الدكتور محمد وراضي
حتى تتميز علمانيتنا بعد الاستقلال، نؤكد تشبعها بالفكر الناصري، وبالفكر البورقيبي. وهذان الفكران هما اللذان يتصارعان في بلدنا حتى الآن، مع أن محمد الخامس قام بمحاولة لغاية طبع المغرب بطابع إسلامي حقيقي. حيث إنه أشرف على وضع مدونة الأحوال الشخصية بعد اعتماده على علماء وطنيين، ساهموا في وضعها، منهم محمد علال الفاسي، ومحمد المختار السوسي، مع عزمه القوي على تقنين بقية الأبواب الفقهية!
ولما اشتد التناحر بين تلامذة الاتجاه الاشتراكي المعادي للدين، الوارد من مصر، وبين الاتجاه الليبرالي الرافض بدوره للدين، الوارد من تونس، وانكمشت أصوات الإسلاميين المعادين للطرفين السابقين، بينما انحاز المساهمون في تحرير المدونة المشار إليها إلى أحد الطرفين العلمانيين، لم يعد في وقت محمد الخامس متسع للاستمرار في تقنين الفقه الإسلامي. وتلبدت الغيوم وتكاثفت في أفق العلاقات بين أطراف عدة. وأبت الأيام المتتالية إلا أن يلتحق الملك المفدى بربه. فانطفأت الرغبة الرسمية في العودة إلى الأصول والمنابع.
وكان أن تمخضت الصراعات السياسية عن وضع أول دستور، كما تمخضت عن مشاهدة أول انتخابات برلمانية. وأبت الأقدار إلا أن أشاهد الدعايات الانتخابية للأحزاب الموجودة حينها بمدينة سلا: الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وحزب الاستقلال. وحزب الشورى والاستقلال. كما أبت إلا أن أكون مناصرا للحزب الأول، بل وكنت أمثل المرشح الاتحادي الراحل: المهدي العلوي المنافس حينها لشخص عزيز علي، هو أبو بكر القادري رحمة الله عليه. دون أن يدخر الاتحاديون كافة أساليب التضليل كي يحظى مرشحهم بالفوز. وقد كان من بين دعاياتهم توزيع صور مفبركة لعلال الفاسي وهو يراقص امرأة جميلة شقراء ممتلئة…
وكنا لبلادتنا وفطرتنا نصدق كل ما يدغدغ أحلامنا في كل ما يحقق رغباتنا في المستقبل، ونحن يومها طلبة فقراء قادمون من أكادير بعد زلزال 1960م. فكان أن نجح المرشح الاتحادي: المهدي العلوي.
وأذكر أن السيد الصديق معنينو ـ وهو في قمة شبابه ـ كان خطيبا مفوها لفائدة والده الأستاذ أحمد معنينو، الذي أصبح صديقا لي في المقبل من الأيام، والذي أهدى لي جملة من كتبه، كما أفادني سياسيا بخصوص حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
ولن أمر إلى ما حصل بعد الانتخابات النيابية، دون أن أذكر القراء بأن الإسلاميين المنكمشين على أنفسهم، لم يكونوا مع ذلك مرتاحين لما جرى ويجري. فقد كان من نعرفهم من شيوخنا في المدارس العتيقة يتوقعون إقدام حكامنا على الاحتكام إلى شرع الله. ففور الحصول على الاستقلال في صورته الناقصة، عين بعض شيوخنا أولئك قضاة مفوضين، فاعتبروا واعتبرنا معهم أن الشرع الإسلامي سوف يعلو شأنه، وكما خاب أملهم لم يخب أملنا نحن، فقد تحولوا إلى وظائف دون مستواهم الفقهي في المحاكم العصرية، فأصبح شيخ لي في مدينة أكادير مسؤولا بكتابة الضبط، ولم تمض إلا سنوات حتى أصبح أحد رفاقي قاضيا بنفس المحكمة، بعده أصبح بها صديق لي آخر وكيلا للدولة.
وكان يحز في نفس أستاذي أن تحول من هم بمثابة تلامذته إلى موظفين يشغلون وظائف أعلى من وظيفته. فأدركت منه إحساسه بنوع من الاحتقار، لكنه في كل الأحوال لا يذكر كوزير العدل الأسبق محمد بوستة بألف خير؟ فهو الذي أبعد كل من أصبحوا قضاة مفوضين، وكأنهم كانوا مجرد قطع غيار، بحجة أنهم لم يتخرجوا من كلية الحقوق، دون أن يكفوا عن مخاطبة وزير العدل، على الأقل لإصلاح بعض أحوالهم المادية، إنما بدون جدوى؟؟؟
معناه أن تحركات العلمانيين الليبراليين في جميع الدول العربية، وما تفرع عنهم من أحزاب ضد الليبرالية أو معها، لم يكونوا جميعهم يكنون للعودة إلى النظام الإسلامي أي تقدير، فقد انتهى في نظرهم أمر اعتماده والعودة إليه، بينما الشيوخ وطلبة المدارس العتيقة، أخذوا بالتدريج يندمجون في الخطط التي يرسمها الحكام العلمانيون للدين. هؤلاء الحكام لا يرون في الدين غير وسائل لخدمة الأنظمة القائمة. والنموذج المقتدى به في هذا الاتجاه موجود بمصر، وتونس، ولاحقا بليبيا، وبالجزائر، وبباقي الدول العربية.
وبما أن هذه الأنظمة العلمانية العربية غير منصفة، وغير عادلة، وغير مستقيمة، وغير موفقة في خدمة مصالح شعوبها، بدأت الجماعات الإسلامية في الظهور والتكاثر، مع اختلافات فيما بينها لتحقيق نفس الهدف، ألا وهو التخلص من أنظمة طاغية ظالمة مستوردة.
وكان من بين هذه الجماعات ميالون إلى العنف الذي عرف عندها بالجهاد، وعرف لدى خصوم الإسلام في الجملة بالإرهاب، لكنه في بعض البلدان سمح للإسلاميين بالتحرك البطيء، بعد أن أبدى هؤلاء رغبتهم في القبول بالنهج العلماني السائد للوصول إلى السلطة، يعني عن طريق الديمقراطية والانتخابات التي هي وسيلة قانونية في الدول الغربية المتقدمة ماديا لا روحيا أو معنويا.
والمغرب بالذات من الدول التي فتحت الباب أمام أكثر من لفيف إسلامي ليباشر نشاطه السياسي؟
المصدر : https://dinpresse.net/?p=18424