2 يونيو 2025 / 16:36

هشام جعيط وقضايا الهوية والحداثة والكونية

عبد الجليل طليمات

منذ أربع سنوات رحل المفكر والمؤرخ التونسي الكبير هشام جعيط بعد مسار فكري طويل وعريض أغنى فيه الحقل الثقافي العربي بأعمال رائدة تناولت التاريخ الثقافي والسياسي العربي الإسلامي الوسيط والمعاصر، وإشكاليات الحداثة والنهضة والتقدم في علاقتها الجدلية مع مسألة الهوية، محللا بمبضع المؤرخ الرصين والمفكر النقدي الهزة العنيفة التي احدثتها الحداثة في الوعي العربي الاسلامي، وما خلفته من “شعور تراجيدي بصراع الفكر والوجدان والخارج والداخل والتاريخ والهوية، وهو مازال قائما إلى اليوم..” (في السيرة النبوية، ج 2ص 10).

لا شك في أن مؤلفات جعيط المؤرخ: “الفتنة، جدلية الدين والسياسة في الإسلام”، و”الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية “، وثلاثية ” في السيرة النبوية ” هي أعمال تأسيسية، ستظل مرجعا لا غنى عنه في أي مقاربة للإسلام من منظور تاريخي نقدي تروم بناء معرفة به في تاريخيته، وفي مساراته الواقعية، لا الخرافية أو المتخيلة.

في كتابيه ” أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحداثة”، و “أزمة الثقافة الإسلامية” وغيرهما من المؤلفات الفكرية، تناول جعيط إشكالية الحداثة والهوية في مجتمعات التأخر التاريخي، وبخاصة علاقة المسلمين بها، مشددا على الطابع الكوني للحداثة، وعلى حتمية الأخذ بمنظومة القيم الإنسانية المؤسسة لها، فرغم اختلاف نماذجها وخصوصيات تجاربها (كتجارب الصين واليابان والهند..) فإن ذلك لا يلغي كونيتها، إذ، كما يؤكد: “ليست هناك حداثة غربية وحداثة إسلامية وأخرى صينية وأخرى هندية أو إفريقية..، فهذه واحدة في جميع أبعادها” (ص 31). وعليه، فإن خصوصيات المجتمعات والهويات الحضارية لا تتعارض مع الطابع الكوني للحداثة “فأن يجري الحديث عن الخصوصيات لدحض قيم الحداثة، فهذا نفاق كبير وتضليل عظيم ” (كتاب: أزمة الثقافة الإسلامية ص31).

من هذا المنطلق، انتقد جعيط التيارات الفكرية المناهضة للحداثة الغربية باسم الدفاع عن الهوية، ودعا إلى الأخذ بقيم ومفاهيم ومنجزات الحداثة الغربية، يقول مدققا و”محاججا”: ” حتى لو فرضنا أن الغرب مليء بالمساوئ، فهذا لا يمنع من أن القيم الإنسانية التي ابتدعها الفلاسفة والمفكرون فيه، منذ القرن السادس عشر، لها وجاهة في حد ذاتها ” (ص 15)، فكونية و”وجاهة ” قيم الحداثة وأسسها الفلسفية تفرض علينا، بالضرورة، الانفتاح عليها واستيعابها وتمثلها إذا ما أردنا تجاوز التأخر التاريخي والانخراط في العصر، والبقاء داخل التاريخ لا على هامشه”.

وفي معرض نقده للتصور المتزمت الجامد للهوية، يبرز هشام جعيط أن الحداثة لم تلغ الهويات والمنظومات المرجعية، الدينية واللغوية والثقافية للمجتمعات التي ولجت الحداثة الفكرية والسياسية بما في ذلك المجتمعات التي اختمرت ونشأت فيها وتشبعت بقيم العقلانية والعلمانية والإنسانوية، وتبنتها كنمط تفكير وحياة، مؤكدا أن ” لا شيء في الحداثة يهدد الهويات العرقية واللغوية والدينية والثقافية، بل العكس، فالإسلام مثلا ينتشرا كثر فأكثر بسبب الحداثة وليس للاحتجاج ضدها”.

لقد توقف هشام جعيط كثيرا، وبعمق، عند الاستلهام الخلاق للحداثة الغربية في التجارب اليابانية والصينية والهندية التي ولجت الكونية من باب ما هو خصوصي، مستخلصا أن الهوية على عكس ما يزعمه حراسها، تنمو وتغتني وتزدهر بأخذ مكتسبات الحداثة، لا بالانغلاق على الذات باسم الدفاع عن الهوية، وبالتالي فإن تحقيق العرب وابتكارهم “لنموذج خصوصي” لحداثتهم غير ممكن ” إلا إذا قرروا بصفة جدية الأخذ عن الغير، وما أبدعته الحداثة في كل الميادين”.

ولأن مجيء مجتمعات التأخر التاريخي إلى الحداثة الفكرية والسياسية ليس بالأمر اليسير بفعل عوائقها المتجذر ة، والراسخة في البنية الفكرية التقليدانية، وفي التمثلات الخاطئة والجامدة للذات وللآخر، فانه، ينبه جعيط، لايكفي ترديد مفاهيمها المجردة المؤسسة لها ( حرية، ديمقراطية، علمانية، العقلانية.. إلخ) لكي تصير واقعا معاشا، فالمجيء إليها (=الحداثة)، يقتضي “مسارا تاريخيا طويلا من التراكمات والتحولات في مختلف المجالات، الاقتصادية والسياسية والثقافية وفي البنيات الذهنية والاجتماعية”

إن المجيء إلى الحداثة، لا يتحقق، اذن، بحيازة منتجاتها التقنية، فهي باعتبارها منظومة فكرية وقيمية وسياسية، اي كلا لا يتجزا تقتضي قطع ” مسار شاق وصعب وطويل، وهو يستدعي ثلاثة أو أربعة أجيال.. فلا يمكن تدارك أربعة قرون من التأخر في عشر سنوات”.

من هذا المنظور، فإن أزمة الديمقراطية مثلا في التجارب العربية يعود، كما يبين جعيط في الكتاب المشار اليه، ليست مجرد قوانين ومساطر وصناديق اقتراع وآليات اقتراع، وإنما منظومة قيم يحتاج إرساؤها وترسيخها إلى ” انقلاب ذهني ثقافي ليس له الآن دعامة في الواقع الاجتماعي والسياسي”.

هذه مجرد إطلالة على جوانب من فكر المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط في ذكرى رحيله، غايتها التنويه إلى ضرورة استحضار منجزات الفكر النقدي العربي المعاصر في الممارسة السياسية والاجتماعية والثقافية، والاسترشاد بها في مناقشة وفحص الخطابات السطحية المهيمنة في الفضاء العمومي والتواصلي حول الهوية والحداثة والكونية.