2 يونيو 2025 / 09:42

من يبني وعي التعايش؟ نحو نخبة جديدة تتجاوز صراع التيارات

كريمة العزيز

يتكرر الكلام عن التعايش في خطابات السياسة والمجتمع كما لو كان حقيقة مكتملة، لكنه غالبًا ما يغطي على عجز بنيوي عن تسمية ما هو جارٍ فعليًا، فبينما تتكاثر الشعارات وتُستهلك المفاهيم، يندر أن نجد من يملك الجرأة على الذهاب إلى الجذور. الجميع يتحدث عن التعايش، لكن قلّ من يسائل نفسه بصدق إن كان يمارسه فعلًا، وعن الكلفة التي يتطلبها حين يُراد له أن يكون حقيقيًا لا دعائيًا.

الواقع يُظهر أن الإيديولوجيات، على اختلافها، لم تعد أدوات فكرية أو رؤى نقدية، بل تحوّلت إلى آليات لإعادة إنتاج الانقسام. من اليمين المتطرف إلى اليسار الراديكالي، ومن الحركات الدينية إلى المشاريع التحديثية، تتعدد الشعارات وتتشابه الوظائف. كلها، مهما ادّعت التحرير، ساهمت في تعزيز الولاء لا في تحرير الوعي، وفي تكريس الاصطفاف لا تجاوزه.

إن كانت آلاف الصفحات قد كُتبت لنقد هذه التيارات، فإن القليل فقط منها تجرأ على طرح السؤال الأصعب، مثل ما إذا كنا بحاجة إلى تجاوز هذه البنى بدل الاكتفاء بتحليلها، أو ما إذا كنا نملك الأدوات الفكرية لتأسيس نخبة جديدة لا تنتمي لأي انتماء سوى لفكرة التعايش، لا كوسيلة ظرفية بل كقيمة عليا. نخبة تعي أن طريق مجتمع متماسك يمر بإعادة تشكيل الوعي الجمعي، لا عبر تمويه الانتماءات، بل بالتحرر من هيمنتها على الفعل السياسي.

ذه النخبة، إن وُجدت، لا تكتفي بالدعوة إلى قبول الآخر، بل تعيد تعريف الآخر نفسه، لا بوصفه تهديدًا أو استثناءً، بل كمكوّن طبيعي في فضاء مشترك تحكمه معايير لا تستمد مشروعيتها من ولاء ديني أو أيديولوجي أو ثقافي، بل من حق الجميع في الحضور والمشاركة. فإعادة بناء الفعل السياسي تبدأ من إعادة تعريف السياسة ذاتها، لا باعتبارها تنازعًا على النفوذ، بل كبحث عقلاني عن الأفضل. في السياق الأوروبي، يظهر التحدي بوضوح أكبر، إذ إن دولًا مثل فرنسا وبلجيكا لم تعد تواجه فقط صعوبات التعدد الثقافي، بل أصبحت ترى كيف تخترق بعض التيارات المتطرفة المؤسسات من داخلها.

من المدرسة إلى الجمعية إلى الفضاء السياسي، تتسلل رؤى تسعى إلى إعادة تشكيل الحياة العامة وفق أنماط ضيقة من التدين أو الهوية، من اللباس إلى المناهج إلى الحريات. وتتحول المدرسة من فضاء للتكوين المستقل إلى ساحة صراع بين المرجعيات.

حين طُرحت في بلجيكا سنة 2023 برامج للتربية الجنسية، لم يُنظر إليها كخطوة لتمكين الطفل، بل كتهديد أخلاقي، واستُخدم هذا الرفض لتفعيل خطاب أيديولوجي جديد يستند إلى التحريض والعاطفة، ويستعمل أدوات المؤثرين ومنصات التواصل لإعادة تشكيل الرأي العام وتوجيهه، فيتحول الرفض إلى استراتيجية هيمنة. أمام هذا، يظهر السؤال الجوهري، وهو ما إذا كان بالإمكان إنتاج نخبة تفكر خارج الانتماءات، وتجعل من الحياد النقدي شرطًا للفعل لا موقفًا رماديًا. نخبة ترى الطفل لا كامتداد لثقافة أهله، ولا كأداة لأيديولوجيا مدرسية، بل كعقل في طور التشكل، يجب تنميته على النقد والتفكير والمسؤولية الأخلاقية بوصفها ممارسة لا تعليمات. فإن فُرضت عليه طريقة تفكير قبل أن يُدرَّب على أدوات التفكير، فما الذي يتبقى من حريته؟ حين تُحوَّل الهويات الفردية إلى شعارات عامة، من “حجابي هويتي” إلى “ميولي حقي”، ننتقل من حرية التعبير إلى تحويل الخاص إلى قاعدة عامة.

لا يعني التعايش رفع رايات الهوية في كل ساحة، بل وعيًا بأن الهوية ليست مبررًا للامتياز ولا أداة لفرض السلطة الرمزية. فهل المطلوب هو الحضور المتساوي في الفضاء العام، أم أن يتحول هذا الفضاء إلى مرآة دائمة للهويات الفردية؟ مدن مثل باريس وبروكسيل وأنتوربن أصبحت مختبرًا لهذا التحدي، حيث تتقاسم مئات الجنسيات الحيّز العام دون أن تتقاسم بالضرورة التصور ذاته للعيش المشترك.

فهل على الدولة أن تُعيد صياغة قوانينها حسب كل انتماء، أم أن معيار الحياد، خاصة في التعليم، هو الطريق لبناء مواطن يُفكر، يُسائل، ويختار؟ نخبة التعايش، إن وُجدت، ليست مشروعًا حالِمًا ولا وُعْدًا بعيدًا، بل هي شرط لأي تحول سياسي وتنموي. نخبة تراهن على البرامج لا الشعارات، على العقل لا الولاءات، على الخيال السياسي لا التكرار الإيديولوجي. نخبة تدرك أن المجتمعات لا تُبنى على أنقاض التيارات، بل بتجاوزها وتعريتها، لا بالصراخ ضدها، بل بابتكار ما يتخطاها. فهل نملك الشجاعة لنفكر في هذا التحول؟ وهل لدى الفاعلين الجدد ما يكفي من الخيال والجرأة ليؤسسوا لهذا الوعي السياسي الجديد؟ الجواب لا يبدأ إلا بالسؤال.