دين بريس ـ سعيد الزياني
تتهيأ منطقة الشرق الاوسط لحدث مفصلي قد يعيد تشكيل جغرافيتها السياسية والعسكرية لعقود قادمة، فكل المؤشرات، من المناورات العسكرية الإسرائيلية إلى لهجة التهديد التي يستخدمها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تشير إلى أن ضربة عسكرية ضد إيران لم تعد مجرد احتمال نظري، بل سيناريو يتم التحضير له على أعلى المستويات.
هذه الضربة، التي توصف بأنها قد تكون الأعنف منذ الحرب العالمية الثانية ضد دولة ذات سيادة، لا تستهدف فقط المشروع النووي الإيراني، بل تمتد لتضرب قلب النظام، ممثلا في الحرس الثوري، وتفتح الباب أمام تغييرات داخلية قد تصل إلى إسقاط السلطة القائمة في طهران.
وتدخل إسرائيل في صلب هذا السيناريو ليس أمرا عابرا، بل هو تجل لرؤية استراتيجية تعتبر أن منع إيران من امتلاك قدرة نووية هو مسألة بقاء، إلا أن أي ضربة توجهها إسرائيل، سواء منفردة أو بالشراكة مع واشنطن، ستواجه برد عنيف، ليس من طهران فقط، بل من شبكة حلفاء إيران الممتدة على طول الجغرافيا من بيروت إلى صنعاء، هذا الرد لا ينتظر أن يكون تقليديا، بل سيكون موزعا، متزامنا، وغير قابل للاحتواء بسهولة.
ويعتقد المتابعون أن الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة الانتحارية ستنطلق من عدة جبهات، لتضع منظومات الدفاع الإسرائيلية أمام اختبار قد يتجاوز قدرتها على الاحتمال.
وتعرف طهران، كما يعرف خصومها، أن الضربة الجوية بحد ذاتها لن تسقط النظام، لكن الرهان هو على تفجير الداخل الإيراني من خلال خلق صدمة تضعف الحرس الثوري وتفكك قبضته على الشارع، غير أن هذا التصور يغفل الطبيعة المتجذرة للمؤسسات الأمنية الإيرانية، وقدرتها على إعادة التموضع والتعبئة في حالات الطوارئ.
ما زال النظام في طهران، رغم كل ما يعانيه داخليا، يملك أدوات الضبط والردع، ومخزونا من الغضب الشعبي يمكن توجيهه ضد “العدو الخارجي” بدل الداخل المنهك، لذلك، فإن أي حسابات تراهن على إسقاط سريع تبدو أقرب إلى الرغبات منها إلى الواقع.
على مستوى واشنطن، تنقسم المؤسسات بين تيار يدفع نحو الحسم العسكري، وآخر يحذر من تبعات الانجرار إلى حرب شاملة في منطقة متفجرة أصلا، ويواجه دونالد ترامب، الذي يصعد لغته حيال طهران، داخليا مقاومة من دوائر استخباراتية وعسكرية تدرك أن سيناريو ما بعد الهجوم قد يكون أكثر تعقيدا مما حدث في العراق وأفغانستان.
الضربة، إن حصلت، ستضرب عمق الدولة الإيرانية، لكنها ستطلق أيضا موجات من الردود غير المتناظرة، من استهداف المصالح الأميركية في الخليج، إلى تعطيل الملاحة في مضيق هرمز، وربما استهداف القواعد الأميركية من العراق إلى المحيط الهندي.
وتدرك الصين، التي تتابع التصعيد من خلف ستار الوساطات الدبلوماسية، أن تفجير الوضع مع إيران سيتجاوز حدود الإقليم، وأي حرب في الخليج تعني اختناقا في شرايين النفط، وتعطيلا لممرات التجارة العالمية، واضطرابا في الاقتصاد الدولي، ومن هذا المنطلق، ترفض بكين بشدة أي عمل عسكري، وتصر على الحلول السياسية باعتبارها المسار الوحيد القابل للاستدامة، لكنها في الوقت نفسه، تعد نفسها لتكون وسيطا محوريا بعد الضربة، في حال لم يكن بالإمكان منعها، فتسعى لتعزيز موقعها كقوة دولية بديلة لواشنطن في إدارة أزمات الشرق الأوسط.
أما روسيا، فتدخل المعادلة من زاوية مختلفة، فموسكو، التي تقاتل على جبهات متعددة، لا يمكنها تحمل انهيار إيران، الحليف الجيوسياسي والثقل الإقليمي، لذلك، فإنها ترفع منسوب تحذيراتها، وتصف الضربة بأنها “كارثية”، وتلوح بتداعيات غير قابلة للاحتواء إذا تم استهداف المنشآت النووية الإيرانية.
و لا تسعى موسكو للدخول في حرب مع واشنطن بسبب طهران، لكنها ترى في الهجوم فرصة للضغط على الغرب في ملفات أخرى، وستستثمر التصعيد، إن وقع، لتقوية جبهتها الدبلوماسية، وتبرير سياساتها التوسعية، والظهور بمظهر المدافع عن الشرعية الدولية.
أما دول الخليج، فرغم خلافاتها القديمة مع إيران، لا تنظر بارتياح إلى تصعيد بهذا الحجم، فبين الخوف من الترسانة الإيرانية والقلق من انكشاف جبهاتها الداخلية، تجد نفسها بين مطرقة الترحيب بالردع وسندان الفوضى القادمة.
ولا يمكن لأي دولة خليجية أن تضمن النجاة من الصواريخ والمسيرات التي قد تنطلق من اليمن أو العراق أو إيران ذاتها، كما أن أسعار النفط، وإن ارتفعت في البداية، قد تؤدي إلى صدمة اقتصادية عالمية تأتي بنتائج عكسية على المدى الطويل.
ويكشف التهديد الإيراني بالرد خارج الساحات التقليدية – بما في ذلك استهداف القاعدة الأميركية البريطانية في جزيرة دييغو غارسيا – نية طهران في كسر الطوق، ونقل المعركة إلى قلب المنظومات العسكرية الغربية، إنه تصعيد استراتيجي يتجاوز فكرة الدفاع عن النفس، ويعكس تحولا في العقيدة العسكرية الإيرانية نحو الهجوم الوقائي، هذا النوع من التفكير لا ينطلق من منطق رد الفعل، بل من حسابات القوة والتأثير والردع الاستباقي، وهو ما يجعل احتمال تحول الضربة المحدودة إلى حرب إقليمية واسعة النطاق أمرا واردا بشدة.
اقتصاديا، ستكون العواقب سريعة وشاملة، وسيتسبب ارتفاع أسعار النفط في تضخم عالمي جديد، خاصة في ظل هشاشة اقتصادات أوروبا وشرق آسيا، فالتجارة البحرية ستتأثر بشكل مباشر، لا سيما في مضيق هرمز وباب المندب، والشركات العالمية ستعيد حساباتها، وأسواق المال ستشهد موجات من الهلع، هذا الانهيار المحتمل سيتزامن مع تصاعد الضغوط الاجتماعية داخل الدول الكبرى، ما قد يؤدي إلى موجات من السخط الشعبي، وتغيير في المزاج السياسي الداخلي.
في جوهر المسألة، يشكل الهجوم المحتمل على إيران لحظة كاشفة لحقيقة ميزان القوى في النظام الدولي، فهل ستبقى واشنطن قادرة على فرض إرادتها بالقوة؟ وهل ستنجح إيران في تحويل الضربة إلى فرصة للتمدد السياسي والدبلوماسي؟ وهل تستطيع إسرائيل أن تتحمل حرب استنزاف طويلة؟ وكيف ستعاد صياغة التحالفات الإقليمية إذا انفجر المشهد؟
كل هذه الأسئلة لا تملك إجابات سهلة، لكن المؤكد أن العالم، إذا دخل في لحظة القصف، فلن يخرج منها كما كان قبلها، والضربة لن تكون مجرد فعل عسكري، بل زلزالا جيوسياسيا يعيد ترتيب خرائط النفوذ، ويخلط الأوراق في الشرق الأوسط والعالم.