29 مايو 2025 / 21:52

نقد كتاب “أوثان السلفية التاريخية” لعبد الخالق كلاب

محمد زاوي 

نقد كتاب “أوثان السلفية التاريخية” لعبد الخالق كلاب (3)
التأريخ بالثانوي، لا بالجوهري تاريخيا، هو ما لا يبرح عبد الخالق كلاب يسقط فيه بين الفينة والأخرى؛ فتارة يجعل من الأنثروبولوجيا تاريخا، وتارة أخرى يخلط بين الأصل السياسي والأصل العرقي، وتارة ثالثة تعوزه الانتقائية فلا يرى فرقا بين “استقلال الإمارات المختلفة” و”توحيدها في دولة”؛ هذه نماذج أولية لنظر لا تاريخي، ليس بمعنى أنها غير مرتبطة بالتاريخ أو لا تبني عليه، وإنما لأنها تخضع التاريخ لإيديولوجيا خاصة (“المورية”) لا لحركته الموضوعية.
-في “الخلط بين الأنثروبولوجيا والتاريخ”؛ يقول عبد الخالق كلاب: “كشفت الحفريات الأثرية التي أجريت في الأعوام الأخيرة عن قدم وجود الإنسان في بلدنا، وتعدد أنشطته، وتطور مهاراته ونمو حسه الفني” (عبد الخالق كلاب، أوثان السلفية التاريخية، مطبعة التيسير، الطبعة الأولى، 2025، ص 5). وهنا يجب التأكيد على أن قدم الإنسان في المغرب لا يعني قدم التاريخ، وإنما هو قدم أنثروبولوجي، لأن التاريخ مرتبط أساسا بظهور الدولة وتشكلها. صحيح أن الدولة تتشكل أنثروبوجيا، أي أنها تدخل غمار التاريخ على كتفي الأنثروبولجيا (انظر كتاب “عن الدولة” لبيير بورديو/ وكتاب “القبائل في التاريخ وفي مواجهة الدول” لموريس غودولييه)؛ إلا أنها لا تبدأ كوجود سياسي واجتماعي واضح إلا عندما يفرز النشاط الإنساني تناقضا اجتماعيا غير معهود في مرحلته الأنثروبولوجية الصرفة، وهذا التناقض هو أساس التاريخ والأصل الجوهري لحركته.
-في “الخلط بين الأصل السياسي والأصل العرقي”؛ يقول كلاب: “إن ما تم اكتشافه في الأعوام الأخيرة، هدم ذلك الوثن الذي ظل مقدسا لعقود، ذلك الوثن الذي جعلنا نصدق فكرة الأصل المشرقي للإنسان والحضارة، ذلك الوثن الذي رسخ فكرة مركزية المشرق، وجعل من “المغرب” عالة عليه في كل شيء، ذلك الوثن الذي جعل الباحث الموري يجهد نفسه ويطوع أدواته لتبرير الأصل المشرقي لكل إنتاج موري أصيل” (نفس المرجع، ص 6). أولا؛ لم ير المغاربة أنفسه يوما عالة على المشرق، بل استقلوا بخصوصيتهم منذ استتباب دولتهم، دون أن يمنعهم ذلك من حفظ علاقتهم بالمشرق، بما تحققه هذه العلاقة من مصالح جيوسياسية أو سياسية أو اقتصادية أو حضارية.
ثانيا؛ الحديث عن أصل مشرقي هو حديث عن الأصل السياسي والإيديولوجي من باب أولى -لا عن الأصل العرقي-، أي عن العنصر السياسي والإيديولوجي الذي مكن من توحيد الإمارات والقبائل وإخضاعها لدولة مركزية واحدة. ثالثا؛ ما لا يعيه كلاب هو أنه هو نفسه -بما يقوله عن مرجعيته المورية- نتاج دولة مغربية تطورت مع مرور الزمن، وهذه الدولة المغربية في أصلها “عربية وإسلامية الجهاز والإيديولوجيا”، وهي نفسها الدولة التي شكلت الأساس الثقافي والفكري والاجتماعي للرواية والكتابة التاريخية التي يبني عليها الدكتور كلاب نفسه. وإنه لمن غريب الأقدار أن يصدر المرء عن سياسة يرى نفسه على النقيض منها، وكذلك الاعتماد على تاريخ ووصفه بـ”الوثن” في نفس الوقت!
-في “عدم التمييز بين استقلال الإمارات المختلفة وتوحيدها في دولة”؛ وهنا “يختلق” د. كلاب تحقيبا جديدا نابعا عن انتقائية موجَّهة إيديولوجيا في تاريخ المغرب، إذ بداية التاريخ المغربي بالنسبة إليه ترجع إلى زمن ما يسميه “الثورة المورية” (عام 740 م) التي “وحدت الموريين، وأحدثت مزاجا عاما رافضا لكل تأثير أجنبي، فانتظم الموريون في إمارات مستقلة”. ولنا أن نطرح سؤالا أوليا بهذا الصدد: لماذا لم توحد هذه “الثورة المورية” المغاربة، ولماذا انتظروا حتى مجيء الأدارسة، وحتى استتباب شأن الدولة ونظام السيطرة فيها للمرابطين ومن جاء بعدهم؟! “استقلال الإمارات”، ولو في مناطق دون أخرى وبغض النظر عن نوع هذا “الاستقلال”، بقدر ما هو شرط يطلب الدراسة والاعتبار، إلا أنه لم يكن الشرط الحاسم، بل كان معيقا أزالته الدول المركزية المتعاقبة باحتوائه أو مواجهته.
التاريخ ليس إلا تاريخ “الجوهر الاجتماعي والسياسي”، أي الدولة المركزية. غير أن د. كلاب يريد بـ”انتقائية موجَّهة إيديولوجيا” أن يجعل منه تاريخا لجذورها الأنثىوبولوجية أو ما اعتمل على هامش تأسيسها وتوحيدها من تجليات ثانوية، أو لنقل غير جوهرية وغير رئيسية في حركة التاريخ.
(يتبع)