محمد خياري
البيعة الشرعية ليست مجرد عهد عادي أو رابطة سطحية بين حاكم ومحكوم، بل هي انتقال جوهري ونقل صوفي للأسرار المحمدية. إنها إرث روحي لا تدركه العيون الجسدية، بل تعانقه الروح، فتهيئها لتصبح وارثًا شرعيًا يحمل سر الولاية النبوية، ويجسد رمزًا صادقًا للحقيقة المرتبطة بالذات المحمدية.
البيعة، في هذا المقام، سورة من سور الاعتراف برابط أسمى، يرفع السلطان فوق مستوى المنصب السياسي الزائل، ليصبح وريثًا للسر الشريف، حاملًا لمفتاح النسب النبوي، ومنبثقًا من رحيق الصلة الإلهية، مهما قست الأزمنة أو تعاقبت العصور. إنها تجسيد حي لنقطة التقاء الروح السياسية بالروحانية الصوفية، حيث يجمع العلماء والأشراف على أن الشرعية الحقة تمر عبر بوابة السر وعلم المعرفة، لا بقوة الجند أو هيبة السيوف وحدها.
لا نسعى هنا إلى استعراض محطات زمانية محددة أو تتبع سجلات الملوك والأيام، بل إلى الاستنارة بنور التأمل في حقيقة البيعة. فهي تختزن الاعتراف بالسر والغنى الرباني، مما يجعل المبايَع الحقيقي رمزًا يتجاوز السلطة الدنيوية، ومعبرًا عن استمرارية الوصاية على الحقيقة النبوية، ومرآة صادقة تعكس ارتباط الخلق بخالقهم.
إن انقطاع هذا البعد الروحي في البيعة، سواء في البيعة الصغرى أو الكبرى، واستبداله بتحالفات دنيوية تتجاهل المقام الأسمى للسر، يفتح الباب واسعًا للاضطراب والنزاع. هذا الانقطاع يحول الدين من جوهر حي ملهم إلى شكل جامد، فتصبح البيعة مجرد توقيع على حكم مدني خالٍ من النور والحياة.
السر المحمدي في البيعة هو الروح التي تسري فيها، والضوء الذي لا يغيب، والوشاح الذي يمنحها المجد والرونق الأبدي. حامل هذا السر يتجاوز حدود التاريخ، فيحيي معنى الشرعية التي لا تستمد إلا من الاعتراف بجوهر هذا السر العظيم، دون الالتفات إلى تفاصيل الظاهر أو الوقائع الزمانية والمكانية.
وهكذا، تظل البيعة في عمقها الصوفي نشيدًا خالدًا على وتر الاعتراف بالسر والإرث النبوي، معلنةً أن العرش الحقيقي لا يُشغَل بفتنة القوى السياسية، بل بإشعاع المعرفة والسر المقدس.