8 أكتوبر 2025 / 11:11

من الجود العباسي إلى الزكاة المؤسسية: عودة صاحب العباسية إلى الواجهة

عبد الحي السملالي

يهدف هذا النص إلى إعادة قراءة فكر صاحب العباسية، أبي العباس السبتي، بوصفه أساسًا لنموذج اقتصادي قيمي مغربي، واستجلاء كيف يمكن أن تسهم هذه الرؤية في بلورة مقاربة مؤسسية حديثة للزكاة تجمع بين روح العباسية ومنطق الدولة المعاصرة.

في زمن تتعاظم فيه النزعات المادية وتضعف الروابط الاجتماعية، تعود العباسية — برمزيتها التاريخية والروحية — إلى واجهة النقاش الفكري والاجتماعي في المغرب. فقد شكّلت تجربة أبي العباس السبتي بمراكش خلال القرن السادس الهجري مختبرًا مبكرًا لصياغة مفهوم الجود المنتج، حيث يتحول العطاء إلى نظامٍ يعيد بناء التوازن بين الروحي والمادي.

واليوم، في ظل التحولات الاقتصادية الكبرى وتحديات العدالة المجالية، يبرز النقاش حول إعادة تفعيل فريضة الزكاة كمطلب لتجديد العلاقة بين الدولة والمجتمع، واستعادة البعد الأخلاقي في التنمية، على نحوٍ يستلهم روح صاحب العباسية في مأسسة العطاء وتحويله إلى اقتصاد قيمي حديث.

تعتمد هذه المقاربة على ثلاث مقاربات متكاملة: المنهج التحليلي التاريخي لتتبع نشأة التجربة العباسية وخصائصها الاجتماعية والروحية؛ المنهج المقارن لتحليل أوجه التلاقي والاختلاف بين الجود العباسي والزكاة المؤسسية المعاصرة؛ المنهج الاستشرافي لتقديم رؤية مستقبلية تدمج بين الأصالة المالكية المغربية ومتطلبات الحوكمة الحديثة.

 

الزاوية العباسية كنواة لاقتصاد قيمي

لقد أسس صاحب العباسية، أبو العباس السبتي، مشروعه على قاعدة أن “الوجود يُبنى على الجود”، فحوّل العطاء من فعل فردي إلى نظام اجتماعي متكامل، يربط بين المال والنية، وبين البركة والتنمية. كانت الزاوية العباسية بمراكش أكثر من فضاء روحي، إذ أدّت دورًا اقتصاديًا واجتماعيًا متقدمًا في محاربة الفقر وتحقيق التكافل.

هكذا وُلد أول نموذج مغربي للتضامن المنظم، يقوم على النية والإخلاص كقيمة مضاعِفة للأثر المادي، في زمن لم تكن فيه المؤسسات الرسمية قادرة على أداء هذا الدور.

 

التكامل بين العلم والاقتصاد

تميّز فكر صاحب العباسية بقدرته على الدمج بين المعرفة والعطاء. فقد كانت الزاوية مركزًا للعلم والتعليم، وفي الوقت نفسه مركزًا لتوزيع الموارد وتحقيق العدالة المجالية في محيطها. هذا التكامل جعلها نموذجًا أوليًا لـ “التنمية القائمة على القيم”، حيث يصبح العلم محفّزًا على العمل، والعطاء وسيلة لترسيخ الاستقرار الاجتماعي.

 

من العباسية إلى الزكاة المؤسسية

تُمثل المبادرة الملكية لإعادة تفعيل الزكاة في المغرب امتدادًا طبيعيًا لروح صاحب العباسية في ثوب مؤسسي حديث. فكما كانت الزاوية إطارًا لتنظيم الجود وإحياء البركة في المجتمع، تعيد المؤسسة الزكوية اليوم إنتاج تلك الروح بمنطق الدولة الحديثة القائم على الشفافية والحوكمة والمحاسبة.

إنّ ما يجمع بين التجربتين هو الإيمان بأن الاقتصاد لا يستقيم دون قيمة، وأن العدالة الاجتماعية لا تتحقق بالآليات فحسب، بل بالنية التي تسكن الفعل الإنساني. وهكذا تنتقل “العباسية” من فضاء الزاوية إلى فضاء الدولة، ومن البركة الفردية إلى التنمية الجماعية.

 

نحو نموذج تكاملي للتنمية المستدامة

إنّ الجمع بين فلسفة صاحب العباسية والمنظومة الزكوية الحديثة يتيح بناء نموذج تنموي يجمع بين المشروعية الشرعية والنجاعة المؤسسية. فالمطلوب ليس مجرد استحضارٍ رمزي للتراث، بل تفعيلٌ عملي لروحه في إطار منظم، يجعل العطاء أداة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسة.

أعتقد أن ما هو مطلوب اليوم، لا يخرج عن إحداث منصة رقمية زكوية تربط المتبرعين بالمستفيدين في إطار من الشفافية والمراقبة المجتمعية، مع الحفاظ على الجوهر القيمي المستلهم من “النية العباسية”، تأسيس مجلس علمي إداري مستقل يضمن التوازن بين المرجعية الفقهية والكفاءة التقنية في تدبير أموال الزكاة.، تطوير مؤشرات أداء مزدوجة (مادية وروحية) لقياس الأثر الفعلي للبرامج الزكوية على الفئات المستفيدة، وأخيرا، تأهيل الكفاءات البشرية في مجال الاقتصاد الإسلامي والتدبير المالي والاجتماعي، بما يضمن الجمع بين الأصالة والمعاصرة.

إنّ استعادة فكر صاحب العباسية، أبي العباس السبتي، ليست حنينًا صوفيًا إلى الماضي، بل عودة فكرية عملية إلى جوهر الإنسان المغربي وقدرته على تحويل القيم إلى مؤسسات.

فصاحب العباسية يعود اليوم لا كرمز للتصوف فقط، بل كمرجع لمشروع تنموي مغربي متجدد يُعيد للعطاء مكانته في السياسات العمومية، وبذلك تتجدد العباسية في أفق الدولة الحديثة، لتقول إن البركة يمكن أن تكون سياسة عمومية، وإن القيمة يمكن أن تصنع الاقتصاد. فما بين الجود والزكاة، تتجسد مسيرة المغرب نحو تنمية مستدامة قوامها الروح والعدالة والكرامة.