.
ولتأكيد قاعدة رفع الحرج في الطهارة، اشتملت الآية على حجتين زائدتين:
الحجة الثانية: نقلت الآية المتطهرَ من الوضوء أو الغسل إلى التيمم بشروط، وشتان بين الطهارتين المائية والترابية.
وإن شريعة ربانية تقبل التيمم بديلا عن الوضوء والغسل تخفيفا ورحمة بالعباد ورفعا للحرج، لا يجوز أن تمنع مسح الجوربين لتحقيق الحكمة ذاتها، فوضوء يتضمن مسحا على الجوربين أشق من تيمم رمزي.
الحجة االثالثة: في التيمم، أمرت الآية بالاقتصار على مسح الوجه واليدين، فدلّ ذلك بطريق الإشارة على أن الأصل في الرأس والرجلين عند الطهارة هو التخفيف لا التشديد، وهو ما تقرّره آية الوضوء التي تركت حُكم الرِّجلين محتمَلا كما سيأتي بيانه في الحجة الرابعة.
وإنما شوّشت بعض الأحاديث الظنية على رحمة الله وتيسيره، حيث شدّدت في غسل الرجلين ونفّرت من ترك ولو موضع لمعة.
إن هذه الأوجه الثلاثة تؤكد الخلل في فهم الأستاذ السريري، وتكشف أنه لم يتأمل كتاب الله لذلك نفى أن يكون فيه ولو بطريق الإشارة والقصد ما يبيح المسح على ملبوس القدمين.
لقد أكد القرآن أن أي حرج مرفوعُ في الوضوء والطهارة، وأن الأصل في القدمين هو التساهل والتخفيف، فإن لم يكن ذلك كله دليلا بالإشارة والقصد على إجزاء المسح على الجوربين (التقاشير) ومشروعيتها، فلا معنى مفاهيم الإشارة والقصد في كلام الأصوليين والفقهاء.
لقد دعا الشيخ السريري إلى تضييق رحمة الله وإنزال الحرج بالمسلمين، ولم يستثن أي حالة يجزئ عندها المسح على التقاشير/الجوارب، بل جاء بما لم يجرؤ أي إمام بقوله، فزعم أن وضوء وصلاة الماسح عليها باطلان، وأن المسح لا يفعله من يخاف الله.
هكذا بكل تشديد وتعسير ختم الشيخ شريطه الأخير، خلافا للقرآن وهدي النبي البشير.
Source : https://dinpresse.net/?p=13814