عبده حقي
لطالما كانت شبكة التحالفات والتضامن بين الدول العربية حجر الزاوية في السياسات الإقليمية. ويتمثل جوهر هذه الشبكة في الدعم الثابت الذي قدمته المملكة المغربية للقضية الفلسطينية، وهو التضامن الذي ترسخت جذوره عبر عقود من الالتزام السياسي والإنساني والأخلاقي والقومي. ومع ذلك، فإن التصريحات الأخيرة لبعض القادة الفلسطينيين، والتي انتهكت وحدة أراضي المغرب وشككت في سيادته على الصحراء، تركت الكثيرين يتساءلون عن الدوافع والتداعيات الكامنة وراء هذه المواقف المريبة . إن هذا الجحود الواضح لا يقوض العلاقات التاريخية فحسب بين الشعبين العربيين ، بل يشكل أيضًا تحديًا واسعا للوحدة العربية في عصر أصبح فيه التعاون أكثر أهمية من أي وقت مضى.
لا يمكن إنكار دور المغرب كحليف ثابت للقضية الفلسطينية منذ نكبة القرن الماضي . فمنذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني إلى الملك محمد السادس، أعطت المملكة الشريفة الأولوية باستمرار للقضايا الفلسطينية على المستويين الإقليمي والدولي. إن رئاسة المغرب للجنة القدس، وهي هيئة تابعة لمنظمة التعاون الإسلامي، تؤكد التزامه بحماية الهوية العربية والإسلامية لزهرة المدائن . وعلاوة على ذلك، قدمت المملكة دعماً مالياً وإنسانياً ودبلوماسياً كبيراً للشعب الفلسطيني، بما في ذلك تمويل مشاريع التنمية في قطاع غزة واستضافة المنتديات والملتقيات التي تعمل على الاهتمام بالصوت الفلسطيني المقهور.
ومع ذلك، فقد قوبل هذا التضامن الوازن والطويل الأمد بردود أفعال محيرة من بعض القادة الفلسطينيين، الذين انضموا مؤخراً إلى افتراءات حول سيادة المغرب على مناطقه الجنوبية. ويثير هذا الموقف المتناقض، المتجذر في خندق أيديولوجي عفا عليه الزمن، تساؤلات مهمة حول المبادئ التي توجه هؤلاء القادة المتاجرون بقضيتهم الأولى وباتوا يتاجرون بقضية وحدتنا الترابية . فهل تعكس هذه الممارسات قناعات سياسية حقيقية، أم أنها تعمل كوسائل لإلهاء النازحين عن القضايا الملحة داخل دائرة الحكم الفلسطيني؟ إن هذه التساؤلات الملحة والقلقة تتطلب تدقيقاً أكثر موضوعية وعقلانية.
في جوهر الأمر، يكشف الاختلاف بين بعض القادة الفلسطينيين والمغرب عن افتقار إلى المعاملة بالمثل. في حين دعم المغرب قضية فلسطين باستمرار في المحافل الدولية، إلا أن هذا الدعم لم يقابل دائما بالاحترام والتقدير المتبادل. على سبيل المثال، أيدت بعض الشخصيات الفلسطينية مؤخرا علناً الحركات الانفصالية في الصحراء المغربية، وهي المنطقة التي أكد المغاربة السيادة عليها كامتداد جغرافي ومشروعية تاريخية تمتد لقرون خلت . وتتجاهل مثل هذه المواقف الحقائق الجيوسياسية الدقيقة للمغرب وتتجاهل أيضا مساهمات المملكة التاريخية للعالم العربي.
إن هذا الجحود الفلسطيني ليس رمزيا فحسب؛ بل له عواقب وخيمة وملموسة حيث تخاطر القيادة الفلسطينية بعزل نفسها في القوقعة الجزائرية وما شابهها . وكما لاحظ المحلل السياسي رشيد الخالدي في كتابه *حرب المائة عام على فلسطين*، فإن التضامن بين الدول العربية شكل في كثير من الأحيان العمود الفقري للمقاومة للضغوط الخارجية. ومع ذلك، عندما تظهر الانقسامات الداخلية، فإنها تضعف العزيمة الجماعية وتفتح الباب للتلاعب الخارجي. وقد تكون آثار هذه الانقسامات بعيدة المدى، خاصة مع تنافس الجهات الفاعلة الإقليمية على النفوذ في الشرق الأوسط الموغل في التشرذم بشكل متزايد.
إن التناقض الكامن في مواقف بعض القادة الفلسطينيين يسلط الضوء أيضاً على قضية أخرى أوسع نطاقاً تتعلق بنفاقهم السياسي. ففي حين تدعو القيادة الفلسطينية بشكل متكرر إلى الوحدة العربية والدعم المتبادل، فإن الممارسات الرعناء التي تناوئ سيادة المغرب على صحرائه الغربية والشرقية تشير إلى انحراف عن هذه المبادئ. ويتجلى هذا النفاق بشكل خاص عندما ننظر إليه في سياق تطبيع المغرب مؤخراً للعلاقات مع إسرائيل، وهو القرار الذي رافقته تأكيدات حازمة على استمرار الدعم للقضية الفلسطينية.
قد يزعم البعض أن هذه التصريحات هي أخطاء استراتيجية وزلات لسان عابرة وليست مواقف لخيانة صريحة. ومع ذلك، فإن توقيتها ونبرتها تشير إلى خلاف ذلك. فمن خلال التحالف مع الحركات الانفصالية في الصحراء المغربية، يبدو أن هؤلاء القادة يعطون الأولوية للمكاسب الإيديولوجية القصيرة الأجل على الفوائد الطويلة الأجل للتضامن. وكما أكد عالم السياسة إدوارد سعيد في عمله الرائد “الاستشراق”، فإن التصلب الإيديولوجي غالباً ما يعمي القادة عن الحقائق الجيوسياسية المتطورة. إن عجز القيادة الفلسطينية عن تكييف موقفها تجاه المغرب بالإيجاب يجسد هذه الظاهرة، مما يعوق التقدم في التعاون العربي الأوسع.
إن المواقف التي يتبناها بعض القادة الفلسطينيين لا تؤدي إلى إجهاد العلاقات الثنائية فحسب، بل إنها تؤدي أيضاً إلى انهيار أسس التضامن العربي. وفي وقت حيث تشكل الوحدة الإقليمية أهمية أساسية لمعالجة التحديات المشتركة ــ التي تتراوح من التنمية الاقتصادية إلى مواجهة التدخل الأجنبي ــ فإن الانقسامات داخل العالم العربي لا تخدم إلا إضعاف الجهود الجماعية.
ولنتأمل السياق الأوسع لهذه المعضلة : فقد كان دعم المغرب للشعب الفلسطيني يُـصَـوَّر دوماً كجزء من التزامه بالعالم العربي والإسلامي. ومع ذلك، فإن هذا التضامن ليس بلا شروط؛ فهو يرتكز على الاحترام المتبادل والقيم المشتركة. وعندما يتبنى بعض القادة الفلسطينيون مواقف تتناقض مع هذه القيم، فإنهم يخاطرون بتقويض التحالفات ذاتها التي دعمت قضيتهم. وتذكرنا هذه الديناميكية بالتشرذم الذي ابتليت به جامعة الدول العربية خلال القرن العشرين، عندما كانت المصالح الوطنية المتضاربة تطغى في كثير من الأحيان على الأهداف القومية الجماعية. واليوم، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، مع عواقب مماثلة تلوح في الأفق.
في ضوء هذه التطورات، بات من الضروري إذن أن يعيد بعض القادة الفلسطينيين تقييم مواقفهم وإعطاء الأولوية للوحدة على الانقسام. وتتطلب إعادة التقييم هذه التحول من الأطر الإيديولوجية العتيقة إلى استراتيجيات عملية تتماشى مع الحقائق المعاصرة. وكما يلاحظ المؤرخ آفي شلايم في كتابه “الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي”، فإن الحركات السياسية الناجحة هي تلك التي تتكيف مع الظروف المتغيرة دون أن تغفل عن أهدافها الأساسية. وبالنسبة للقيادة الفلسطينية، فإن هذا يعني تعزيز التحالفات التي تدعم قضيتها بدلاً من تنفير المؤيدين الرئيسيين.
إن المواقف الأخيرة لبعض القادة الفلسطينيين بشأن وحدة أراضي المغرب تعكس انحرافًا مقلقًا عن مبادئ التضامن والاحترام المتبادل التي حددت تاريخيًا العلاقات العربية. إن هذا الجحود، سواء كان نابعًا من النفاق السياسي أو سوء التقدير الاستراتيجي، يهدد بتقويض التحالفات ذاتها التي دعمت القضية الفلسطينية.
إن الطريق إلى الأمام يكمن في إحياء روح التعاون التي تعطي الأولوية للأهداف المشتركة على التصريحات والمواقف المثيرة للانقسام. ومن خلال مثل هذه المعايرة فقط يمكن للعالم العربي أن يأمل في معالجة تحدياته وبناء مستقبل متجذر في الوحدة والمرونة.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23008