5 أغسطس 2025 / 15:12

هل التاريخ وهم؟ أم أن وهم نقده أكبر؟

عبد الحي السملالي

في مقاله المنشور على “دين بريس”، يطرح الدكتور عماد فوزي شُعيبي أطروحة جذرية عنوانها: “من إشكاليات علم التاريخ: وهم التاريخ”. مقاله ليس مجرد ملاحظة منهجية، بل هجوم شامل على علم التاريخ كممارسة معرفية، إذ يعتبره سردًا غير يقيني، مشحونًا بالفرضيات، قابلًا للتزييف، ويُستخدم كتعويذة سياسية أكثر من كونه علمًا قابلًا للفهم أو التحقق.

لكن، هل هذه الأطروحة قوية بما يكفي لتقويض بنيات التاريخ؟ أم أنها تفتح بابًا لمساءلة أعمق حول كيف ننتقد التاريخ دون أن نقع في وهم جديد… وهم الإلغاء؟

بين الموقف الفلسفي والتناقض المفهومي

يرى شُعيبي أن الحدث التاريخي لا يتكرر، ولا يمكن استعادته، ما يجعله فرديًا صرفًا وأقرب للمُعاش منه للمفهوم. لكن في المقابل، يبني نقده على تعميمات تشمل كل سردية وكل توظيف سياسي، ما يُدخل مقاله في تناقض مفهومي: إذا كان التاريخ غير قابل للاستعادة، فكيف نقرر أن جميع تأويلاته وهم أو تزوير؟ أليس هذا بدوره تأويلًا؟

هل نفي الوثيقة يُلغي المعرفة؟

المقال ينكر إمكانية التحقق من المصادر والوثائق التاريخية، ويعتبرها أحيانًا محض “اختراع ذهني”، ويصف شهود العيان بأنهم منحازون ومشوّشون. لا خلاف في أن الوثيقة ليست بريئة، ولكن هل نفيها بالكامل يعني نفي إمكانية الفهم؟ التاريخ لا يُطلب فيه اليقين المطلق، بل يُمارَس ضمن درجات من التحليل النقدي والمقارنة والمراجعة. ما يقدمه المقال هنا هو نفي جذري يُفضي إلى عدميّة معرفية، لا مساءلة منهجية.

المفارقة الكبرى: تأويل التاريخ لرفض التأويل

ينتقد الكاتب تحويل التاريخ إلى فلسفة أو سردية تحمل “قصديّة” و”روحًا”، لكنه في ذات الوقت يُمارس هذا التحويل: يتحدث عن التاريخ كمجال رمزي، بوظيفة سياسية، ويُسقط عليه مفاهيم من خارج الحقل (كالفيزياء الكوانتية والنيوتونية). بعبارة أخرى: يمارس تأويلًا وجوديًا للتاريخ بينما يرفض كل تأويل آخر. وهذا يجعل نقده محاصرًا بمنطقه الخاص.

شتالييه والتاريخ كمُلهم… فهل الإلهام تزوير؟

يستشهد شُعيبي بفرانسوا شتالييه ليقول إن وظيفة التاريخ اجتماعية وسياسية، لا علمية. ثم يقرّ بأننا “نستخدم التاريخ كحكمة مستقبلية”، ويعتبر ذلك تعويذة أو محاولة سيطرة وهمية على الزمن. لكن، أليس هذا من صميم ما يجعل للتاريخ قيمته؟ الإلهام، مهما بلغ من الذاتية، هو أحد أبعاد التفكير في التاريخ، وليس تزويرًا معرفيًا بالضرورة. الخلط بين الوظيفة التأويلية والاستخدام الدعائي يضعف النقد بدل أن يُعمّقه.

هايدغر والزمن: نحو فهم لا يتوقف عند الحدث

في المقابل، ينبهنا مارتن هايدغر إلى أن الزمن لا يُفهم من خلال الأحداث وحدها، بل من خلال وجودنا داخل الزمن. يقول:
“لا يمكن أن نفهم التاريخ إلا إذا فهمنا أن وجودنا دائمًا في علاقة مع الزمن، لا كماضٍ مضى، بل كممكن دائم التشكل.”
(عن الكينونة والزمان)

هذا التأويل يفتح التاريخ على الزمن الوجودي، لا السردي فقط، ويُذكّرنا أن غياب الدقة لا يعني غياب المعنى، وأن كل سرد هو علاقة بالكينونة قبل أن يكون مادة معرفية.

في الختام: هل التاريخ سردية؟ نعم، ولكن…

التاريخ ليس علمًا تجريبيًا كيميائيًا، ولا هو سردية مُطلقة غير قابلة للفهم. إنه مجال بيني، تتقاطع فيه الوثيقة، الشهادة، السياق، والخيال التأويلي. من هنا، فإن الجزم بأنه مجرد “حكايات غير قابلة للتأكيد” هو اختزال يُلغي إمكانيات النقد بدل أن يفتحها.

وهنا يُذكّرنا بول ريكور أيضًا بأن:
“الخيال ليس عدوا للحقيقة؛ بل هو السبيل الذي يُتيح لنا إعادة تمثّل ما لم نعد نستطيع رؤيته.”
(عن التاريخ والسرد)

تاريخنا، إذًا، ليس وهمًا حين نُدرك حدوده التأويلية، بل يصبح أفقًا لفهم الذات والمجتمع، إذا تعاملنا معه بوعي لا بانفعال، وبنقد لا بنفي.

التاريخ ليس وهمًا، ولكنه قابل لأن يُوهَم به.