7 مارس 2025 / 11:00

منظور ابن عربي من أجل تجاوز تصنيفات الجابري وطه عبد الرحمن وأبو يعرب المرزوقي

طارق هنيش
حجبَ الجابري في تقسيمه الثلاثي ما لا يُخفى على الفطِن، وهو انتماءُ ابن رشد العميق إلى ما يُسمِّيه بـ”العقل البياني الأصولي” الذي ارتكز عليه الفقهاء، وهذا وحده يَنقُض ما ادّعاه من قطيعةٍ بين هذه المدارك في نسقه الفلسفي. غير أنّ طه عبد الرحمن، ذو النزعة الصوفيّة، جاء فقلب هذا النسق رأسًا على عقب، كما صنع ماركس بديالكتيك هيغل، وهو أمرٌ تَنبّه له أبو يعرب المرزوقي وأشار إليه بوضوح. طه عبد الرحمن أعلى من شأن العقل المؤيَّد، أي العرفان الصوفي، وجعله في الذُّرى، بينما أنزل العقل المجرَّد، أي البرهاني، إلى الدّرك الأسفل، وهو العقلُ الذي عظّم الجابري منزلته في تقسيمه.

ويرى المرزوقي أنّ هذه القسمة {البرهاني، البياني، العرفاني} لا تعدو أن تكون تسلّلًا خفيًّا لروح الهيغيلية إلى الفلسفة العربية، وأنّ نظرية المطابقة، وهي ركنها الآخر، لا تخلو من مواضعِ إشكالٍ وخلاف. غير أنّ الإشكال الأكبر في هذه التصورات أنّها تُصوّر هذه المدارك كأنها جُزرٌ معزولة، لا يلتقي بعضها ببعض، فلا يجتمع عندها البيانُ والعقل، ولا يتآلف العرفانُ والبرهان، إلا في صورة من التناقض والصراع الدائم، على مثال الديالكتيك الهيغيلي. لكن المرزوقي لا يرى هذا إلا ضربًا من الجمود الذي رسّخته الفلسفة المادية الحديثة، مؤكدًا أن الطرح الإسلامي لا يمنع من اجتماع هذه العقول، بل يَسمح لها بالتآلف والتكامل دون أن يوقعها في تضادٍّ قاهر. في هذا المضمار، يُعَدّ ابن تيمية من أبرز من استبصر هذه المسألة، ووضع لها القواعد في كتابه “درء تعارض العقل والنقل”، وهو مصنّفٌ منيف، بلغ الغاية في الإحكام والتحرير.

ومن أجل التماس حلٍّ أمثل لمعضلة العقول الثلاثية، كما تبلورت في اجتهادات الجابري وطه عبد الرحمن والمرزوقي، يتراءى لنا منظور ابن عربي بوصفه أفقًا معرفيًّا أكثر اتساقًا وشمولًا، إذ يسمو على ثنائية الصراع الجدلي بين البرهاني والبياني والعرفاني، التي وسمت الفلسفة الهيغيلية-الماركسية. فلا ينظر ابن عربي إلى هذه العقول كجزرٍ معرفية متباينة أو قوى متناحرة، بل يصهرها في بوتقة تصورٍ معرفيٍّ متدرجٍ ومتكامل، قوامه الوحدة لا الفرقة، والانسجام لا التضاد. فالعقل لديه ليس محض أداةٍ برهانية، كما هو الحال عند الجابري، ولا معرفةً كشفيةً منفصلةً عن العقل المجرد، كما يرى طه عبد الرحمن، بل هو فيضٌ إلهيٌّ مترامٍ يصل بين مدارج الإدراك، فتغدو المعرفة البيانية والبرهانية والعرفانية أنوارًا تتماوج في بحر الحقيقة الواحدة، لا تُدرَك إلا وفق استعداد العارف وسعة استقباله لتلك الأنوار.

ويُرسي ابن عربي، على غرار بروكلوس والرازي، بنيانًا معرفيًّا سامقًا لا يقوم على التضاد والإقصاء، بل على الترقِّي والتكامل، حيث تشق المعرفة مسالكها بدءًا من البيان، حيث الفهم الظاهري للنصوص والأحكام، ثم تعلو إلى البرهان، حيث الإدراك العقلي المجرَّد والاستدلال المنطقي، حتى تبلغ ذروة العرفان، حيث المعرفة الذوقية المباشرة التي تتجلى فيها الحقائق بصفاءٍ لا يعتريه التكلُّف. وهذا المنظور، في جوهره، يفترق عن الطرح الهيغلي، الذي يؤسِّس كل مرتبة على نقض سابقتها، إذ يرى ابن عربي أن كل مقامٍ في مدارج الإدراك لا يُبطل ما قبله، بل يشدُّ من أزره ويكمله، فتغدو المعرفة الحقة مزيجًا متآلفًا من بيانٍ ناصع، وبرهانٍ قويم، وعرفانٍ يكشف الحجب ويهدي إلى الحق. ويذكر الرازي في أسرار التنزيل {١٣٥ – ب} والتفسير الكبير {ج٩ ص١٣٤-١٣٥} أن العقل يرقى في معارج الإدراك عبر ثلاث مراحل، حتى يبلغ المعرفة الخالصة: أولاها مقام البرهان، حيث يتأمل في أحوال السماوات والأرض، فتتبدد غشاوة الغفلة، وتستنير البصائر بمصابيح الدليل.

ثم يترقى إلى مقام الدلالة، حيث تتبدى كل ذرةٍ في الكون شاهدًا ناطقًا بوجود الله وعظمته، فتتحول الأكوان إلى آياتٍ تنبض بالحكمة والإرشاد. وأما الغاية العظمى، فهي مقام الاستغناء عن البرهان، حيث تنكشف الحقائق بغير حجاب، ولا يبقى بين العارف والمعلوم حائلٌ، إذ يتحرر العقل من أسر الجسمانيات، ويغترف من معين النور المحض. وهذه المعرفة هي القاعدة الراسخة، والبرهان الأسمى، الذي عليه تتأسس النفس المزكاة، المستذكرة لأصولها، السابحة في أنوار اليقين.

هذا التدرّج الدياليكتيكي في المعرفة، الذي تجلّى في آيات الكتاب واستنبطه الرازي ببصيرته المتوقدة، يتماهى مع طرائق {ἐνέργειαι} بروكلوس، إذ تنطلق المرحلة الأولى من إيقاظ العقول {διεγεῖραι τὸν νοῦν} بالبرهان، فتنجاب عنها ظلمة الغفلة، وتشرق عليها أنوار المعقول، فتدرك عظمة قدره، وهو مقام علم اليقين. ثم، عبر النقلة الصورية، يرقى الإدراك إلى ذروة التأمل، حيث ينكشف واجب الوجود، المتعالي عن كل الموجودات {τὸ ἐπέκεινα πάντων τῶν ὄντων}.

وقد أورد بروكلوس في كتابه الأول أن “الديالكتيك لا يُسند إلا لمن بلغ الفلسفة الخالصة، واستغنى عن التمرين، إذ يغتذي عقل روحه بالمعقولات الصافية”، وهذه هي المرتبة الثانية، التي يصفها بأنها “الغاية التي عليها ينبني الديالكتيك، وبها تتجلى الحقيقة” {عين اليقين}. أما الديالكتيك في أسمى مراتبه، فهو التزكية {κᾰθαρτική} الخالصة للنفس، حيث يبلغ العارف مقام حق اليقين، إذ من انكشفت له الأستار، وزكّى نفسه ابتداءً، وسلك مسالك التأمل في المعقولات حتى بلغ الأول، صار هو النور الذي يبدد الظلمات، فيزكي النفوس بدحض أوهامها، ويجلو عنها كدورات الظن، وهم الذين وسمهم القرآن بالصالحين والمصلحين وأولي الألباب.

وعليه، فإن البرهان {المنطق} ليس نقيضًا للمعرفة الحقة، بل هو ركنها الركين، وأساسها المتين، فهو عند الرازي أصلٌ نظريٌّ، وعند ابن عربي تحققٌ وجوديٌّ، حيث ينحلّ العقل في الكشف، ويفيض البرهان في العرفان، في وحدةٍ متعالية، لا يُرى فيها فصلٌ بين النور والنور، ولا بين الحق والحق. عند ابن عربي، العقل ليس محض أداةٍ بشريةٍ مقيدةٍ بالمقدمات المنطقية، ولا هو بيانٌ ينحصر في دلالة النصوص، ولا حتى كشفٌ معزولٌ عن الحقائق الكونية، بل هو فيضٌ للعقل الكلي الإلهي، حيث تتجلّى هذه المدارك الثلاثة في وحدةٍ متعالية، لا يعتريها تضادٌّ ولا تناقض.

يقول في الفتوحات المكية: “العقل الكامل هو الذي يجمع بين نور الشرع، وبرهان العقل، وكشف العرفان”، مما يدل على أن التقسيم الثلاثي الذي طرحه الجابري وطه عبد الرحمن يبقى قاصرًا، إذ يفترض حدودًا فاصلةً بين هذه العقول، بينما عند ابن عربي، هي تجلياتٌ متكاملةٌ تتناغم في النور الإلهي، كما تتلاشى أنوار الكواكب في ضياء الشمس. وفي حين يقوم التصور الهيغلي على صراع الأضداد—حيث يُقابل العقلاني البياني، ويُناهض العرفاني البرهاني—فإن التصور العرفاني عند ابن عربي يرتكز على مبدأ الإشراق والتدرّج المعرفي، حيث يكون كل نمطٍ من أنماط العقول طورًا من أطوار الإدراك، لا ندًّا له ولا خصمًا.

وعلى هذا الأساس، لا يعود ثمّة تعارضٌ بين البرهان والبيان والعرفان، لأن العقل في جوهره واحد، تتفاوت مداركه وتتنوع تجلياته وفقًا لاستعداده وقابليته للفيض الإلهي. ورغم اختلاف المنهجين، فإن ابن تيمية وابن عربي يلتقيان في رفض التقسيم الجامد للعقول؛ فابن تيمية يرى أن العقل والنقل لا يتعارضان، بل يتساندان ويتكاملان، وهو ما يقابله عند ابن عربي تكامل البيان والبرهان والعرفان. كما أن ابن تيمية يرفض الحتمية الجدلية الهيغيلية، ويؤكد أن العقل قادرٌ على تجاوز التصنيفات الصارمة، وهو ذات المبدأ الذي يؤكده ابن عربي في رؤيته للترقي الروحي والعقلي صوب المعرفة الكلية، حيث تنكشف الحجب، ويتجلّى العقل في أسمى مراتبه، متحررًا من قيد الثنائية والصراع.
ـــــــــــــــ
صفحة الكاتب على فيسبوك