15 سبتمبر 2025 / 06:27

من المحراب إلى المعمار: أمير المؤمنين يُعلن بيعة الجمال

محمد خياري

​يمدّ مولانا أمير المؤمنين محمد السادس، حفظه الله، يده المباركة داخل محراب مسجد، ليمنح جائزةً فنية، و ليُبارك عهدًا من الإبداع، ويُشهد على تلاقٍ عميق بين السلطان والصانع، بين الشرعية واليد الحرفية، بين الرمز والرمزية، في مشهدٍ تتجلّى فيه الدولة كفنٍّ حيّ، والوطن كقصيدةٍ تُنشدها الزخرفة.
​المسجد، في هذا السياق، ليس مجرد فضاءٍ للعبادة، بل هو مرآةٌ للعبقرية المغربية، مختبرٌ روحيٌّ لصناعة الجمال، ومحرابٌ تتجلّى فيه أنفاس التاريخ، وعبق الحرف، وسكينة الروح. أن تُسلّم الجائزة داخل المسجد، فذلك إعلانٌ رمزيٌّ بأن الفن المغربي ليس ترفًا، بل عبادة، وأن الحرفي ليس مجرد صانع، بل وليٌّ من أولياء الجمال، وأن الزخرفة ليست زينةً، بل دعاءٌ منقوش، ورسالةٌ صامتة، تُخاطب الله والوطن في آنٍ واحد.
​وجه الملك، في تلك اللحظة، لا يُشبه وجوه الملوك في الصور الرسمية. بل هو وجهٌ يتلألأ بالبهجة، كأن السرور قد اتخذ له جسدًا، وانسكب في عينيه جمرة من حبٍّ للوطن، جمرة من فنٍّ لا يُستهلك، جمرة من دينٍ لا يُنسى. الزخارف التي تُعرض أمامه ليست خطوطًا هندسية، بل أنفاسٌ ناطقة، رسائلٌ صامتة، تُخاطب قلبه بلغةٍ لا تُترجم، بل تُعاش، وتُحسّ، وتُرتّل كما يُرتّل القرآن في محراب المسجد.
​في تلك اللحظة، يتحول تسليم الجائزة إلى طقسٍ روحي، إلى إشراقٍ سلطاني، إلى لوحةٍ تُرسم بالسكينة والهيبة. السلطان لا يمنح فقط، بل يُبارك، يُشهد، يُعلن، ويُحب. كأن اليد البيضاء التي تُسلّم الجائزة تُبارك اليد التي صنعتها، وتُعلن أن المغرب لا يبني بالحجر فقط، بل بالحرف، بالرمز، بالهوية، بالحب، وبالروح التي تسكن الزليج، وتتنفّس في الجبس، وتُرتّل في الخشب المنقوش.
المسجد، في هذه اللحظة، يتحوّل إلى فضاءٍ دبلوماسيٍّ من نوعٍ آخر، حيث تُعقد الصفقات الروحية، وتُرسم خرائط الشرعية الجمالية. هو ليس فقط بيت الله، بل بيت الوطن، وبيت الحرف، وبيت الذاكرة. فيه تتلاقى العبقرية المغربية في أبهى تجلياتها: الزليج الفاسي، النقش على الجبس، الخط المغربي، الزخرفة التي تُحاكي الروح دون أن تُثقل الشكل، وتُخاطب العالم بلغةٍ لا تُنسى.
​من المسجد إلى برج محمد السادس، تنتقل البذرة، فلا يظهر هذا الأخير كمعلمٍ معماريٍ فخمٍ فحسب، بل كجبلٍ من نور، يختزن روح الحرف المغربي، ويُعلن أن الزخرفة ليست حرفةً مادية، بل لغةٌ دبلوماسية، تُخاطب المستثمرين بلغة الجذور، بلغة الشرعية، بلغة تجعل كل من يراها يشعر أنه أمام حضارةٍ لها عمقها، وإرثها، ووعدها المتجدد. هو شاهدٌ حيٌّ على أن المغرب لا يُصدّر فقط الفوسفاط، بل يُصدّر الجمال، والرمز، والهوية.
​وفي قلب المدينة المالية بالدار البيضاء، حيث تُعقد الصفقات وتُرسم خرائط الاقتصاد، تتبدى الزخرفة المغربية كقوةٍ ناعمة، كوشمٍ على جبين الدولة، كقصيدةٍ تُنشد في صمت، تُعلن أن المغرب يعرف كيف يُخاطب العالم بلغةٍ لا تُنسى. عبر قطار البراق، عبر الموانئ والمطارات، عبر الأبراج والمراكز، تُصبح الزخرفة المغربية توقيعًا روحيًا، شهادةً على أن الفن حيٌ، نابضٌ، حاضرٌ في المشاريع الكبرى، في المعمار، في البناء، في التزيين، وفي الروح.
​كل حرفٍ فيها وعد، وكل نقشةٍ فيها نبض، وكل معمارٍ يزدان بها يكتب مجدًا مغربًا خالدًا، لا ينطفئ، بل يزداد توهجًا كلما مرّ عليه الزمن. كأنّه يُنشد في صمت: ما كان لله دام واتصل.
​وهكذا، تُكتمل الصورة بالألوان وبالأثر، بالخطوط وبالمعاني، بالسكينة وبالهيبة. لوحةٌ تُعلّق في ذاكرة الأمة، وتُروى على لسان السنين، وتُصبح قصيدةً تُنشدها الحضارة، كلما التقى الحاكم بالحرفي، وكلما باركت اليد السلطانية اليد الصانعة، وكلما نطقت الزخرفة باسم الوطن.
​إن تسليم الجائزة داخل المسجد فعلٍ رمزي، وإعلانٌ سلطانيٌّ بأن الإبداع المغربي له مقامٌ روحي، وأن الحرفي المغربي هو وريثُ سرٍّ، ووارثُ فنٍّ، وحاملُ رسالةٍ تتجاوز الزمان والمكان. هو تكثيفٌ للعبقرية المغربية، التي تعرف كيف تُحوّل المادة إلى معنى، والخط إلى دعاء، والنقش إلى هوية، واللون إلى وطن.
​في حضرة المسجد، وفي حضرة الملك، وفي حضرة الحرف، تتجلّى الدولة المغربية كفنٍّ حيّ، وكهويةٍ نابضة، وكوعدٍ لا ينطفئ. فهنيئًا للمغرب بهذا التلاقي النادر بين السلطان والصانع، بين الشرعية والجمال، بين الروح والحرف، بين الدولة والقصيدة.