سعيد الزياني ـ دين بريس
يشكل مشروع قانون تنظيم الفتوى الجديد في مصر لحظة مفصلية في العلاقة المركبة بين الدين والدولة، وبين المؤسسات الدينية الرسمية نفسها، فالقضية التي تبدو في ظاهرها تقنية ـ أي تحديد الجهات المختصة بإصدار الفتوى الشرعية ـ تنطوي في عمقها على أبعاد استراتيجية تتعلق بتوزيع “السلطة الرمزية”، وصياغة “المرجعية الدينية” في سياق سياسي يعيد تعريف أدوار المؤسسات التقليدية وحدودها.
ولا يمكن مقاربة هذا القانون بمعزل عن تحولات الدولة المصرية في العقد الأخير، حيث تسعى السلطة السياسية إلى فرض مقاربة أكثر مركزية في إدارة الشأن الديني، انطلاقا من اعتبارات الأمن الديني والاجتماعي، وضبط المجال الرمزي في مواجهة ما يعد اختراقا من تيارات التطرف أو منابر الفوضى الفقهية.
وضمن هذا الإطار، يصبح تنظيم الفتوى أداة لإعادة الهيكلة، ووسيلة لإرساء موازين جديدة بين “الأزهر الشريف”، و”دار الإفتاء”، و”وزارة الأوقاف”.
والمفارقة أن هذا السعي إلى “تنظيم” الفتوى لا يتم عبر التوافق داخل الحقل الديني، بل من خلال مقاربة تشريعية تقررها لجنة برلمانية تحت سقف السلطة التشريعية، وهو ما يعمق الشعور داخل الأزهر بأن هناك محاولة لتقليص دوره أو تحجيم استقلاله الرمزي، خصوصا في ظل ما يعتبره تدخلا من مؤسسة تنفيذية (وزارة الأوقاف) في اختصاصات تقليدية منوطة بالأزهر، تاريخيا ودستوريا.
ويمكن فهم موقف الأزهر في هذا السياق من خلال تصوره لذاته كجهاز علمي مرجعي، لا يمكن تسويته بمؤسسات وظيفية تخضع للسلطة التنفيذية، فالأزهر يرى أن الفتوى ليست ممارسة إدارية ولا وظيفة دعوية، بل عملية علمية دقيقة تخضع لاجتهاد مبني على التأصيل، والإلمام بأصول الفقه، وقواعد المقاصد الشرعية، ومتطلبات الزمان والمكان، ومن ثم فإن منح الأئمة ـ حتى لو كانوا من خريجي الأزهر ـ صلاحية الفتوى عبر قنوات وزارة الأوقاف، يهدد، من وجهة نظره، وحدة المرجعية وعمقها العلمي.
وعلى عكس من ذلك، تتحرك وزارة الأوقاف ضمن منطق مغاير، ترى فيه أن حصر الفتوى في هيئة واحدة لم يفلح في الحد من فوضى الخطاب الديني، وأن تأهيل أئمتها ـ الخاضعين لبرامج مشتركة مع دار الإفتاء ـ يجعلهم قادرين على سد الفراغ الذي تخلقه بعض المواقف النخبوية غير المتفاعلة مع المجتمع، وهي حجة تستبطن تصورا عمليا للخطاب الديني: القرب من الناس أهم من التراتبية المعرفية، والتنظيم الإجرائي أولى من التقديس الرمزي.
وهنا يبرز “البعد السياسي” للقضية، فمشروع القانون يستثمر ضمن رؤية أوسع للدولة تهدف إلى ضبط المجال الديني برمته، ليس من منطلق الصراع مع الأزهر تحديدا، ولكن انطلاقا من تصور يعتبر أن “المرجعية المطلقة” باتت غير قابلة للإدارة السياسية، وأن تعدد المداخل المؤسسية قد يكون أكثر نجاعة في ضمان الاستقرار والحد من الانفلات الفقهي.
ويكمن التحدي الحقيقي ـ في نظري ـ في غياب الإطار التنسيقي الشامل الذي يضمن التكامل بين هذه المؤسسات الثلاث، فحتى في حال تمرير القانون، فإن استمرار التوتر سيبقي المجال مفتوحا أمام تنازع الصلاحيات، وازدواجية المرجعيات، وهو ما من شأنه أن يضعف ثقة الجمهور في المؤسسات الدينية الرسمية، ويعزز لجوءه إلى منابر بديلة قد لا تخضع لأي إشراف مؤسسي.
إن التحليل الاستراتيجي لهذا المشهد يفرض إعادة النظر في آليات التنسيق بين الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء، والذهاب نحو تأسيس هيئة وطنية مشتركة تعنى بالإفتاء، تكون تحت مظلة الأزهر من حيث المرجعية، وبمشاركة دار الإفتاء من حيث التخصص، ووزارة الأوقاف من حيث التوصيل المجتمعي، شريطة أن تحسم المرجعية الفقهية والعلمية العليا لصالح الأزهر، حفظا للتوازن المعرفي والتاريخي.
إن معركة الفتوى تتجاوز كونها معركة نصوص إلى معركة نفوذ وصورة وهيبة، مما يحتم معالجة هذا الملف بمنطق التوافق المؤسسي حتى لا يتسبب ذلك في تفكك المرجعية الدينية وتشظي الخطاب الديني، وهنا تحديدا تتجلى الحاجة إلى رؤية استراتيجية متماسكة، تعيد بناء العلاقة بين الدين والدولة على أساس من التوازن المرجعي والمؤسساتي..