ذ. محمد جناي
لقد خاطب الإسلام العقل ودعا الإنسان إلى النظر في آثار مخلوقات الله تعالى ، وقد مضى عصر الصحابة في الصدر الأول على هذا المنهج القرآني الواضح وكان قدوتهم الرسول صلى الله عليه وسلم وحده في النظر والسلوك، حيث عاشوا معه وشاهدوا التنزيل وسألوا واستفسروا عما يستشكل لهم من قضايا تحتاج إلى شرح وإيضاح.
وهكذا استمدوا من كتاب الله تعالى معرفة وحدانية الله تعالى، وإثبات صفاته، وعرفوا الأنبياء والرسل -عليهم السلام- وقصصهم مع أقوامهم، ووقفوا منه على أصل خلق آدم عليه السلام وعداوة إبليس له ولبنيه، وعرفوا مكانة الملائكة وأدوارهم من بين مخلوقات الله تعالى، واستمدوا معلوماتهم عن اليوم الآخر وحساب الله تعالى وجنته وناره والقدر وخيره وشره إلى غير ذلك من القضايا التي تشكل أركانا رئيسية وأصولا في الإيمان، وكلها جمعها القرآن الكريم – كما يرى الزركشي في أقسام ثلاثة : توحيد وتذكير وأحكام.
فالتوحيد تدخل فيه معرفة المخلوقات ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله، والتذكير ومنه الوعد والوعيد والجنة والنار وتصفية الظاهر والباطن، والأحكام ومنها التكاليف كلها وتبين المنافع والمضار والأمر والنهي والندب ، فالأول :”وَإِلَٰهُكُمُۥٓ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اَ۬لرَّحْمَٰنُ اُ۬لرَّحِيمُۖ ” (البقرة :162)،فيه التوحيد كله في الذات والصفات والأفعال، والثاني:”وَذَكِّرْ فَإِنَّ اَ۬لذِّكْر۪يٰ تَنفَعُ اُ۬لْمُومِنِينَۖ “( الذاريات: 55) والثالث:” وَأَنُ اُ۟حْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اَ۬للَّهُ وَلَا تَتَّبِعَ اَهْوَآءَهُمْۖ وَاحْذَرْهُمُۥٓ أَنْ يَّفْتِنُوكَ عَنۢ بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اَ۬للَّهُ إِلَيْكَۖ” (المائدة: 51).
وقد خط لهم القرآن الكريم الاستدلال بمخلوقات الله تعالى على وحدانيته سبحانه وعلمه وحكمته، فإنهما جميعا تبرهن على أن لها صانعا حكيما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة ، كما دعاهم إلى آثار الصنعة في أنفسهم أيضا: ” وَفِےٓ أَنفُسِكُمُۥٓۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَۖ ” ، ( الذاريات :21) ، إشارة إلى ما فيهما من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على وجود الصانع الحكيم.
وتتعدد المواقف التي توضح اتجاه الصحابة في الآيات القرآنية والنظر إليها، فإذا بدأنا في دراسة تلك المواقف بمنهج استقرائي ، استطعنا الوقوف على استنباطهم للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة ، فيتضح لنا كيف بدأ التنازع، وأسباب حدوث الانشقاقات عن القواعد الإسلامية بعدهم، وكيف جوبهت الفرق المنشقة عن وصف الجماعة ، كالخوارج والمرجئة والقدرية وغيرهم؟ وظل علماء السلف من أهل الحديث والسنة يحملون على أعناقهم هذه المهمة فيفندون مزاعم المنشقين، موضحين أسباب انحرافاتهم، مبينين القواعد الإسلامية الصحيحة المتلقاة عن الأوائل.
ونهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن التفكر في الخالق جل شأنه فجاء في الأثر ( تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق)، وتعليل النهي أنه سبحانه ليس كمثله شيء ( فالتفكر الذي مبناه على القياس ممتنع في حقه، وإنما هو معلوم بالفطرة، فيذكره العبد).
كذلك جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته كمصدر ثان للإسلام ولذلك أصبح المنهج الصحيح يقتضي معرفة سنته وتنفيذها،فمن كان أعلم بسنته وأتبع لها كان الصواب معه، وهذه الأوصاف تنطبق على الصحابة رضي الله عنهم ثم الأجيال التالية من أهل الحديث والسنة( وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله ولا يضافون إلا إليه، وهو أعلم الناس بسنته وأتبع لها، لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين).
وبهذه الطريقة وضعوا الأسس السليمة للمنهج الصحيح في معرفة أصول الدين وفروعه، فمن أراد إذن معرفة شيء من الدين والكلام فيه، نظر فيما قاله الله والرسول صلى الله عليه وسلم، فمنه يتعلم وبه يتكلم وفيه ينظر وبه يستدل، فهذا أصل منهج أهل السنة.
أما المخالفون لهذا المنهج، فلم يراعوا قاعدته ولم يلتزموا بخطواته،إذ أنهم بدلا من البدء بالنظر فيما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، بدأوا بما رأوه بعقولهم كما فعل المتكلمون،أو ذاقوه بوجدانهم – كما فعل الصوفية – فإذا وجدوا السنة توافقه وإلا لم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه، أعرضوا عنها تفويضا أو حرفوها تأويلا.
وهذه الصورة المخالفة للمنهج الإسلامي الصحيح كثيرا ما نراها في عصرنا أيضا، فبسبب ضغوط ثقافة الغرب وحضارته، وعلى إثر انتصاره العسكري والسياسي وتفوقه العلمي ونفوذه الثقافي، وتأثيره الساحر على العقول والنفوس في مقابل ضآلة المعرفة بالإسلام وأصوله وفروعه، نجم عنه أن أصبح الكثيرون يتبنون الأفكار والفلسفات الغربية ويعطونها شكلا إسلاميا، ظانين أنهم يدافعون عنها ويقدمونه إلى الأجيال الشابة في ثوب عصري.
فإن استقراء الأحداث بأناة وصبر وجهد-؛ مع توافر الصدق وحسن الطوية- ليثبت أن الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم اكتمل في عقائده وعباداته وأخلاقه وأحكامه ونصوصه وقواعده وأن الرسول صلوات الله عليه انتقل إلى الرفيق الأعلى وترك الإسلام على هذا النحو وأن المسلمين من القرن الأول إلى يوم الناس هذا ، يعتبرون أي تزيد على هذا الدين بدعة تحارب، ويرفضون من أي مخلوق، ومن أي جماعة ، أن يضعوا في هذا الدين جديدا.
تخبرنا كتب التاريخ وصحائفه على اكتمال الفهم والمعرفة لأصول الدين جميعا لدى الصحابة رضي الله عنه، وكان ذلك بفضل طاعتهم للآيات القرآنية التي حثتهم على التدبر في غير موضع، مثل قوله تعالى :” كِتَٰبٌ اَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ اُ۬لَالْبَٰبِۖ ( ص :28)”.
وصفوة القول: لقد بحث المتكلمون ونقبوا في تاريخ الصحابة وأيامهم فلم يجدوا آثار تدل على خوض الصحابة فيها بنفس طريقتهم وتبويباتهم، فاستنتجوا أنهم لم يعرفوها، وهذا منهج خاطئ في البحث والتصور ، يقول السفاريني:” ولما كان عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان خاليا من البدع الكلامية والشبه الخيالية والخصوم المعتزلية، لم تكن أدلة علم أصول الدين مدونة هذا التدوين”، فتمادى المتكلمون بالطعن في الصحابة، فزعموا أنهم كانوا مشغولين بالجهاد عن تناول أمهات أصول الدين، وهذا خطأ جسيم وتفسير مقلوب، إذ لا يمكن تفسير الانتصارات المذهلة للصحابة إلا في ضوء استجابتهم لعقيدة الإسلام، وفهمها حق الفهم وتطبيقها عمليا فاجتذبوا غيرهم من الشعوب ذات الحضارات العريقة فكان الصحابة في وضع الطلائع والصفوة الممتازة.
Source : https://dinpresse.net/?p=18480