د. عماد فوزي شُعيبي
إن الوقائع التاريخية تختلف عن الواقع الطبيعية لأنها تنتمي إلى الماضي وهنالك استحالة تكرارها وتختلف عن الواقعة الاجتماعي في كونها فردية أي تخص الإنسان الذي يحياها بوصفها حاضرا له وحده وتفسيرها وفهما ونقلها خاصا به. فلا أحد ينقل الواقعة كالآخرين. لذلك ليس ثمة تاريخ هنالك تواريخ.
وهو يعالج وقائع لا تتكرر ولا يمكن اختبارها ولا يمكن العودة بها إلى الوراء رغم أنها وقائع زمنيّة ومرتبطة بالزمن. فالبشر وحدهم لهم تاريخ لأنهم يستشعرون الزمن فلديهم ماض وحاضر ويرمون المستقبل.
وقراءة التاريخ تبدو من النوع الاستردادي الذي يحاول أن يستعيد الماضي ذهنيا-فكريّا فقط! ولهذا فالتاريخ غير موجود وما يأتي منه تصوريّ-كليّ-صوريّ لا أحد يمكنه إثباته. ولهذا فالتاريخ فرضيّات كاتبيها ومتصوريها. وفيها مغالطة معرفيّة خطيرة وهي قياس الغائب على الشاهد وبهذا يتم إنشاء التاريخ لا معرفته!
يمارس معتنقو التاريخ، عندما يجدون الرموز على الكهوف واللُقيا الأثريّة ما ندعوه ال Idiographic وهو تعبير متأتٍ من الفكرة اليونانية ideaα idéa و γράφω gráphō هو اعتماد الرمز البياني في اللقيا الأثرية باعتباره يمثل فكرة أو مفهوما، حيث ينقل التاريخيون معناه من خلال التشابه التصويري مع جسم مادي، محاولة فهم تتحول بشكل زائف إلى يقين فمفهوم… فتاريخ!
التاريخ استرجاع للماضي بمفاهيم عامّة ولهذا فهو تضييع لحقيقة التاريخ من حيث هو وقائع مُفصّلة
فالتاريخ المكتوب ــ كما كان يقول نيتشه ــ- يقتل التاريخ المُعاش. فالتفاصيل تذهب مع المفاهيم العامّة، وإذا كانت المعرفة بالكليّات فالتاريخ بالجزئيات والتفاصيل.
والمؤرخ لا يستطيع أن يبلغ روايته إلاّ بتركيب وإنشاء الواقعة التاريخيّة وهنا يتدخل الخيال والحدس والتفكير التجريدي الخالي من التفاصيل رغم أنه يروي الوقائع، وهنا تحدث المُفارقة: أن الوقائع التي يجب أن تكون تفصيلية تخلو من الأخيرة لصالح المجرّدات. فالنتيجة تعاكس المطلوب ما يجعل علم التاريخ محض روايات بشر لا روايات التاريخ الفعليّ. وما يجعل التاريخ الذي هو تفاصيل، خالٍ منها. وهذه من أبلغ المُفارقات.
يعتمد التاريخ على الوثيقة والمصدر، وكلاهما لا يمكن التأكد منهما ولا من مصداقيتهما. وخصوصا المصدر الذي قد لا يكون أكثر من اختراع ذهني لمصدر لاحق كي يؤكد روايته فيقول أو يتقوّل عن فلان الذي واكب الحدث وسمعت منه. فقد لا يكون فلان هذا موجودا أصلا! والراوي الذي منه تتأتى الوثيقة قد يكون كذلك متوهما متخيّلا … لا فرق. لذلك فلا المصدر مؤكد ولا الوثيقة [طاهرة] !، فروايات شهود العيان قد تفتقد للنزاهة وحتما فهي تفتقد للدقّة لأنها ترى الحدث من زاويتها ويختلط ما رأته بانفعالاتها وبموقفها وبتصوراتها المسبقة وبإيديديولوجيتها وبسوء النيّة.
يعتمد علم التاريخ بالدرجة الأولى على الفهم وليس على التفسير ويتوهم البعض أنه يقارب التفسير باعتبار يبحث عن دلالة الأحداث التي وقعت في سياقها، وكذلك في أسبابها ونتائجها. وهنا يحاول عبر المنهج الاستقرائي التركيبي أن يوجد معنى للتاريخ وفي هذا إضافة خطيرة على التاريخ من عنديات العقل الإيديولوجي الذي يعطي للتاريخ محمولات إضافيّة ومعانٍ كامنة فيه فيحول التاريخ من فعل فرديّ إلى قصديّة جماعية. وينتهي إلى فلسفة للتاريخ يضمّنها بالإكراه مغزى وقصديّة وروحا. وهو بهذا لا يكتفي بما يفعله علم التاريخ من خيالِ التاريخ إنما يحوّله إلى إيديولوجيا التاريخ وهذا تزوير إضافي.
وأخطر ما يقدّمه هؤلاء هو حتمية التاريخ. رغم أن كل حدث هو وليد آثار الفراشات غير المتعيّنة فيه. والأكثر خطورة هو إضفاء مفهوم كليّة التاريخ عليه، وجعل الماضي والحاضر والمستقبل في كليّة مُفتعلة كأن التاريخ كلا متصلا لا جمعا منفصلا ل أحداث ذات خصوصيّة خاصة بها بانفرادها.
إن هذا يحيلنا إلى الفرق بين الكمّ المتصل والكمّ المُنفصل. فرواد التاريخ أقرب إلى الحداثة في نموذجها النيوتوني، فيما واقع التاريخ أقرب إلى ما بعد بعد الحداثة في نموذجه الكوانتي الذي يؤمن بانفصال الوقائع لا باتصالها وبأن عالم الميكرو غير منظم عما هي فيما عالم الماكرو منظم على طريقة علماء التاريخ وفلسفته.
وهنا نتفق مع فرانسوا شتالييه في أن المسألة الحقيقية في علم التاريخ هي مسألة وظيفته الاجتماعية والسياسية، أكثر منها مسألة خاصيته العلمية. فالأمر الهام في علم التاريخ هو العودة إلى الماضي في أحداث المجتمعات فيها وليس الى الحقيقة التي يمكن استخلاصها منها باعتماد الإلهام من واقع ذلك الماضي؛ أي ما يلهمنا من التاريخ هو الأساس باعتبار أننا لا نملك حاضرنا ولا مستقبلنا فنستعين بالتاريخ عليهما كي يساعدنا وهميا وافتراضيا وتصوريّا وعلى الأغلب يتم استخدامه كحكمة مستقبلية! ذات بعد سياسي وبهذا فهو إيديولوجيا ذلك أن التاريخ لا يتكرر والوقائع وليدة ذاتها وتختلف من زمن لآخر والحكمة التاريخية هنا ليست إلاّ إرضاء للذات التي لا تملك أمر مستقبلها. فهي هنا بمثابة تعويذة!! من غوائل عدم السيطرة على المستقبل أو كمحاولة لتنظيم المستقبل من خلال تنظيم التاريخ! وهو تنظيم محض بشري لا يمت للتاريخ الحقيقي للبشر.
إذا، لا شيئ في التاريخ على المستوى المعرفي يستحق أكثر اعتباره سرديات روائية غير قابلة للتأكد. وعبادته وتعظيمه هو عبادة لمن كتبه وتعظيم لما يحتاج البعض إلى تعظيمه!