محمد علي لعموري
يعرفني الكثير من الأصدقاء على أنني ذو نزعة عقلانية تميل إلى توخي الحياد والموضوعية عند كل محاولة مني لفهم ما يجري من أحداث ووقائع ، وأنني لا أنساق كالقطيع وراء اللغط الذي تحركه النزعات القومجية أو الإسلاموية أو الإلحادية أو الفوضوية أو العبثية..الخ ، وأميل أشد الميل إلى العيش بأسلوب لا يرفض وجه الحداثة سواء المادية منها أو الثقافية ، وأنني على طرفي نقيض مع ” الفكر السلفي المتشدد ” ، وأرى في الإخوانية تيارا سياسيا يلعب بالدين لمآرب يرنو إليها ، ومنها الوصول إلى السلطة والتحكم بالتالي في رقاب الناس باسم الدين.
ولا أدافع عن علمانية متطرفة تتهجم على الأديان وتحاول جاهدة إلغاءها والتبخيس من دورها ، لكني بالمقابل أتبنى علمانية منفتحة تستوعب روح العصر وتضع القوانين لحماية حقوق الإنسان من العبث والفوضى والتطرف والظلم والجهل المركب الذي ينزع إليه البعض من أجل الترويج لفكرة خطيرة وهي الزعم أنه يملك مفاتيح الحقيقة وأنه المفوض باسم الإله من أجل فرض القيم والمعتقدات التي يؤمن بها ولو بالقوة وبالإكراه.
ما يجري اليوم من لغط فيسبوكي كرد فعل على ما بدر من تصريح لرئيس الجمهورية الفرنسية في حق الإسلام والمسلمين ، وما استتبع ذلك من إعادة نشر الصور المسيئة لنبي الإسلام عليه السلام ، وما نتج عن هذا الفعل من رد فعل عنيف تجاه أستاذ فرنسي قضى قتلا من طرف مراهق مسلم رأى أنه يفدي نبي الأمة بروحه وبحياته ، وما نتج عن ذلك من رد فعل مضاد رسمي وغير رسمي في الأوساط الفرنسية ، وما يلعب به كورقة رابحة شعبويا الرئيس التركي أردوغان لصب المزيد من الزيت فوق النار المشتعلة ، كل هذا اللغط وهذا الفعل وردود الفعل يحتاج منا وقفة تأمل وإيضاح لعلنا نستوعب كون هذه الموجة من الإنفعالات العاطفية تخفي وراءها تسخينا سياسيا من جهات معينة أغلب الظن أنها من التيار الديني المتشدد الذي يصطاد دوما في الماء العكر لإبراز أحقيته في تمثيل الإسلام الكبير الذي للأسف أصبح مقزما بسبب ما يرتكبه هذا الحي من المتطرفين الذين يأكلون غلة العلمانية في فرنسا وفي بلاد الغرب ، ويسب الملة ويكفر أبناء الوطن ، ويحرضون على القتل ضد الفرنسيين والغربيين بدعوى أنهم كفار وأنهم ضد الإسلام..الخ
دعونا نعي قليلا أن فرنسا دولة علمانية قوتها تكمن في علمانيتها التي أسست لها منذ ما يزيد عن القرن من الزمن ، وأنها صارمة وحازمة في هذا الإتجاه ولا تقبل بأي مساومة أو تسامح تجاه ما بنته منذ الثورة الفرنسية من إنجازات عظيمة لقيام فرنسا قوية عظيمة تقطع مع ما كانت تعيشه أوربا من ظلام دامس بسبب العبث الكنسي وهيمنة النظام التيولوجي الدوغمائي المتحالف مع الإقطاعية والملكية ضدا على مصالح الشعوب المقهورة وضد حقوقها المهضومة.
العلمانية الفرنسية لا ولن تلتقي مع فلسفة الإسلام السياسي الذي يستغل الحريات المخولة من طرف النموذج العلماني نفسه ، للتشكيك في مكاسب ونتائج وتجليات العلمانية وشيطنة المفهوم وتحريف النقاش من مستواه الفكري والعلمي إلى مستواه الإيديولوجي الضحل.
بالمقابل فإن الجو العام القرنسي مجبول على العلمانية التي باتت مكسبا لا مندوحة عنه ، وأن للخطاب الرسمي تخوفا من الزحف الإسلاموي ذي الإيديولوجية المتشددة والذي يهدد علمانيته في عقر داره ، وما يصدر هنا وهناك من مناوشات مسيئة للإسلام ولنبي الإسلام ما هو إلا نقد صارم وعنيف لما بات إيديولوجية تخيف الفرنسيين ، ويستغلها بعض المتطرفين من الطرف العلماني لتصعيد الخطاب الإسلاموفوبي ضد المسلمين بفرنسا وغيرها.
مجلة شارل إيبدو مجلة مستقلة لها خطها التحريري المتصلب تجاه الإسلام والمسلمين منذ زمن ، والحكومة الفرنسية ليس عليها أن تتدخل في هذا الخط التحريري احتراما لحرية الرأي والتعبير ، ولكنها بالمقابل ملزمة بحماية العلمانية وحرية التعبير كدولة مدنية علمانية تحترم جميع الأديان كما هو مشهود في فرنسا كلها من مساجد مفتوحة وخطابات دينية مكفولة ومضمونة حتى وهي تهاجم علمانية الدولة وتنشر الفكر الديني المتشدد…
المسلمون الذين يعيشون ويتمتعون بكافة حقوقهم ويعبرون عن معتقدهم الإسلامي ويمارسونه في أماكنهم الخاصة بالعبادة ، ويشاركون كبقية الفرنسيين في الحياة العامة ؛ لكن بتحفظ وأحيانا أخرى بكراهية؛ عليهم أن يدركوا أنهم ما كانوا ليتمتعوا بكافة تلك الحقوق لولا النهج العلماني للدولة الفرنسية ، وأن العلمانية لا تعادي الأديان كيفما كانت ، بل تضع مسافة الحياد بينها وبين كل المعتقدات في إطار احترام الخصوصية.
وبالتالي فهذا التصادم الحضاري بين المسلمين وغيرهم مرده أن المسلمين اليوم يريدون فرض نموذجهم على المجتمعات الأخرى العلمانية ويحسبون أن ذلك يدخل ضمن واجبهم “المقدس” كمسلمين أينما حلوا وارتحلوا ، وأنهم لا يكتفون بالدعوة والإستقطاب بل يهاجمون النماذج التي لا تتفق ومعتقداتهم ، وهنا وجه الخطإ الذي لا ينتبه له الكثير ممن يسيئون إلى الدين الإسلامي من حيث يريدون الدفاع عنه بهذا الأسلوب العنيف الذي لا يفتح باب الحوار إلا من أجل إقفاله بقوة التعصب الذي يحمله في ذهنية وقناعات الأشخاص المنتسبين إليه.
لهذه الأسباب أرى أن لفرنسا الحق في الدفاع عن حضارتها وثقاقتها العلمانية ، ومن حق المسلمين الرد لكن بتحضر وبعقلانية وبالحوار ضد كل محاولة للنيل من دينهم ومن نبيهم ، بينما كل التصريحات التي تصدر عن زعماء الإسلام السياسي تبقى مجرد تحريضات الغرض من ورائها تصفية حسابات أخرى أكبر من مجرد الدفاع عن النبي وعن الدين ، والمؤسف في كل هذا أن الشعوب تنساق بعاطفة دوما وترتكب الفظاعات لأنها لا تزن الأمور بميزان العقل والروية.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=11778