27 سبتمبر 2025 / 17:17

ندوة تثمين التراث والسياحة الثقافية بالعرائش: نحو إدماج المدينة في رؤية المغرب 2030

تقرير: محمد عزلي

في سياق وطني يتسم بتنامي النقاش حول دور التراث في التنمية، وضمن توجهات المملكة الرامية إلى جعل السياحة الثقافية من بين الركائز الأساسية في النموذج التنموي الجديد، احتضنت قاعة الندوات بالمركز الثقافي ليكسوس باب البحر بمدينة العرائش، مساء الجمعة 26 شتنبر 2025، ندوة فكرية بعنوان: “تثمين التراث والسياحة الثقافية بالعرائش: نحو إدماج المدينة في رؤية المغرب 2030″، نظمتها جمعية بيت المبدع بالعرائش بتنسيق مع المركز الثقافي العرائش.

افتتحت أشغال اللقاء بكلمة السيد محمد علالي، مدير المركز الثقافي بالعرائش، الذي أبرز أهمية مثل هذه المبادرات في تنشيط الحياة الثقافية بالمدينة وتعزيز حضور المركز كفضاء للنقاش والإبداع، مؤكداً أن تثمين التراث لا يمكن أن يتم بمعزل عن انخراط كافة الفاعلين المحليين، ثم تناولت الكلمة السيدة نعيمة طه، رئيسة جمعية بيت المبدع، التي عبرت عن اعتزازها بافتتاح الموسم الثقافي للجمعية بهذه الندوة، مشيرة إلى أن موضوعها يعكس وعياً جماعياً بأهمية إدماج العرائش ضمن الرؤية الوطنية المغرب 2030 عبر الاستثمار في رصيدها الثقافي المادي واللامادي، والانفتاح على التجارب الدولية الناجحة.

أعطى بعد ذلك مسير اللقاء، ذ. محمد عزلي، أرضية عامة أوضح فيها أن مدينة العرائش تختزن إرثا حضاريا عريقا يؤهلها لتكون فاعلا أساسيا في خريطة السياحة الثقافية وطنيا ودوليا، مبرزا أن اللقاء يروم فتح نقاش فكري وتشاركي يسهم في بلورة تصورات عملية تجعل من التراث قوة ناعمة للتنمية المحلية.

دخلت الندوة بعد ذلك في صلب محاورها، حيث استهل الأستاذ عبد الحميد بريري المداخلات بعرض تناول فيه الرصيد الحضاري والتراثي للعرائش، باعتباره المدخل الأساس لفهم موقع المدينة في الذاكرة الوطنية والمتوسطية، وقد أبرز أن العرائش ومجالها التاريخي شكلا عبر العصور خزانا للرموز والدلالات، تختزن معالمه وأسواره وحكاياته الشعبية شواهد متعددة على تلاقح الثقافات والأجناس والديانات، وأكد أن هذا العمق التاريخي يمكن أن يشكل ركيزة لتثمين السياحة الثقافية، بما يجعلها رافعة للتنمية المستدامة إذا ما أحسن توظيفه عبر مشاريع عملية.

في المداخلة الثانية، توقف الأستاذ أنس السدراتي، محافظ موقع ليكسوس الأثري، عند موضوع التراث الأثري والمعماري بالعرائش، مسلطا الضوء على الأشغال الجارية في مجال المحافظة والترميم، سواء بموقع ليكسوس أو بحصن الفتح السعدي وباقي الشواهد العمرانية في المدينة والإقليم، وما تحمله من رمزية في حفظ الذاكرة التاريخية وصيانة الهوية المحلية، وأكد السدراتي أن هذه الأوراش تمثل خطوات هامة، لكنها لا تكفي لوحدها، داعيا إلى اعتماد رؤية شمولية تدمج صيانة التراث ضمن إستراتيجية تنموية متكاملة، تقوم على تثمين المعالم التاريخية وتوظيفها في السياحة الثقافية، مع استحضار مقتضيات القانون 22/33 لحماية التراث وتفعيلها ميدانياً.

أما المداخلة الثالثة، فقد قدمها الأستاذ عبد الرحمان اللنجري وتناول من خلالها تجارب دولية ملهمة في تثمين التراث الثقافي والبيئي وربطها بالأحداث الكبرى، استعرض فيها بعض النماذج الناجحة عبر العالم التي استطاعت ربط التراث بالتنمية السياحية والثقافية، مبرزا أهمية الملتقيات الدولية في الترويج للمدن ذات الرصيد الحضاري، وتوقف عند الفرصة التاريخية التي يمنحها تنظيم مونديال 2030 بالمغرب، باعتبارها لحظة مفصلية يمكن استثمارها للترويج لمدينة العرائش كوجهة سياحية وثقافية متميزة، كما استعرض تجربة مهرجان العرائش الدولي لتلاقح الثقافات باعتبارها نموذجا محليا رائدا في التعريف بالموروث الثقافي والانفتاح على التجارب الإنسانية المتنوعة، مؤكدا ضرورة الاستثمار في هذا النوع من المبادرات وجعلها جزءا من إستراتيجية تنموية طويلة الأمد.

في المحور الرابع، قدم الأستاذ عبد السلام الصروخ، مداخلة قوية حول موضوع التراث الثقافي اللامادي بالعرائش، مؤكدا أن هذا الموروث غير المادي يشكل قلب الهوية المحلية وروحها الحية، من موسيقى وأهازيج، وحكايات شعبية، وعادات وتقاليد، وأشكال إبداعية ترتبط بالذاكرة الجمعية للمدينة، وشدد على أن تثمين هذا التراث يتطلب تعزيز التعاون الأفقي بين مختلف الأطراف: الدولة، الجماعات الترابية، الجامعة، المجتمع المدني، والفاعلين الاقتصاديين، ضمن مقاربة تشاركية تجعل من الثقافة قوة دافعة للاستثمار في السياحة الثقافية، كما دعا إلى إعادة إحياء فنون الفرجة في فضاءات المدينة العتيقة كساحة السوق الصغير، وتثمين الرموز والأسماء والشخصيات الشهيرة التي بصمت تاريخ المدينة.

وقد عرفت لحظة النقاش العام تفاعلا غنيا من بين المشاركين في الندوة، والحضور الذي ضم نخبة من الباحثين والمثقفين والفاعلين الجمعويين والمهتمين بالتراث المحلي، وقد برزت مجموعة من الأفكار الأساسية التي عكست وعيا جماعيا بضرورة بلورة رؤية مندمجة وشمولية لتثمين التراث بالعرائش وجعله رافعة للتنمية والسياحة الثقافية، ولعل أهمها:

 

1. الالتقائية بين الفاعلين

أكد المتدخلون على ضرورة إيجاد صيغة عملية لتقعيد مفهوم الالتقائية، وذلك عبر خلق مساحة مشتركة للاشتغال تجمع الدولة والقطاع الوصي على الثقافة والسياحة، والمجالس المنتخبة، والمؤسسات العمومية، والمجتمع المدني. فغياب التنسيق المؤسساتي غالبا ما يؤدي إلى تبعثر الجهود وضياع الفرص، في حين أن التنسيق الممنهج قادر على إحداث نقلة نوعية في التعاطي مع التراث.

 

2. التكوين وبناء القدرات

شددت المداخلات على أهمية الاشتغال على تكوين جيل جديد يجمع بين المعرفة العلمية بالتراث وآليات الترافع والتسويق الثقافي، فالتكوين الأكاديمي وحده لا يكفي، كما أن الترافع غير المؤسس علميا يبقى ضعيف الأثر، ومن هنا تبرز الحاجة إلى تكوين مهنيين وباحثين قادرين على الجمع بين البعدين المعرفي والعملي.

 

3. التنسيق بين المتدخلين

اعتبر التنسيق بين مختلف الأطراف المتدخلة، سواء على المستوى المحلي أو الجهوي أو الوطني، شرطا أساسيا لنجاح أي مشروع متعلق بالتراث أو السياحة الثقافية. واقترح بعض الحاضرين إحداث آلية أو هيئة تنسيقية محلية دائمة، تكون بمثابة منتدى لتبادل الرؤى وتتبع المشاريع.

 

4. دور الإبداع والإنتاج الفني

تم التأكيد على أن الكتابة والإبداع الفني، خاصة في مجالات السينما والتلفزيون، يشكلان قوة ناعمة قادرة على تسويق المدينة كوجهة ثقافية وسياحية، فالتراث بشقيه المادي واللامادي قادر صياغة صورة إيجابية وجذابة عن العرائش وبالتالي تصبح منطقة جدب واستقطاب ومحطة مرور أساسية في كل الرحلات السياحية.

 

5. البنية المؤسساتية

من بين المطالب القوية التي طرحت خلال النقاش، إحداث مديريات إقليمية خاصة بقطاع الثقافة وقطاع السياحة بإقليم العرائش، وذلك لتمكين المدينة والإقليم من تدبير أكثر قربا وفعالية لمواردهما الثقافية والسياحية، عوض الاعتماد على تدبير المصالح جهويا أو مركزيا.

 

6. الربط مع المدن المركزية

أثيرت مسألة حيوية النقل والربط المجالي، حيث أكد المتدخلون أن إدماج العرائش في الدينامية الوطنية للسياحة الثقافية يقتضي إيجاد وسائل ربط فعالة مع المدن المركزية ذات الاستقطاب العالي مثل الرباط وفاس وطنجة وتطوان. فالمدينة تعاني من ضعف في الشبكات التي تسهل تدفق السياح وبالتالي الباحثين عن الاستثمار السياحي، الأمر الذي يحد من قدرتها التنافسية.

 

7. تعزيز الاعتماد على الذات

شدد الحاضرون على أن التعويل الكلي على السلطات المركزية ليس خيارا ناجعا، وأن الحل يكمن في تعزيز الاعتماد على الذات عبر المبادرة المحلية، هنا يبرز دور المجالس المنتخبة، والمجتمع المدني، ومؤسسات التعليم والتكوين في ابتكار مشاريع ملموسة وقابلة للتنفيذ، دون انتظار الحلول الفوقية.

 

8. تثمين الرموز والشخصيات

دعا المشاركون إلى إبراز تمثلات التراث الثقافي المادي واللامادي للعرائش، وإلى تثمين الرموز والأسماء والشخصيات الشهيرة التي عاشت في المدينة وأسهمت في تاريخها الثقافي والفكري والسياسي والرياضي.. فهذه الأسماء تعد جزءا من الهوية المحلية وتساهم في تعزيز الذاكرة الجماعية وإبراز خصوصية المدينة.

 

9. التوعية والتحسيس

تمت الإشارة إلى أن شريحة واسعة من المواطنين ما زالت تنظر بازدراء إلى بعض تجليات التراث أو تسخر من أعلامه، بل تسيء استخدام فضاءاته، وهذا ما يستدعي تكثيف جهود التوعية والتحسيس في المدارس والإعلام والأنشطة الميدانية، بهدف ترسيخ ثقافة الاعتزاز بالتراث في الوجدان العام.

 

10. الشراكات متعددة المستويات

أكد الحضور على ضرورة البحث عن الشراكات والتعاون على مستويات متعددة: محلية، جهوية، وطنية، ودولية. فالتجارب الناجحة تثبت أن الانفتاح على شبكات التعاون يفتح آفاقا جديدة للاستثمار الثقافي والسياحي ويتيح تبادل الخبرات والتجارب.

 

11. المقاربة التشاركية

اعتبرت المقاربة التشاركية خيارا أساسيا، مع ضرورة إدماج الطبقات الشعبية المستفيدة في جميع مراحل المشاريع، من التخطيط إلى التنفيذ. فالتراث ليس حكرا على النخب، بل هو ملك للجميع، وإشراك الساكنة المحلية يضمن استدامة المشاريع ويحميها من الانفصال عن محيطها الاجتماعي.

 

12. الإطار القانوني

تمت الإشارة إلى أهمية تفعيل مقتضيات القانون 22/33 المتعلق بحماية التراث، خصوصا على مستوى الجرد والتخطيط، فالعمل القانوني المؤسس يسهم في تأمين التراث ضد مخاطر الإهمال والتبديد، كما يمنح المشاريع قوة إلزامية عند تنزيلها على أرض الواقع.

 

13. إعادة إحياء التراث الشعبي

برزت الحاجة إلى إعادة الاعتبار لفنون الفرجة الشعبية وتجليات التراث المحلي التي شكلت عبر عقود جزءا أصيلا من الهوية الثقافية للعرائش، وذكرت أمثلة بعينها مثل ساحة السوق الصغير بما تحمله من ذاكرة جماعية ارتبطت بالعروض الفنية الشعبية، وعمارة لالة منانة، وعمارة سيدي علال بن أحمد العسري، باعتبارها تراثا وثقافة شعبية تاريخية تستحق أن تعاد إليها الحياة عبر مشاريع فنية وثقافية مستدامة.

 

14. تثمين التراث الطبيعي

إلى جانب التراث الثقافي المادي واللامادي، أكد على أهمية تثمين التراث الطبيعي، وخاصة غابة لا إيبيكا والمنطقة الرطبة بسافلة لوكوس التي تشكل مخزونا إيكولوجيا فريدا، فالمزج بين التراث الثقافي والطبيعي يفتح آفاقا جديدة للسياحة المستدامة، ويجعل العرائش وجهة سياحية متميزة.

 

15. الانسجام مع الرؤية الملكية

تم التشديد على ضرورة استلهام وتنفيذ رؤية جلالة الملك محمد السادس نصره الله فيما يخص إبراز الخصوصية المحلية للمدن والمناطق، فالتوجيهات الملكية تؤكد دائما على أهمية استثمار الخصوصيات التراثية والثقافية لكل مدينة باعتبارها رافعة للتنمية المندمجة.

 

16. دور المجلس الجماعي

أبرز المشاركون أن انخراط المجلس الجماعي في هذا التصور ليس ترفا، بل هو ضرورة ملحة، وعليه أن يتحمل مسؤوليته بشكل مبادر وعملي، فالمجلس باعتباره مؤسسة تمثل المواطن، مطالب بأن يكون شريكا أساسيا في صياغة وتنفيذ المشاريع التراثية والثقافية والسياحية.

 

17. توظيف المعالم التاريخية

طرحت مسألة كيفية توظيف المعالم التاريخية الكبرى بالمدينة (مثل الحصون، والأسوار، والمباني العتيقة) بأدوار حيوية وبطريقة تضمن استدامتها وصيانتها من جهة، وتجعلها فضاءات وظيفية حية قادرة على المساهمة في تنشيط السياحة الثقافية من جهة أخرى.

 

18. الاستثمار السياحي

أكد الحضور على ضرورة تحفيز الاستثمار في البنية السياحية بالمدينة، من خلال رفع الطاقة الإيوائية وعدد الأسرة الفندقية، وإحداث فضاءات ضيافة جديدة قادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة من الزوار المرتقبين في أفق مونديال 2030 وما بعده.

 

19. وقف نزيف الإهمال

طرح بقوة مشكل الإهمال الذي يهدد العديد من المعالم التاريخية، خاصة بالمدينة العتيقة الإنسانتشي، حيث تتعرض مبان ذات قيمة معمارية متميزة للاندثار، ودعا المشاركون إلى إقرار خطة استعجالية لوقف هذا النزيف وحماية ما تبقى من الذاكرة العمرانية.

 

20. رؤية مندمجة جهوياً

تم التأكيد على أن مستقبل العرائش لا يمكن أن يفكر فيه بمعزل عن محيطه الجغرافي والإداري إقليميا وجهويا، بل ضمن رؤية مندمجة تراعي التكامل مع مدن ومجالات الجهة، بما يخلق دينامية تنموية أوسع وأكثر نجاعة.

 

21. مراتب التسجيل في التراث

من بين أهم التوصيات التي طرحت، ضرورة تخصيص مراتب للتسجيل في التراث: وطني، جهوي، إقليمي ومحلي، حتى يحظى كل مكون من مكونات التراث بمستوى الحماية المناسب، ويدرج في لوائح رسمية تتيح الدفاع عنه وتثمينه بشكل مؤسساتي وقانوني، ثم لتكريس مبدأ الخصوصيات المحلية التي نادى بها جلالة الملك.

اختتمت الندوة بعد أزيد من ساعتين ونصف من الحوار الغني، في أجواء ودية غلب عليها الحماس وروح المسؤولية والأمل في تحويل النقاشات إلى خطوات عملية، رغم سعة الموضوع وثقل تحدياته.