الدكتور محمد وراضي
إنه من باب الاختصار أن أتجنب تقديم التفاصيل عن الفترة الزمنية التي قضيتها بين يدي أسرة الجماعة. وكل ما أستطيع الآن الإشارة إليه هو أن الذكر الجماعي في صفها غير موجود. والأوراد يؤدي منها كل مريد ما يحدده له الشيخ. فقد ألزمني شخصيا بألف وخمسمئة من “لا إله إلا الله” كل صباح.
كما كنت أشارك في السهر الذي يمتد من بعد صلاة العشاء جماعة إلى الفجر. حيث يتم لنا كذلك أداء صلاة الصبح جماعة. بعدها نغادر المبيت عائدين إلى منازلنا. والمبيت يتناوب الإخوان في توفيره، مرة عند هذا، ومرة أخرى عند ذاك.
وكنت أنا واحدا ممن يستقبلون المريدين مرة في الأسبوع، وأذكر أن ياسين وجه لي ذات مساء خطابا مؤداه أن علي استقبال مريديه في بيتي، دون أن أنسى كوننا نحضر إلى مسكنه قبل المغرب حيث يصليه بنا، ليشرع مباشرة في تقديم نصائحه وتوجيهاته الدينية لا السياسية. وعندما يؤدي بنا صلاة العشاء نغادر إلى حيث نقضي ليلتنا. إضافة إلى السفر الذي نقوم به إلى جهات مغربية متعددة لترسيخ الانتماء إلى الجماعة. سافرنا مرة إلى فاس، أنا وفتح الله أرسلان، وسافرنا إلى أسفي، ومراكش، حيث نقيم الليل في دار أحد التجار المراكشيين الذي يعد واحدا من المريدين الأعزاء عند ياسين.
وكان من جملة ما أذكره، هو أن ياسين يريد أن يبعدني شخصيا عن قراءة فتاوى الإمام ابن تيمية. فقد كنت معه مرة في بيته بالطابق الأول، وأمامه الفتاوى التي طبعت بالرباط ووزعت بالمجان. فقد أمرني، أن لا أقرأها، وهي إذ ذاك في ملكي، حيث إني حصلت عليها بالمجان مثله، إلا أن عقلانية ابن تيمية وأسلوبه المنطقي معززا بالمنقول والمعقول حملني على قراءة فتاويه والتمعن فيها.
وكان حواري مع الراحل الأستاذ محمد البشيري مناسبة أخرى للتدقيق في الاتجاه الديني لعبد السلام ياسين، مما عجل بانفصالي وبانفصاله عنه، وبنفس الدعاوى التي جعلتنا سويا ننتقد فهمه للدين، على اعتبار أن المدرسة الصوفية التي تخرج منها، تقوم على أساس بدع وخرافات؟؟؟
فمن المنظور الديني لم أرتح للاتجاه الصوفي الذي عليه ياسين، ومن المنظور السياسي لاحظت غياب منهج مدروس بإمكان اعتماده للوصول إلى تحرير الشعب من الحكم الفردي كما يراه غيره من رجال السياسة اليساريين على الخصوص. إذ مناقشة هذا الموضوع ونظائره ممنوع أمام الإمام أو الشيخ بالمرة، وأنا آت من أفق حزبي علماني حيث تتوفر حرية المناقشة وإبداء الرأي في الاجتماعات الحزبية.
وفي السنة التي ابتعدت فيها عن أسرة الجماعة، تم تعييني أستاذا بالدولة الجنوبية الجارة موريتانيا، فكان أن وجدت من الموريتانيين ترحابا حارا مثل بقية رفاقي الذين عينوا للتدريس هناك، فقد وفروا لنا المسكن والأمتعة به، ولم يتم تعييني شخصيا خارج العاصمة نواكشوط، ولا تم تعييني أستاذا بها، بل أسندوا إلي القيام بوظيفتين: مفتش مادة الفلسفة عبر التراب الوطني، ومساهم في تأليف الكتاب المدرسي: مادة التربية الإسلامية. وبعد ذلك عينت مدرسا للفكر الإسلامي بالمعهد العالي للدراسات الإسلامية.
وكان أن ازدادت معلوماتي عن الحركات الإسلامية في كل من مصر، وتونس، والجزائر، وموريتانيا نفسها. وقد عاشرت أساتذة مصريين وتونسيين وجزائريين وموريتانيين الذين هم رفاقي في عملية تأليف برامج التعليم الديني الخاص بالمدارس الثانوية، ومن جملة مواضيع الحوار والتخابر، الأوضاع القائمة في مجموع الدول العربية. ولب هذه المواضيع كان هو حرمان الشعوب من اختيار الانتماءات السياسية التي يردونها إذا لم يكن لديها ميل علماني مؤيد واضح. وفهمت كيف أن الإسلاميين – وإن اختلفت نظرتهم إلى مختلف الأنظمة – يجمعهم التأفف من العلمانية التي سادت بالقوة ومن الأعلى دون غيرها، ودون أي اختيار شعبي لها.
ولما حلت الذكرى التاسعة لولادة أبي حامد الغزالي، طلب مني مدير المعهد العالي للدراسات الإسلامية إلقاء محاضرة في الموضوع. غير أن مراجع لإنجاز ما طلبه مني لم أجدها حينها في نواكشوط. فكان أن قدمت إلى المغرب للحصول عليها.
وكان أن قدمت تلك المحاضرة التي تحولت لاحقا إلى كتاب “الأب الروحي للدولة الموحدية أبو حامد الغزالي”. وكان أن دفعته للطبع بعد عودتي إلى المغرب في صيف عام 1988م. ولما لم يبق لي غير قليل من الوقت للتوزيع، رغبت في أن يضع له صديقي وأستاذي محمد العثماني، عم سعد الدين العثماني مقدمة . فكان أن اطلع عليه، وكان أن نبهني إلى شخصية قسوت عليها كثيرا، هي شخصية الإمام أحمد بن تيمية الذي “لم تلد امرأة مسلمة له نظيرا”.
وبقيت محتفظا بكتابي عن الغزالي دون أن أنشره، وإنما أمعنت في قراءة “إحياء علوم الدين”، فوجدت فرقا شاسعا بينه وبين ابن تيمية بالتحديد. مما نتج عنه هجومي البين على الغزالي وإن كان هو صاحب “تهافت الفلاسفة”. فعقله في واد وميولاته النفسية في واد، إلى حد عنده اتفقت مع القائلين: إن التهافت كتاب كلام، لا كتاب فلسفة؟؟؟
المصدر : https://dinpresse.net/?p=18544