نحو وعي اسلامي مقاصدي يصالح السماء بالأرض

16 ديسمبر 2025

الشيخ الصادق العثماني ـ أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
ليست أزمة الأمة الإسلامية اليوم – كما يروج البعض- أزمةَ تدينٍ أو ندرة نصوص دينية، بقدر ما هي أزمة وعيٍ اسلامي مقاصدي حضاري، واختلالٌ في العلاقة بين المعنى والزمن، وبين الثابت والمتحرك، وبين ما هو إلهي سماوي تعبدي توقيفي وما هو بشري تاريخي..

إنها أزمة جعلت الوعي الديني، في كثير من تجلياته، يقف موقف الخصومة مع العصر، لا موقف الشهادة عليه، وموقف الارتياب من التاريخ، لا موقف الاستخلاف فيه.

فتعطلت بذلك طاقات التنمية الروحية والنفسية والإنسانية والاقتصادية، واختلّ الانسجام الضروري بين الضمير الديني والأخلاقي من جهة، والواقع الإنساني المعاصر من جهة أخرى، فعجزت الأمة الإسلامية عن تحقيق المزاوجة والملاءمة الخلّاقة بين عالم الغيب وعالم الشهادة ، فعالم الشهادة؛ أي الزمان، ليس فكرةً عابرة ولا نزوةً فكرية، بل هو حاصلُ التجربة الإنسانية في سعيها الدائم نحو التحرر من القهر، وضمان الكرامة، وتحقيق العدالة، وتوسيع دوائر الحرية.

إنه يتمثل في الحريات بأنواعها وأصنافها: حرية اللسان بوصفها حقًّا في التعبير والاختلاف، وحرية التنقل بوصفها حقًّا في الحركة والاختيار، والمساواة بين الذكور والإناث باعتبارها ترجمةً أخلاقية لمبدأ الكرامة الإنسانية، ومتطلبات حقوق الإنسان بوصفها الحد الأدنى من التعاقد الأخلاقي بين الفرد والمجتمع والدولة.

وهذه الكليات ليست دخيلة على الفطرة، ولا نقيضة للوحي، بل هي من ثمرات الاستخلاف الإنساني حين يُدار بالعقل والعلم والمسؤولية.

أما عالم الغيب والإيمان، فإنه يتأسس على مقاصد عظمى جاءت الشريعة لحفظها ورعايتها: حفظ الدين باعتباره معنىً موجِّهًا لا أداة قهر، وحفظ النفس صونًا للحياة من العبث والعدوان، وحفظ العقل تحريرًا للوعي من الجهل والتضليل، وحفظ النسل ضمانًا لاستمرار العمران الإنساني في طهارته وكرامته، وحفظ المال باعتباره قوام المعاش وأداة التنمية…

وهذه المقاصد لم تُشرع لتكون حواجزَ بين الإنسان وزمانه، ولا أسوارًا تعزل الدين عن الواقع، بل شُرعت لتكون جسورًا بين القيم والوقائع، وبين السماء والأرض، وبين النص والحياة .

غير أن المأزق الحضاري يبدأ حين يُفصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة فيُقدَّم الأول في صورة جامدة منغلقة، تُنزَع عنه عقله وروحه المقاصدية، ويُقدَّم الثاني في صورة عدوانية تُجرِّده من أي بعد أخلاقي أو روحي.

فينشأ عن ذلك وعيٌ مأزوم، يرى في كل جديد بدعة، وفي كل سؤال فتنة، وفي كل اجتهاد تهديدًا للهوية، في حين يرى آخرون في الدين ذاته عائقًا أمام الحرية والتقدم. والحقيقة أن الإشكال ليس في الدين ولا في العصر، بل في العقول التي عجزت عن تركيب العلاقة بينهما تركيبًا مقاصديًّا راشدًا.

من هنا تبدو الحاجة ملحّة، بل ضرورةً شرعية وحضارية، إلى مراجعةٍ عميقة لمضامين الشريعة في كليّاتها وجزئيّاتها، مراجعةٍ لا تنطلق من عقدة النقص أمام الآخر، ولا من هاجس التبرير أمام ضغوط الواقع، بل من وعيٍ بأن الشريعة الخاتمة جاءت لتعيش في كل زمان ومكان، وأن صلاحيتها لا تتحقق بالجمود، بل بالقدرة على التنزيل الحكيم.

فالمراجعة ليست مرادفة للتراجع، بل هي فعلُ وفاءٍ لروح الشريعة قبل نصوصها، والتسهيل ليس مرادفًا للتساهل، بل هو تعبير عن مقصد اليسر الذي قامت عليه الرسالة، والتنزيل ليس مرادفًا للتنازل، بل هو انتقال الحكم من فضاء التجريد إلى مجال الواقع، مع الحفاظ على معناه وغاياته.

إن الشريعة، في خطابها الكلي، خاطبت الإنسان بوصفه كائنًا حرًّا عاقلاً مسؤولاً، ولم تخاطبه بوصفه آلة تنفيذ أو موضوعَ إكراه. جاءت مبشِّرة لا منفِّرة، ميسِّرة لا معسِّرة، موقِظةً للضمير لا مُلغيةً للعقل.

ولذلك كان رفع الحرج أصلًا من أصولها، كما في قوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، وكان وضع الإصر والأغلال مقصدًا من مقاصد بعثة النبي ﷺ: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾. ولم يكن ذلك ترفًا تشريعيًّا، بل تأسيسًا لفلسفة أخلاقية ترى الإنسان غايةً في التكليف لا وسيلة.

وفي السياق نفسه، تقرر قاعدة الحرية باعتبارها شرطًا للتكليف، لا عارضًا له، فـ ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ ليست مجرد حكم فقهي، بل مبدأ أنطولوجي يؤكد أن الإيمان فعلُ اقتناع لا نتيجة ضغط، وأن المسؤولية لا تقوم إلا على إرادة حرّة.

ولذلك رفع الشارع التكليف عمّن أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان، وعلّق الأحكام عند حدود الضرورة، وفصّل المحرمات مع فتح باب الاضطرار، لأن المقصد الأعلى هو حفظ الإنسان لا امتحانه بالعنت.

إن الأزمة الحقيقية ليست في النصوص التي رفعت الحرج، بل في القراءات التي أعادت إنتاجه، وليست في الشريعة التي أقامت الميزان بالقسط، بل في الممارسات التي جعلت منها عبئًا نفسيًّا واجتماعيًّا. فحين تُنزَع المقاصد من الأحكام، يتحول الدين إلى طقوس بلا معنى، أو إلى سلطة بلا رحمة، وحين يُغلق باب الاجتهاد باسم الخوف على الثوابت، تُغلق معه أبواب الحياة، ويُترك الواقع فريسةً للفوضى أو للاستلاب.

إن الوعي المقاصدي، في جوهره، ليس تقنية فقهية فحسب، بل هو رؤية حضارية شاملة، تعيد ترتيب العلاقة بين النص والواقع، وبين الحكم ومحلّه، وبين المقصد والوسيلة. وهو وعي يدرك أن الأحكام تُرتَّب على أحوال المحكوم عليهم، وأن تغيّر الزمان والمكان والأعراف ليس تهديدًا للشريعة، بل هو مجال فاعليتها. فالشريعة التي لا تُحسن قراءة الواقع، تُساء قراءتها من الواقع.

ولعل أخطر ما تعانيه الأمة اليوم هو هذا الانفصام بين خطابٍ دينيٍّ يتحدث بلغة القرون الماضية، وواقعٍ إنسانيٍّ يعيش إيقاع العصر، فينشأ جيلٌ ممزق بين انتماء روحي لا يجد له ترجمةً في الحياة، وواقعٍ مادي لا يجد فيه معنى. ومن هنا تتغذى التطرفات، سواء تلك التي تلوذ بالتشدد باسم الدين، أو تلك التي تهرب من الدين باسم الحداثة.

إن المصالحة المطلوبة بين السماء والأرض ليست مصالحةً شكلية، ولا حلولاً ترقيعية، بل هي مصالحةٌ معرفية وأخلاقية، تعيد للدين وظيفته الحضارية بوصفه قوةَ توجيهٍ وبناء، لا أداة صراع وإقصاء. مصالحة تجعل من الحرية قيمةً شرعية، ومن الكرامة مقصدًا دينيًّا، ومن حقوق الإنسان امتدادًا لمعنى الاستخلاف، لا نقيضًا له.

بهذا الوعي، وحده، يمكن للأمة أن تخرج من خصومتها مع التاريخ، وأن تعود فاعلاً حضاريًّا لا شاهدَ أزمة، وأن تستعيد قدرتها على إنتاج المعنى في عالمٍ يتغير بسرعة. فالشريعة التي أنزلها الله رحمةً للعالمين، لا يمكن أن تكون سببًا في شقاء الإنسان، وإنما تكون كذلك حين تُنزَع عنها روحها، وتُحبَس في قراءاتٍ تخاف الحياة أكثر مما تخاف الظلم.

إن المستقبل لا يُبنى بالقطيعة مع الوحي، ولا بالقطيعة مع العصر، بل ببناء جسرٍ مقاصديٍّ متين، يعبر عليه الإنسان المسلم من نصوصه إلى واقعه، ومن إيمانه إلى إنسانيته، ومن عبادته إلى عمرانه.

وفي ذلك وحده يتحقق معنى الشهادة على الناس، ومعنى الاستخلاف في الأرض، ومعنى أن يكون الدين حياةً، لا عبئًا، ونورًا، لا قيدًا .

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...