هل خدعنا بمسار الحداثة والتقدم في أوروبا باعتباره النموذج الوحيد للتطبيق؟!
محمد عادل زكي. باحث مصري
منذ بدأت في نقد الاقتصَاد السياسي، كعلم اجتماعي، أوروبي النشأة والنكهة، كانت الحداثة بالنسبة لي نمطا من التفكير جرى فرضه على العالم فرضا تحت ستار إعمال العقل وتقديس العلم، ولم تكن مجرد مرحلة تاريخية؛ وبالتالي لم أكن يوما من أولئك الذين ينظرون إلى الحداثة باعتبارها خلاصا، أو مرحلة ضرورية في تطور الْوعي الإنساني؛ إذ كنت دائما ما أنظر إليها كلحظة عنف، لحظة جرى فيها إعادة تشكيل العالم وفق منطق أحادي يزعم العالمية، ويدعي أستاذية العالم، بينما لا يعترف إلا بالذات الأوروبية التي أرخت للعالم ابتداء من تاريخها.
الحداثة لم تأت إلينا إلا محمولة على حراب المستعمرين، وعلى السفن التي رست على سواحلنا لتفرغ عقولنا من ذواتها، لا لتنهب خيرات بلداننا المنكوبة فحسب. لقد أتت الحداثة بكل عدوانية وليس عبر موسوعات الفلاسفة وكتب التنوير، كما تم تسويق ذلك وترسيخه في أذهاننا المستعمرة. فنحن، في هذا الجزء المنكوب من العالم، لم نولد داخل الحداثة، إنما صعقنا بها، تلقيناها كهجوم خارجي. كانت صدمة حضارية، كانت غارة سريعة على وعي هش، جرد من خصوصيته التاريخية.
لقد عايشت، عبر قراءتي لكتابات بتي، وكانتيون، وكينيه، وسميث، وريكاردو، ورامساي، ومالتس، ورودبرتوس، وماركس، كيف بنت الحداثة نفسها من خلال مفهوم السوق، وكيف تحول الاقتصاد من نشاط اجتماعي غائي إلى منظومة تنتج الإنسان كما تنتج السلعة. إن كل مفاهيم التقدم التي تسكن خطاب الحداثة، وكل مسلمات الحرية الفردية والعقلانية، كانت، في العمق، مجرد أدوات لإعادة إنتاج السيطرة وليس لتحرير البشر.
ماركس ذاته، الذي حاول أن ينتزع هذا الْوعي من قبضة الرأسمال، سقط هو نفسه في فخ الحداثة حين افترض أن التاريخ يسير وفق خط تطوري واحد يستلهم تطوره من تاريخ أوروبا، وأن المجتمعات جميعها ستسلك الطريق ذاته.
الحداثة، كما وصلت إلينا، كانت بمثابة نظام مغلق، وليست سؤالا نقديا مفتوحا، نظام يفرض منطقه كقانون طبيعي، ويقيس كل ما عداه بوحداته. حتى الزمن، الذي كنت أدرسه كعامل مغفَل في تشكيل القِيمة، تم تحويله داخل خطاب الحداثة إلى أداة انضباط، وسلاح بيد الرأسمال لتنظيم الحياة وليس من أجل تحريرها من عبثيتها وقسوتها. ولذلك، فإن معركتي الفكرية مع الحداثة لم تكن إلا مع جوهر المصطلح، مع بنيته التي احتقرت كل ما هو خارجها، وحولت العالم إلى سوق واحدة، ومصنع واحد، وتاريخ واحد.
ولهذا فإن مناهضة الحداثة لا تعني العودة إلى الوراء، بل تعني التمرد على سلطة الوصاية الفكرية، على الفرضية التي تجعل من مسار أوروبا المسار الوحيد الممكن تاريخيا. لقد خدِعَنا كثيرا بخطاب التقدم، وعلينا أن نتوقف. ليس لأن التقدم في ذاته باطل، إنما لأن المقياس الذي صاغوه للتقدم لم يبْنَ علينا، ولا من أجلنا، إنما بنِي ضدنا.
لا يستقيم أن نقيس تحررنا بمقاييس من سلبونا أرواحنا الخلاقة. ولا معنى لأي وعي نملكه إذا كان منسوخا عن أداة الهيمنة نفسها. ومن ثم، فالسؤال لم يعد: “كيف نلتحق بالعصر؟”، إنما: “أي عصر نريدأن نخلق؟”.
التعليقات