8 يونيو 2025 / 20:02

نقد كتاب أوثان السلفية التاريخية لعبد الخالق كلاب. الحلقة 5

محمد زاوي

التاريخ ليس “شاهدة الرواية” فقط!

يبني الدكتور عبد الخالق كلاب رفضه لمشرقية الأمازيغ على مسألتين:

-المسألة الأولى: “اكتشاف آثار لأنشطة بشرية منذ الزمن المبكر”؛ فيقول: “فالأمازيغ أصولهم الأولى كانت في بلادنا قبل أن ينتشروا في باقي أقطار شمال إفريقيا وصولا إلى شرقها، ومن المؤشرات الدالة على ذلك اكتشاف آثار لأنشطة بشرية منذ زمن مبكر؛ فالأبحاث الأثرية الأخيرة كشفت عن وجود أقدم جمجمة لإنسان عاقل بجبل إيغود يعود تاريخها إلى 315000 سنة، كما كشفت عن مهارة الإنسان الذي استوطن هذا المجال، إذ تم اكتشاف وجود حلي بمغارة بيزمون بالقرب من الصويرة يرجع تاريخها إلى حوالي 150000 سنة، بالإضافة إلى اكتشاف جمجمة بمغارة تافوغالت أجريت عليها أول عملية جراحية ناجحة في تاريخ البشرية يرجع تاريخ إجرائها إلى حوالي 15000 سنة” (أوثان السلفية التاريخية، ص 23).

ولا ندري بأي “منطق” يستدل كلاب على “انتفاء الأصل المشرقي للأمازيغ” بـ”اكتشاف أنشطة بشرية مبكرة”؟! فهل ينفي هذا الاكتشاف إمكان هجرة أمازيغية من المشرق (اليمن)؟! إنه لا مانع في التاريخ يمنع هذا الإمكان، خاصة وأننا نعلم عن كثير من الحالات التي اجتمع فيها الإنسان المنتصب البدائي بالإنسان العاقل ف”عقّله” هذا الأخير بمبلغه من التطور الذهني والعملي؛ وكثيرة هي الحالات التي تبادل فيها الإنسان العاقل مع نفس نوعه الاكتشافات والخبرات القديمة، عبر الهجرات التي كانت واسعة ومنتشرة. ولا ندري كيف “بعض” د. كلاب نظره عن إمكان اجتماع “الأمازيغ” المهاجرين من المشرق بالإنسان العاقل في المغرب، ألم يكونا معا قد تبادلا الخبرات والاكتشافات؟ ألم يكن للأمازيغ الوافدين فضل آخر على “الإنسان العاقل المغربي” (وصف “مغربي” هنا استعمال إجرائي فقط لأنه مرتبط الدولة لا بالأنثروبولوجيا السابقة عليها) الذي صنع الحي وأجرى أول عملية جراحية؟

إنه لا يصح ادعاء د. كلاب إلا ببينة تنفي الإمكان الذي ذكرناه، وهو الإمكان الذي نرجحه ما دامت الهجرات الأمازيغية من المشرق ثابتة، وما دامت آثار “الإنسان العاقل المغربي” ثابتة. وإذا كان كلاب يثبت هذه الآثار، فإنه ينفي الهجرات؛ وهو ما سنناقشه ونرد عليه في “المسألة الثانية”.

-المسألة الثانية: ما يسميه “الأصل الموري” للقبائل الأمازيغية (نفس المرجع، ص 29)؛ وبهذا الخصوص يقول كلاب: “لا زال الناس يتمسكون بأخبار ظنية، ويتداولون روايات الأصل المشرقي الواهية، حتى إنهم ادعوا أن قبائلنا وفدت من المشرق، مستدلين بروايات لم يفهموا سياق وضعها، منها رواية نقلها ابن خلدون عن أبي عمر بن عبد البر، تدعي فيها طوائف من “البربر” أنهم من ولد النعمان بن حمير بن سبأ” (نفس المرجع، ص 23).

ولا ندري كيف يقفز كلاب هنا على عملية “التأريخ” الحقيقية مفضلا المقارنة بين الرواية، وكأن “الشاهدة التاريخية” الوحيدة هي الرواية؛ في حين أن إرجاع الأمازيغ إلى أصلهم اليمني يتأسس على عدد من الشواهد من قبيل “الحرف المكتوب” و”الموسيقى” و”المعمار” و”أساليب الزراعة” و”المومياءات” الخ. وهنا نتساءل: كيف يردّ كلاب كل هذه الشواهد؟ كيف جاز له الترجيع بتحيز موجَّه (بأدلوحة مورية) لرواية واحدة يثبت فيها مورية “زنانة” و”هوارة” و”مصمودة”، إثباتا لا يخلو من استعجال (كما حصل له عندما حوال إثبات “مورية” مصمودة بدليل “عدم وجودها إلا في المغرب”)؛ كيف جاز له كل هذا دون عرضه على باقي الشواهد المعروفة في هذا الباب عند الباحثين؟!

ولأن المجال لا يتسع لعرض كافة “الشواهد”، وحتى يكون كلامنا واضحا ننبه الدكتور كلاب ل”شاهدة” المومياءات، حيث اكتشف الباحثون تشابها كبيرا بين مومياءات اكتشفت في جبل الغراس باليمن وأخرى اكتشفت في جزر الكناري، وقد كان التشابه كبيرا في نمط التحنيط بينهما، لا من حيث طريقة وضع المومياءات (“على طريقة القرفصاء في شبه حقائب جلدية”)، ولا من حيث طريقة ملء “فراغ البطن” (بنباتات عطرية تمتص السوائل تسمى “نبات الراء” وليس ب”نشارة الخشب” كما كان يفعل الفراعنة). ولمزيد من تأكيد وتعزيز دقة وجدية هذا الاعتراض، نشير إلى أن الباحثين كانوا قبل اكتشاف المومياءات يرجعون أصل سكان جزر الكناري إلى قبائل أمازيغية في المغرب والجزائر (خاصة قبيلة مشتى عربي الأمازيغية في الجزائر)، إلا أن الاكتشافات المذكورة أثبتت الأصل اليمني لهذه القبائل جميعا، بما فيها تلك التي واصلت الهجرة إلى جزر الكناري (محمد حسين فرح، عروبة البربر، منشورات الجمهورية اليمنية/ وزارة الثقافة، 2010، ص 56-55).

يظهر الآن، ودون الإحالة على كافة “الشواهد” التي لم يولِها د. كلاب اهتمامه، مدى حاجة ما يقدمه إلى مراجعة على ميزان “صنعة المؤرخين”، وإلا فإنه سيبقى مجرد استصحاب لـ”شواهد الرواية المكتوبة” من أجل تعزيز قول إيديولوجي (“الأدلوجة المورية”).

(يتبع)