في دراسة حديثة أعدها الباحث “فيليب تروسكوت” ونُشرت أخيرا في مجلة “علم الاجتماع والمسيحية”، كُشف النقاب عن علاقة مذهلة بين تراجع الانتماء الديني وارتفاع معدلات الجريمة والانتحار في الولايات المتحدة.
دراسة جديدة تكشف العلاقة بين تراجع الإيمان وارتفاع معدلات الجريمة
هذه الدراسة، التي تثير في النفس تساؤلات عميقة حول دور الإيمان في تهذيب السلوك وصيانة الأخلاق، تستدعي تأملا متأنيا في النصوص القرآنية التي استبقت هذا النقاش، محذّرة من الانفلات القيمي، وراسمة سبل الوقاية والعلاج.
ترتكز الدراسة على إحصاءات دقيقة تُظهر أن الولايات ذات النسبة الأعلى من غير المتدينين -أو من يُعرفون بـ”النونز”- تسجل معدلات مرتفعة من الجرائم والانتحار.
ويُفسَّر هذا الواقع عبر نظرية التحكم الذاتي، التي ترى في الدين أكثر من مجرد عقيدة روحية؛ إذ يمثل قوة ضابطة تُكبح بها النزوات، ويوجَّه بها الإنسان نحو الرشد والاستقامة. فعندما يتفكك هذا الرباط المقدس، يجد المرء نفسه أسير أهوائه، متعثرا في هاوية الفساد.
وتلفت الدراسة إلى أن الانتحار قد يكون انعكاسا مباشرا لفقدان الأمل وغياب الإيمان، وهو ما يتوافق مع التحذير القرآني: “وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” (النساء: 29).
فالانتحار، في جوهره، هو استسلام داخلي قبل أن يكون انهيارا جسديا، وهو ناتج عن فقدان البعد الإيماني الذي يضيء ظلمات اليأس ويمنح القلب سكينة وثباتا حتى في أحلك اللحظات.
إن المجتمعات التي تعاني من الفوضى الأخلاقية والانحراف السلوكي عليها أن تعيد النظر في موقع الدين، ليس باعتباره طقوسا تُؤدّى، بل بوصفه نظاما أخلاقيا يحمي النفس من الاندفاعات، ويُقوّم السلوك نحو الاستقامة.
وإذا كان الباحثون في الغرب يراجعون مواقفهم من الدين بعد صدمات الإلحاد، فإن القرآن ـ وفي كل زمان ـ يقدّم منظومة متكاملة للوقاية من الفساد وبناء مجتمعات مزدهرة بالعدل والقيم.
أعتقد أنه آن الأوان لتوجيه البحث العلمي نحو كشف خبايا الإيمان ومقتضياته، ليس كاصطلاح تجتره الألسنة في الزوايا والأقبية والمدرجات، وإنما كمادة علمية تخضع لأدوات الفحص والقياس والمعايرة والتحليل في المختبرات ومراكز البحث العلمي..
وسأضرب بعض الأمثلة التي تحتاج فعلا إلى أدوات مخبرية مثل جهاز الأشعة تحت الحمراء، وأجهزة التحليل الطيفي، والميكروسكوبات، وأجهزة الأشعة السينية وغيرها كثير، من أجل ربط ما نعتقده غيبا بعالمنا المادي.
وأولئك الذين تتبّعوا عن كثب ما أفرزته أحدث الأبحاث العلمية، وهي تغوص في أعماق المختبرات، تبحث في خيوط خفية عن ممرّات تقود إلى أسرار الغيب، لن يلبثوا طويلا حتى يوقن المرتابون منهم بأن ملامح عصر بشري جديد تلوح في الأفق..
هذه بعض القضايا القرآنية التي تستدعي إجراء دراسات “مخبرية” وليست “إسلامية”:
ـ الاستغفار ونزول المطر: يقول الله تعالى: “وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ” (هود: 52). هل هناك علاقة بين الاستغفار الذي هو كلام ونزول المطر؟ وكيف يتحول الكلام إلى مادة؟ هذا مبحث يستدعي دراسات علمية متقدمة.
ـ الإيمان والأمن الاجتماعي: يقول الله تعالى: “الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ” (الأنعام: 82). هل يمكن للمراكز الأمنية والاستخبارية أن تفحص العلاقة بين الإيمان والأمان النفسي والمجتمعي؟ وما علاقة الظلم بغياب الاستقرار السياسي والاجتماعي؟.. وكيف يؤثر مفهوم الإيمان الذي نعتقد أنه غيب على مفهوم الأمن الذي نعتبره تجليا ماديا في حياتنا؟
ـ الإيمان والرخاء الاجتماعي: يقول الله تعالى: “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ” (الأعراف: 96). كيف يمكن تفسير هذه العلاقة بين الإيمان والرفاهية الاقتصادية؟ وهل توجد دلائل علمية على تأثير التقوى في تحقيق الرخاء؟
ـ الربا والأزمات الاقتصادية: يقول الله تعالى: “الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ” (البقرة: 275). ألا يمكن أن يُفسَّر هذا النص كمؤشر على العلاقة بين الربا والأزمات الاقتصادية والنفسية التي تعصف بالمجتمعات المعاصرة؟ وهل هناك تأثير مادي للربا على حياة الإنسان؟ إنه من المفروض كشف هذا الترابط الحسي..
ـ الشيطان وتأثيره النفسي والجسدي: تشير الآيات إلى دور الشيطان في النزغ والتزيين والتخويف والتحنيك وتغيير الخلق وإثارة العداوات: (“وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ”. “إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ”. “الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ”…) ما علاقة الشيطان، الذي هو غائب عن أبصارنا، بأمور حسية وتأثيرات ملموسة في واقعنا اليومي؟ أليس من المفروض أن يستفز ذلك علماء المادة؟؟
إن الأبحاث الفيزيائية الحديثة تفتح نوافذ نحو ما وراء المادة، ما يشير إلى استعداد العالم لاستكشاف أبعاد جديدة في دراسة الإيمان وتأثيراته الحسية. وليس من المستغرب أن يفضي هذا الاهتمام إلى اكتشافات تغيّر فهمنا للعلاقة بين الدين والعالم المادي.
إن دراسة “فيليب تروسكوت” ما هي إلا إشارة أولى في طريق طويل من البحث العلمي الذي يحتاج إلى الغوص في النصوص الدينية ليس بوصفها نصوصا جامدة، بل كمصادر معرفية تُلهم العلوم الحديثة، وتضع اللبنات الأولى لنهضة فكرية تتجاوز حدود المادة إلى أبعاد الإيمان.
ربما سنعود—بإذن الله—إلى هذا الموضوع المهم والهام في مقالات قادمة، مستعرضين ما تجود به الأبحاث المتقدمة التي يجريها ـ خاصة ـ بعض الأصدقاء المقربين، في مجال الحوار مع القرآن ومحاولات الربط بين عالمي الغيب والشهادة..
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22472