28 يوليو 2025 / 12:56

منعكس سيميلويس أو الرفض الفوري للأدلة الجديدة التي تتحدى النماذج العلمية السائدة

الدكتور عماد فوزي شُعيبي

“منعكس سيميلويس” [Semmelweis Reflex]، مصطلح يُستخدم بشكل محازيّ لوصف الرفض الفوري للأدلة أو الأفكار الجديدة التي تتحدى المعتقدات أو النماذج العلمية أو الاجتماعية السائدة، حتى لو كانت هذه الأدلة قوية ومقنعة. و‏في هذا يقول الفلاسفة:

باشلار: “العائق المعرفي لا يُهدم إلا بقفزة.”

هايدغر: “الانفتاح على الحقيقة لا يكون إلا من خلال زلزلة البديهي.

توماس كون: “التحولات العلمية العظمى تأتي حين تُرفض النماذج ثم تُستبدل، لا حين تُعدّل فقط.”

ماكس بلانك: “الحقيقة تُولد كهرطقة، وتموت كخرافة.

“الحقيقة تُولد غالبًا كهرطقة، وتموت كخرافة.” ماكس بلانك

أصل المصطلح:

يعود المصطلح إلى الطبيب إجناز سيميلويس (Ignaz Semmelweis)، الطبيب المجري الذي اكتشف في عام 1847 أن غسل الأيدي بمحلول مُطهر (مثل الكلور) يقلل بشكل كبير من وفيات حمى النفاس (التي كانت تفتك بالنساء بعد الولادة). حيث لاحظ سيميلويس أن معدل الوفيات انخفض بنسبة 90% عندما قام الأطباء بتعقيم أيديهم بعد تشريح الجثث وقبل فحص المرضى.

‏تعتبر هذه الحالة مشابهة لما نعرفه عن إحدى العقبات الإبستيمولوجية وهي المعرفة الشائعة. حيث يدرج البشر على ما اعتادوا عليه وهي عقبة المعرفة الشائعة في الزمن الأفقي.

لهذا واجه سيميلويس معارضة شرسة من زملائه الأطباء، لأن فكرته تتعارض مع المعتقدات الطبية السائدة آنذاك.

بسبب هذا الرفض، تم استبعاد سيميلويس من المجتمع الطبي، وعانى من اضطهاد نفسي شديد حتى توفي في مصحة عام 1865. ولم يتم الاعتراف بأهمية اكتشافه إلا بعد سنوات، عندما أثبت لويس باستور وروبرت كوخ دور الجراثيم، ولكن بعد فوات الأوان. وهذا هو وضع أصحاب الأفكار الجديدة الذين يخالفون المعرفة الشائعة.

كانت أسباب الرفض الظاهريّة تشمل:

  1. الكبرياء والاعتقاد بأن الأطباء لا ينقلون الأمراض.
  2. عدم معرفتهم بالنظرية الجرثومية (حيث لم تكن الجراثيم معروفة بعد).

3التمسك بالتقاليد الطبية القديمة ورفض فكرة أن الأطباء قد يكونون سبب الوفاة.

لكن الأهم هو طبيعة العقل البشري الذي يرفض ما هو جديد ويركن إلى معرفته السائدة. وهذا هو لب المشكلة لأنها تتكرر بأشكال مختلفة مع البشر. فاليوم، يُستخدم “منعكس سيميلويس”كاستعارة لأي رفض غير عقلاني للحقائق الجديدة بسبب التحيز أو التمسك بالمعتقدات القديمة. وهذا يتطابق إلى حد كبير مع تحيز التأكيد.

ينطبق هذا على السياسة والمجتمع والعلاقات بين البشر وفي المؤسسات (وليست مقاومة التغييرات الاجتماعية إلا مثال على ذلك).

أمثلة سياسية:

  1. رفض فكرة المقاومة المدنية عند غاندي:
  • البريطانيون ومعظم قادة العالم رأوا اللاعنف سذاجة؛ لكن بعد انهيار الاستعمار الأخلاقي والسياسي، ظهرت الفكرة كتحول طوري لمفاهيم السلطة.
  • رُفضت كتابع موجة كمومي غير مرصود، ثم “انهارت الموجة” عند تحققها ورصدها بالتحقق نفسه لتُصبح مسارًا.

مثال ثقافي وفكريّ:

رفض المدرسة التكعيبية عند ظهور بيكاسو:

  • تم وصفها بالجنون؛ لكن لاحقًا أصبحت تمثل ثورة في الإدراك البصري، وغيّرت فهم الفن.

 أمثلة اقتصادية:

  1. رفض نظرية كينز في ثلاثينات القرن العشرين:
  • رغم أن أفكاره كانت حلاً للأزمة الكبرى (1929)، رُفض في البداية من التيار الكلاسيكي الاقتصادي؛ لاحقًا صار منقذ الاقتصاد العالمي. وفقا لبعض وجهات النظر الاقتصادية!
  1. العداء الأولي لفكرة العملات الرقمية:
  • اعتُبرت نوعًا من “الهذيان المالي”، ثم تحولت إلى أداة مالية حقيقية يعيد بها العالم هيكلة مفهوم القيمة.

من الأمثلة التاريخية:

كوبرنيكوس وغاليليو – مركزية الشمس:

  • تم رفضها لا لأنها بلا أدلة، بل لأنها تصادمت مع النموذج القروسطي. هذا هو لُبّ منعكس سيميلويس في الزمن الأفقي الممتد للأفكار التي تأخذ زمنا طويلا.

التحليل الكوانتي لـ”منعكس سيميلويس”:

  1. التراكب: في لحظة ظهور فكرة جديدة، لا تكون مرفوضة تمامًا ولا مقبولة تمامًا، بل تقع في حالة تراكب معرفي – احتمال القبول والرفض موجودان معًا. ولكن فعل الرصد الاجتماعي أو المؤسسي (كأكاديمية الطب مثلاً) يجبر الحالة على الانهيار باتجاه الرفض أو القبول.

منعكس سيميلويس هو انهيار الموجة الفكرية نحو الرفض بسبب رصد اجتماعي غير متحقق.

  1. فعل الرصد وصنع الواقع: كما أن الإلكترون لا “يقرر” موضعه إلا حين نرصده، كذلك الفكرة الجديدة لا تتجسد في الواقع إلا عندما تُقابل برصد واعٍ – لكن حين يكون الرصد تحكميًا أو مسبقًا بأحكام مسبقة (كما حدث مع سيميلويس)، يتم وأد الإمكانية قبل أن تصبح واقعًا
  2. السببية الراجعة: الرفض المسبق للأفكار الجديدة، كما في منعكس سيميلويس، يُعيد تشكيل الماضي بطريقة تُجهض المستقبل.

فبدلاً من أن يُعاد تفسير الماضي في ضوء الفكرة الجديدة، يُعاد بناء الفكرة الجديدة على ضوء فهم قديم للماضي

  1. اللايقين والاحتمالية الكوانتية: رفض الفكرة الجديدة هو رفض لاحتمالات لم تُختبر بعد. العقل الذي يخضع لمنعكس سيميلويس يتصرف وكأنه يريد يقينًا مطلقًا، بينما التقدم، كالعالم الكوانتي، يسير على حافة الاحتمال.
  2. عقبة “الزمن الأفقي” والفيزياء الكمية: الزمن الأفقي هو زمن المعرفة الثابتة غير القابلة للتقاطع أو القفز. والفيزياء الكمية (خاصة منطق “القفزة الكوانتية”) تدحض هذا النوع من الزمن وتدعو إلى الزمن الطوري – غير الخطي – الذي يتيح التحول.

سيميلويس مثل “فوتون” كان مستعدًا للقفز، لكن الوسط منع “التحول الطوري”. Phase shift.

منعكس سيميلويس هو تمثيل لكيفية انهيار التراكب المعرفي إلى حالة رفض، نتيجة فعل رصد اجتماعي تحكمي غير متزن. ويُعدّ تجليًا واضحًا للعقبة الإبستمولوجية، التي تقاوم التحول الطوري في الفكر والمعرفة.

كلمة أخيرة بلغة الفيزياء الكوانتية: المجتمعات مثل الإلكترونات، لكنها ترفض أن تُرصد في حالة جديدة، وتقاوم القفز من مستوى معرفي إلى آخر، حتى لو كانت الطاقة مهيأة لذلك. إنها تميل إلى السكون.

ملاحظة: ‏المقال هو فصل من كتابنا قيد الأعداد الجزء الثاني من مشكلات العقل واستخداماته المُضرة.