سعيد الكحل
تضمن الخطاب الملكي أمام البرلمان (14أكتوبر 2022) خارطة طريق للحكومة تمكّنها من تفعيل توصيات لجنة النموذج التنموي بهدف إطلاق دينامية تنموية شاملة لكل القطاعات الإنتاجية والاجتماعية، وفي نفس الوقت القطع مع الأساليب الإدارية المعرقلة للاستثمار. من هنا نجد أن الخطاب الملكي أعطى كامل الأولوية لشروط تسريع وتيرة التنمية، سواء تعلق الأمر بتجويد القوانين، أو إصلاح الإدارة، أو بتشجيع وجلب الاستثمارات.
وكما نحج المغرب في بلورة نموذج تنموي يستجيب لمطالب وانتظارات كل فئات الشعب المغربي، فإن الحكومة مطالبة من جهة، بتفعيل توصيات لجنة النموذج التنموي، ومن أخرى، بأجرأة ميثاق الاستثمار الذي تمت المصادقة عليه في المجلس الوزاري الذي ترأسه جلالة الملك في 13 يوليوز 2022، والذي يهدف إلى جعل مساهمة القطاع الخاص في الاستثمار الإجمالي تتجاوز نسبة الثلث الحالية لتصل إلى نسبة الثلثين في أفق 2035 .
لأجل هذا جاء الخطاب الملكي مشددا على أهمية الاستثمار المنتج “کرافعة أساسية لإنعاش الاقتصاد الوطني، وتحقيق انخراط المغرب في القطاعات الواعدة؛ لأنها توفر فرص الشغل للشباب، وموارد التمويل لمختلف البرامج الاجتماعية والتنموية”.
ولا يتحقق هذا الرهان إلا بإعطاء “الميثاق الوطني للاستثمار، دفعة ملموسة، على مستوى جاذبية المغرب للاستثمارات الخاصة، الوطنية والأجنبية”. فخلال العقد الماضي الذي تولى فيه حزب العدالة والتنمية قيادة الحكومة، ظل جلالة الملك ينبه إلى ضرورة تشجيع الاستثمار عبر اعتماد إجراءات عملية تقطع مع البيروقراطية والمصالح الذاتية، وفي نفس الوقت الانفتاح على الطاقات والخبرات المغربية.
هكذا ركز جلالته في خطابه أمام البرلمان (أكتوبر 2016) على المعيقات الإدارية في وجه الاستثمار “إن الإدارة في المغرب تعاني من التضخم ومن قلة الكفاءة، وغياب روح المسؤولية لدى الكثير من الموظفين”؛ ليعود جلالته إلى نفس الإشكالية، في خطاب العرش 2018، فيرسم للحكومة الأوراش الواجب إنجاحها لدعم الاستثمار باعتباره قاطرة التشغيل والإنتاج: “والواقع أنه لا يمكن توفير فرص الشغل، أو إيجاد منظومة اجتماعية عصرية ولائقة، إلا بإحداث نقلة نوعية في مجالات الاستثمار، ودعم القطاع الإنتاجي الوطني”.
وحدد جلالته تلك الأوراش كالتالي:
أولها: إصدار ميثاق اللاتمركز الإداري.. وثانيها: الإسراع بإخراج الميثاق الجديد للاستثمار، وبتفعيل إصلاح المراكز الجهوية للاستثمار، وتمكينها من الصلاحيات اللازمة للقيام بدورها”.. “وثالثها: اعتماد نصوص قانونية، تنص: من جهة، على تحديد أجل أقصاه شهر، لعدد من الإدارات، للرد على الطلبات المتعلقة بالاستثمار، مع التأكيد على أن عدم جوابها داخل هذا الأجل، يعد بمثابة موافقة من قبلها”.
طبعا لم تتمكن حكومة البيجيدي من تحقيق المطلوب منها، ليس فقط لافتقارها إلى الكفاءات، بل أساسا لتهميشها وتبني، في المقابل، منظورا إيديولوجيا يحصر وظيفة الحكومة في توزيع المال العام بدل تنميته عبر تشجيع الاستثمار والابتكار.
لهذا، وحين أطلق جلالته “البرنامج المندمج لدعم وتمويل المقاولات” لفائدة المقاولين الشباب بنسبة فائدة ضئيلة (1.5% في المجال القروي، و2 % في المجال الحضري)، سارع فقهاء الحزب وعدد من قياداته إلى تحريم الاستفادة من تلك القروض التي اعتبروها “ربوية”.
للأسف لم يحدث أي تغير جوهري في أداء حكومة البيجيدي يجعلها تطلق دينامية الإصلاح وتشجيع الاستثمار، فجاء خطاب العرش لسنة 2019 لينتقد طبيعة القوانين المنظمة للاستثمار وتحجّر عقليات عدد من المسؤولين: “فإن القيود التي تفرضها بعض القوانين الوطنية، والخوف والتردد، الذي يسيطر على عقلية بعض المسؤولين؛ كلها عوامل تجعل المغرب أحيانا، في وضعية انغلاق وتحفظ سلبي. فالذين يرفضون انفتاح بعض القطاعات، التي لا أريد تسميتها هنا، بدعوى أن ذلك يتسبب في فقدان مناصب الشغل، فإنهم لا يفكرون في المغاربة، وإنما يخافون على مصالحهم الشخصية”.
عشر سنوات، إذن، أضاعت على المغرب فرصا مهمة، سواء في تشجيع وجلب الاستثمارات، أو تجويد القوانين عبر وضع منظومة عصرية منسجمة مع الدستور ومع المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، أو في القضاء على كل أشكال التمييز والعنف القائم على النوع. بل تم تعطيل الدستور وإفراغ نصوصه من محتواها عبر الالتفاف عليها (قانون 103.13 الذي لم يستجل للمطالب النسائية، هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز التي لم تر النور بعد).
وحرصا من جلالته على تجاوز العوائق وتدارك الفرص، جدد، في خطاب العرش 2022 الدعوة إلى تشجيع الاستثمار: “ندعو الحكومة والأوساط السياسية والاقتصادية، للعمل على تسهيل جلب الاستثمارات الأجنبية، التي تختار بلادنا في هذه الظروف العالمية، وإزالة العراقيل أمامها.لأن أخطر ما يواجه تنمية البلاد، والنهوض بالاستثمارات، هي العراقيل المقصودة، التي يهدف أصحابها لتحقيق أرباح شخصية، وخدمة مصالحهم الخاصة. وهو ما يجب محاربته”.
إن الحكومة الحالية، ورغم الظروف الدولية والمناخية الصعبة، فإنها تتوفر على خارطة طريق واضحة ومدققة (النموذج التنموي الجديد، خطب وتوجيهات جلالة الملك)، بحيث لن يكون لها أي عذر في إضاعة مزيد من الفرص، خصوص وأن جلالته أطلق من جديد دينامية الإصلاح بالدعوة إلى تعديل عميق لمدونة الأسرة.
ذلك أن الخطاب الملكي أمام البرلمان حدد للحكومة الإجراءات الضرورية الواجب اتخاذها، اختصارا للوقت، ومنها: “التفعيل الكامل لميثاق اللاتمركز الإداري، وتبسيط ورقمنة المساطر، وتسهيل الولوج إلى العقار، وإلى الطاقات الخضراء، وكذا توفير الدعم المالي لحاملي المشاريع”، تعبئة المؤسسات الوطنية والقطاع الخاص للنهوض بالاستثمار، “إعطاء عناية خاصة، لاستثمارات ومبادرات أبناء الجالية المغربية بالخارج”.
بل إن الخطاب الملكي سطر أهدافا ما على الحكومة إلا العمل على تحقيقها بالتعاون مع القطاع الخاص والبنكي قصد “تعبئة 550 مليار درهم من الاستثمارات، وخلق 500 ألف منصب شغل، في الفترة بين 2022 و2026”. أما ما يتعلق بإشكالية ندرة الماء التي هي إشكالية بنيوية، فإن الخطاب الملكي ألزم الحكومة، بمختلف قطاعاتها، باتخاذ الإجراءات الضرورية التالية: “أولا: ضرورة إطلاق برامج ومبادرات أكثر طموحا، واستثمار الابتكارات والتكنولوجيات الحديثة، في مجال اقتصاد الماء، وإعادة استخدام المياه العادمة.
– ثانيا : إعطاء عناية خاصة لترشيد استغلال المياه الجوفية، والحفاظ على الفرشات المائية، من خلال التصدي لظاهرة الضخ غير القانوني، و الآبار العشوائية.
– ثالثا : التأكيد على أن سياسة الماء ليست مجرد سياسة قطاعية، وإنما هي شأن مشترك يهم العديد من القطاعات”.
لا يمكن للحكومة أن تكون اجتماعية حقا وأن تنجح في تحقيق هذه الأهداف إلا إذا تجاوزت مكوناتُها الحسابات السياسوية الضيقة، وتجعل مصلحة الشعب والوطن فوق مصلحة الأحزاب والأفراد. لأجل هذا، هي مطالبة بفتح المجال أمام الكفاءات الوطنية، داخل المغرب وخارجه، للمساهمة في التنمية.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=18854