مرة أخرى موضوع المصالحة بين الاسلاميين المنتسبين إلى “السلفية الجهادية” والمتواجدين رهن الاعتقال والدولة المغربية يحتاج الى تحرير القول بشأنه، ويحتاج إلى وقفة صادقة وموضوعية، بل يحتاج إلى قراءة ثورية تسهم في وضع النقط على الحروف بدون لغة الخشب ـ كما يحلو للبعض ان يقول، فهل صحيح أنه من الممكن أن نتحدث عن شيء اسمه المصالحة، وبين من؟
بين الدولة ـ الطاغوت في تصور السلفية الجهادية وبين المعتقلين الذين لا يستطيعون حتى إخفاء موقفهم من هذه الدولة ؟
إن مجرد تصور هذا الأمر فيه نوع من الجرأة ، وفيه قدر كبير من المغامرة، إذ أنه من شبه المقطوع به أن السلفي الجهادي لا يمكنه من حيث المبدأ أن يتصالح مع الدولة ويبقى سلفيا جهاديا، لأن من أكبر محددات “السلفية الجهادية” الموقف من الدولة، إذ من شروط الانتساب إلى هذه الاديولوجيا الموقف من الدولة، ومعاداتها على وجه الخصوص، ولا يمكن أبدا تصور سلفي جهادي متصالحا مع الدولة ومع مؤسساتها وأجهزتها.
وهذا معناه أن المصالحة هنا، ووفق ما تفرضه الجهات المشرفة عليها، أي أن يتنازل السلفي الجهادي عن قناعاته ومبادئه وأفكاره وتصوراته، وليس هذا فحسب بل أن يتحول إلى كائن لا يتوقف عن جلد ذاته وإدانتها والبراءة من تاريخه وماضيه ولعنهما، أقول إن معنى المصالحة هذه ـ و كما تعرضها تلك الجهات ـ هو أن لا يبقى هناك لا سلفية جهادية ولا شيء، ولا يظل هناك لا سلفي جهادي ولا شيء.
لا شك أن الجميع على علم بأن هذا الملف شابته العديد من الخروقات وعرف العديد من التجاوزات، بل نستطيع أن نقول ـ دون أن نجانب الصواب ـ أن الإسلاميين المنتسبين إلى “السلفية الجهادية” المغربية لم يتمتعوا بأي حق من حقوقهم في المحاكمة [العادلة؟؟] وهذه المحاكمات الماراطونية ـ التي راح ضحيتها الآلاف ـ كانت تفتقد، في كثير من حالاتها ومحطاتها، إلى الحد الأدنى من شروط المحاكمة [العادلة؟؟] وهذا الموضوع صرح به الملك نفسه وصدرت بشأنه العديد من التقارير الدولية وتم توثيقه.
بالإضافة إلى ذلك، إن عددا من الملفات التي أعدت للإسلاميين لم تكن مبررة نهائيا، واعتقالهم بسببها لم يكن مفهوما، والحكم عليهم بالسنوات الطويلة لا يزال، إلى غاية الآن، فيه نوع من الغموض والالتباس.
لماذا لا يمكننا أن نتحدث عن المصالحة؟
إن المصالحة هنا تتم من جانب واحد، أي من الإسلاميين الذين يفرض عليهم، بطريقة أو بأخرى، الاعتراف على أنفسهم بقيامهم بجنايات وجرائم، لا يمكن اعتبارها ـ في الحالات الطبيعيةـ جرائم وجنايات يعاقب عليها (ببناء الفعل للمجهول)، في حين أن الدولة غائبة تماما، ولا أحد يطلب منها ان تعترف بذنوبها التي اقترفتها ـ وتقترفها ـ في حق الإسلاميين.
إن المصالحة هنا تقتضي أن يعترف كل من الإسلاميين والدولة بالأخطاء التي ارتكبوها، وبالخطايا التي اجترحوها، وأن يعوض الطرف الظالم الطرف المظلوم عن الحيف الذي طاله والعسف الذي سامه، وأن يتعهد بالكف عن مواصلة إيقاع الإذى في حق الطرف المظلوم، وهذا طبعا غير موجود في الحالة المغربية.
في الحالة المغربية، تواصل الدولة مسلسل ظلمها وعدوانها ضد شرائح وفئات من أبناء المجتمع، وتدبر بظلمها هذا مرحلة ما من مراحل عمرها، من حيث انها ترعب فئات ما وتصفي حساباتها مع آخرين، وتبرر فشلها في التنمية وإخفاقها في تحقيق الوعود التي قطعتها أمام الشعب.
في الحالة المغربية، تعمل الدولة بمنطق مغاير ومختلف، أي بمنطق الأم وابنها بحيث تواصل الأم ضربها لولدها إلى أن يدرك أنه لا ملجأ له منها إلا إليها، فيقابل ضربها له بتعلقه بها وارتمائه على صدرها، فتكف هي ـ بالتالي ـ عن ضربه، وهذا أشار اليه الشهيد علي شريعتي أثناء تناوله لعلاقة الاستعمار بالدول المحتلة.
وهذا ما يبدو واضحا من خلال إعراض الدولة عن مقتضيات هذه المصالحة وآدابها، حيث انها لا تجد نفسها معنية بها، ولا مقيدة بأخلاقياتها. وحدهم الإسلاميون المساكين يعترفون على أنفسهم ويقرون بذنوبهم ويعلنون ندمهم على أفعال ـ أغلب الظن ـ أنهم لا علم لهم ولا قبل لهم بها، وتتعمد الجهات ـ التي تشرف عليها ـ على توثيقها، حرصا منها على تبرئة ساحة الدولة، وبيان طهارتها ونقائها من دماء ودموع هؤلاء المعتقلين.
مخطئ من يتصور أن الدولة تهتم لملف المعتقلين ويعنيها أمرهم. لقد كانت الدولة دوما تشكك في نوايا “المتصالحين” و”النادمين ـ التائبين” ولذلك، ومنذ انخراطها في حربها على [السلفية الجهادية] ومنذ انفتاح بعض هؤلاء المعتقلين على المراجعات ـ التي كانت الجماعات الأم في أرض الكنانة قد دشنتها وتبنتها ـ وإعلانهم تبنيها، منذ ذلك الحين والدولة تغض الطرف وتشيح بوجهها عنهم و تتجاهلهم، بل و تنكر أن يكون هؤلاء قد قاموا بمراجعات حقيقية، حتى الذين تم الافراج عنهم في اطار عفو ملكي شملهم، لم يكونوا فقط اولئك الذين تبنوا خط المراجعات، بل ربما كان الذين حظوا بالعفو أكثرهم من غير المتراجعين.
المعتقلون الإسلاميون، اذا استثنينا منهم من كان يسميهم الإخوة بـ”اخوة الدم” جلهم يجب الافراج عنهم وإطلاق سراحهم ورد الإعتبار اليهم، بل والاعتذار منهم وتعويضهم عن الاضرار التي لحقتهم، فهم عند التحقيق لم يفعلوا ما يستوجب عقابهم ولا ما يبرر سجنهم.
إن حل هذا الملف لا يستحق كل هذه الإجراءات ولا يستحق كل هذه المماطلة، إن هؤلاء المعتقلين ـ كما خبرناهم في أقبية السجون ـ من خيرة من عرفنا من أبناء الوطن، وكل ابناء وطننا فيهم خير، ووجودهم خارج اسوار السجون فيه خير لهم ولذويهم وللوطن من بعد. وإني أرى أفضل علاج لهذا الملف أن تتخذ الدولة قرارا شجاعا يعيد لها بعضا من هيبتها وقدرا من احترامها في عين شعبها فتطوي صفحته وتقطع الطريق على الذين يتاجرون به ويسترزقون ويشربون ويأكلون على حساب هؤلاء المسحوقين والمغيبين والمرميين وراء السدود.. كفى حزنا أن يعتاش التافهون من آلام المقهورين.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=6650