تقرير أعده عبده حقي
كيف يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة الكتاب والأدباء والإعلاميين وصناع المحتوى؟
في لحظة مفصلية من تاريخ العلاقة بين الإنسان والتقنية، نظّم أخيرا اتحاد كتّاب الإنترنت العرب ندوة رقمية بعنوان “الذكاء الاصطناعي ومستقبل الكتابة”. لم تكن مجرّد لقاء ثقافي، بل مناظرة فلسفية وفنية وتكنولوجية طرحت أسئلة عميقة حول طبيعة الكتابة، وهوية المؤلف، ومستقبل الأدب في عصر تتقاطع فيه الخوارزميات مع الخيال الإنساني.
الندوة التي شارك فيها كل من الدكتور علي هياجني، الأستاذ المتخصص في الذكاء الاصطناعي من الأردن، والكاتب المغربي عبده حقي، والروائي الدكتور محمد سناجلي، شكّلت منصة نادرة للحوار بين ثلاث زوايا نظر متكاملة: الأكاديمي، الإبداعي، والنقدي. كل منهم جاء إلى المنصة مسلحًا بخبرته وتجربته، لكنهم جميعًا اجتمعوا على قناعة واحدة: الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا للأدب، بل مرآة تعكس إمكاناته الجديدة وتعيد رسم حدوده.
“منهجية الدكتور هياجني: المعطى العلمي كبوصلة”
في محاضرته المركزية، قدّم الدكتور علي هياجني عرضًا دقيقًا عن الأبعاد الرقمية للكتابة التوليدية. أبرز من خلال بيانات دقيقة حجم السوق العالمي لأدوات الكتابة بالذكاء الاصطناعي، الذي يُتوقّع أن يتجاوز 11.5 مليار دولار بحلول 2032. لكن الأهم من ذلك، أنه دعا الكتاب إلى عدم التوجّس من هذه الأدوات، بل إلى احتضانها بوصفها حلفاء جدد في عملية الإنتاج الأدبي.
وقدّم أمثلة ملموسة عن منصات عربية ناشئة مثل “قلم AI” و”عربي GPT”، مبرزًا الحاجة إلى تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تتحدث بلغة الثقافة العربية لا مجرد ترجمتها. من زاوية استشرافية، لفت إلى أن مستقبل الكتابة سيُبنى على “التآزر” لا “الصراع” بين الإنسان والخوارزمية، مشبهًا الثورة الحالية بالثورة التي أحدثتها المطبعة أو الحاسوب الشخصي في وقت سابق.
“عبده حقي: من الكتابة إلى صناعة السرد”
أما الكاتب المغربي عبده حقي، فحمل إلى الندوة تجربة شخصية فريدة تُجسّد اللحظة الانتقالية التي يعيشها الأدب اليوم. تحدث عن روايته “إريكا في غرفة الأخبار” بوصفها أول عمل روائي عربي يُنتج بالتعاون مع الذكاء الاصطناعي. لم يتردد في وصف العملية بـ”الصناعة” أكثر من كونها كتابة، مشيرًا إلى أنه أنشأ تصميمًا سرديًا عامًا وطلب من المنصة الذكية المساعدة في توليد الفصول وتطوير الشخصيات.
لكن الأهم في مداخلته، كان الطرح الفلسفي المتعلق بهوية المؤلف: من يكتب النص؟ هل هو الكاتب البشري؟ أم المساعد الآلي؟ أم كلاهما؟ وهل يمكن الحديث عن “ملكية أدبية” في زمن يتم فيه توليد الفقرات عبر دردشات رقمية؟ هذه التساؤلات التي طرحها حقي لم تكن مجرد قلق عابر، بل جزءًا من تحوّل أعمق يعصف بمفاهيم حقوق المؤلف، الإبداع، والذات الكاتبة.
“محمد سناجلة: الذكاء الاصطناعي كأكبر “حرامي” في التاريخ”
من جهته، قدّم الروائي محمد سناجلة مداخلة صريحة ومباشرة، حذّر فيها من الاستخدام غير الواعي للذكاء الاصطناعي، واصفًا إياه بـ”أكبر حرامي في التاريخ”. وبيّن كيف أن الكثير من الباحثين والطلاب أصبحوا يعتمدون عليه بشكل أعمى، دون التحقق من مصادر المعلومات، مما يؤدي إلى إنتاج نصوص تفتقر إلى الدقة والمصداقية.
لكنه في المقابل، قدّم نموذجًا لما أسماه بـ”الشراكة الذكية” بين الكاتب والآلة. بيّن كيف يستخدم هذه الأدوات كمساعدة لتحسين الصياغة وتجاوز الجمود الإبداعي، مشيرًا إلى تطبيقات مثل «Grammarly» و«Sudowrite» التي باتت جزءًا من يوميات الكاتب العصري. وساق مثالًا لتجربة شخصية كتب فيها مقالة كاملة عن نظرية فيزيائية بمساعدة الذكاء الاصطناعي، موضحًا أن الأداة ليست بديلاً عن العقل البشري، بل محفزًا له.
“النقاش مع الجمهور: أسئلة لا تنتهي”
عقب المداخلات، فتح باب النقاش مع الحضور الذين أغنوا الندوة بتعليقاتهم وأسئلتهم. من أبرز ما طُرح: سؤال عن شرعية إشراك الذكاء الاصطناعي في المسابقات الأدبية، وكيف يمكن التعامل مع نصوص هجينة أنتجها الإنسان والآلة معًا. وأثيرت أيضًا مخاوف تتعلق بضعف التمييز بين النصوص التقليدية وتلك المولدة رقميًا، ما يستدعي تطوير أدوات نقدية جديدة تتماشى مع “نقد ما بعد البشري”.
وكان لافتًا في النقاش، اقتراح بعض المشاركين إطلاق جوائز أدبية مخصصة للأعمال المنتجة بمساعدة الذكاء الاصطناعي، في إطار أخلاقي وشفاف، يعترف بمساهمة الأداة ويكرّم الإبداع البشري في توجيهها.
«”حو إعادة تعريف للكاتب”
ما خلصت إليه الندوة في مجملها، هو أن الذكاء الاصطناعي لن يلغِ الكاتب، بل سيعيد تعريفه. الكاتب في الزمن الرقمي ليس فقط من يكتب، بل من يصمم السرد، ويوجه الخوارزمية، ويؤطر التجربة الإنسانية ضمن لغة جديدة. هو لم يعد مجرد حارس للخيال، بل مهندس للمعنى ومفاوض ماهر مع أدواته.
هذه المرحلة لا تتطلب فقط مهارة في الكتابة، بل وعيًا معرفيًا وأخلاقيًا وفنيًا بما تعنيه “الكتابة” نفسها. لقد ولّى زمن المؤلف الواحد الصامت، وجاء زمن الأصوات المتعددة، من بينها صوت ذكي لا ينبض بالقلب، لكنه يتعلم سريعًا.
فهل نحن مستعدون لهذه الشراكة؟ وهل نملك ما يكفي من الشجاعة لحمل أقلامنا والكتابة من جديد… ولكن هذه المرة، بصوتين؟