30 مايو 2025 / 12:48

هل انتهى نفوذ الإخوان المسلمين في فرنسا؟

سعيد الزياني ـ دين بريس
تطرح مسألة مستقبل تنظيم الإخوان المسلمين في فرنسا في المرحلة الراهنة تساؤلات متجددة داخل الأوساط الفكرية والسياسية والإعلامية، بالنظر إلى تعدد أبعاد الحضور الذي حافظ عليه التنظيم على الرغم من الضغوط المتزايدة.

وإلى جانب البنية التنظيمية المعقدة التي تميز مساراته، يعزى استمرار الجدل إلى تشابك الأدوار التي يؤديها التنظيم داخل المجتمع الفرنسي بين ما هو دعوي واجتماعي وثقافي واقتصادي، وهي تشابكات مكنته من التموقع داخل مؤسسات وجمعيات متعددة، ومنذ نشأته في مصر عام 1928، اعتمد التنظيم استراتيجية توسعية سعت إلى تأسيس شبكات في أوروبا، مستفيدا من السياقات السياسية والقانونية التي تتيح حرية العمل الجمعوي والديني، وقد مثلت فرنسا مجالا مركزيا ضمن هذا الامتداد، اعتبارا لحجم الجالية المسلمة فيها.

يصعب تناول مسألة نهاية التنظيم دون الأخذ بعين الاعتبار تمركزه داخل عدد من البنيات الجمعوية والدينية، وهي بنى ما تزال تنشط ضمن منظومات قانونية قائمة، مستفيدة من ثغرات في التشريعات المتعلقة بالجمعيات الدينية والتعليمية، وتشير معطيات استخباراتية إلى استمرار تأثير التنظيم من خلال كيانات مثل “مسلمو فرنسا” أو معهد العلوم الإسلامية (IESH)، فضلا عن مشاركته في فعاليات ضخمة كملتقى اتحاد المنظمات الإسلامية، حيث يعكس هذا الحضور طيفا من الروابط الفكرية والتنظيمية المترسخة رغم غياب الاعتراف المؤسسي المباشر بالانتماء إلى الإخوان، وتؤدي مصادر التمويل الأجنبية، وعلى رأسها التمويلات المرتبطة بجهات قطرية وتركية، دورا مهما في تعزيز استمرارية هذه الكيانات، وفق ما ورد في التقارير الفرنسية الأخيرة.

وتعامل السلطات الفرنسية مع هذا التنظيم لا يقوم على اعتباره جماعة عنفية مباشرة، بل شبكة مرنة قادرة على استغلال الحريات المكفولة في النظام الجمهوري لبناء نفوذ ناعم ومؤثر، وتوصف وزارة الداخلية التحدي القائم باعتباره ثقافيا ومؤسساتيا أكثر مما هو أمني صرف، نظرا لأن التنظيم يسعى إلى إحداث تحول تدريجي في البنية القيمية للمجتمع، بما يفسر التوجس الرسمي من تمدده داخل المجالات التربوية والدعوية والاقتصادية.

وعلى عكس من ذلك، يقدم بعض الباحثين مقاربات مختلفة، مثل طرح “مالك بوزو” الذي يشير إلى أن ما يهيمن فعليا على التدين لدى شرائح من الشباب المسلم في فرنسا ليس فكر الإخوان، بل المرجعيات السلفية الوهابية التي تخلق أنماطا من الانعزال عن المحيط الاجتماعي والثقافي.

غير أن هذه الرؤية، وإن كانت تسلط الضوء على نزعات تشدد أخرى، لا تنفي الدور الذي تلعبه شبكات الإخوان في تأطير جزء من الحراك الجمعوي داخل الضواحي، وهو حراك يعبر عن نفسه عبر مؤسسات تبدو معتدلة لكنها تتبنى خطابا دينيا يسعى إلى التأثير في قواعد التعايش داخل الجمهورية.

وبخصوص الشق الاقتصادي من نشاط التنظيم، فهو لا يقل أهمية، حيث عملت الجماعة على تطوير واجهات مالية وتجارية ضمن قطاعات مثل تجارة “الحلال”، وهو ما كشفته تقارير أوروبية ربطت بعض الكيانات المرتبطة بالإخوان بشبكات وبتحويلات مالية غير شفافة، وتوظف هذه الموارد في تمويل أنشطة دعوية وتعليمية، كما تتيح للتنظيم الاستمرار في ترسيخ حضوره ضمن فضاءات يصعب تتبعها بالوسائل التقليدية.

من جهة أخرى، تنسق الواجهات الإخوانية في فرنسا مع نظيراتها في دول أوروبية أخرى، ما يعزز من قدرتها على المناورة عبر الحدود، وتشير تقارير ألمانية إلى نمط من التسلل عبر منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، ما يزيد من صعوبة المواجهة القانونية مع جماعة تنشط تحت عناوين مشروعة ظاهرا لكنها تخفي أجندات بعيدة المدى، وتستخدم مفاهيم مثل “الإسلاموفوبيا” أداة في معارك الخطاب للدفاع عن هذه الكيانات وتوسيع دائرة التعاطف معها داخل الأوساط الحقوقية والسياسية.

ويتمركز الحضور الجمعوي المرتبط بالإخوان بشكل خاص في الضواحي ذات الأغلبية المغاربية، وهي مناطق شهدت اختلالات في مسار الاندماج، الأمر الذي استغلته الجماعة لبناء شبكاتها باعتبارها فاعلا بديلا عن الدولة في مجالات التربية والدين وتقديم الخدمات الاجتماعية، ورغم تبني الدولة الفرنسية قوانين جديدة مثل “مبادئ الجمهورية” لمحاصرة هذا التمدد، فإن التنظيم ما زال يجد منافذ قانونية لمواصلة أنشطته، خاصة عبر الجمعيات التعليمية والثقافية والرياضية.

وتظل المساجد مجالا رئيسيا لبسط النفوذ، سواء بشكل مباشر أو عبر أئمة محسوبين على الجماعة، وتزايدت المطالب السياسية بحظر بعض هذه الكيانات، خاصة من قبل تيارات اليمين، التي تعتبر أن تنظيمات مثل “Musulmans de France” تمثل امتدادا استراتيجيا لفكر الإخوان داخل المجال الديني الفرنسي.

وبالرغم من أن الدعوة إلى تصنيف التنظيم كجماعة إرهابية في فرنسا تعيد إنتاج توجهات مماثلة في النمسا وألمانيا، فإن السياق القانوني الفرنسي يجعل هذا التصنيف أكثر تعقيدا بسبب غياب كيان رسمي يحمل اسم “الإخوان المسلمين”، مما يستدعي إجراءات قانونية جديدة تسمح بالتصدي للشبكات غير المرئية التي تنشط تحت أطر قانونية قائمة.

ويطرح في هذا السياق تحديات أمنية وأيضا تحديات اجتماعية ترتبط بإشكالية المجتمعات الموازية التي بدأت تتشكل في بعض الضواحي الفرنسية، هذه المجتمعات تنشأ وفق أنماط حياة وقيم تتباين أحيانا مع المبادئ الجمهورية الفرنسية، ويعزى جزء من ذلك إلى النشاط التراكمي لتنظيمات دينية تسعى إلى تعبئة الهويات والانتماءات الدينية بوصفها مرجعية بديلة، وفي المقابل، يغذي هذا التمايز الخطابي والسياسي صعود تيارات يمينية متطرفة تعتبر أن التعددية الثقافية تمثل تهديدا للهوية الوطنية، ما يضع الدولة الفرنسية بين خطرين متقابلين: التمدد غير المرئي لحركات الإسلام السياسي من جهة، والانغلاق الهوياتي اليميني من جهة أخرى.

وبالرغم من أن التنظيم تلقى ضربات قوية في المنطقة العربية بعد الإطاحة به من الحكم في مصر، وتراجع نفوذه في دول الخليج، فإن ما حصل لم ينعكس بشكل مباشر على بنيته في فرنسا، فلا يزال يحتفظ بمرونة تنظيمية وقدرة على التكيف مع المتغيرات، ويبدو أنه بصدد إعادة تموضع استراتيجي ضمن ما يمكن تسميته بمرحلة “الكمون الدفاعي”، حيث يتم التركيز على تثبيت النفوذ داخل الهياكل المدنية والدينية القائمة دون إثارة انتباه سياسي كبير.

ومن ثم، فإن الحديث عن نهاية تنظيم الإخوان في فرنسا لا يبدو دقيقا في ظل المعطيات الحالية، فالتنظيم غير من أساليبه وأدواته، وانتقل من الفعل العلني إلى الفعل المتخفي (حسب التقرير الفرنسي)، موظفا أدوات ضغط اجتماعي واقتصادي وثقافي يصعب تتبعها في ظل الإطار القانوني المعمول به.

وهذا الواقع يستدعي من الدولة والمجتمع المدني التفكير في مقاربات جديدة لا تقتصر على الحلول الأمنية، وإنما تشمل مراجعات على مستوى التأطير الديني والتمويل الخارجي والتعليم الديني، بما يضمن إعادة التوازن داخل الفضاء العمومي ويحول دون تحول الدين إلى وسيلة لإعادة إنتاج الولاءات التنظيمية.