محمد خياري
تعيش الطريقة القادرية البودشيشية هذه الأيام تجربة الحيرة في سكون، حيث تطرح الأسئلة الكبيرة بلا أجوبة جاهزة، ويحفظ الصمت الحكيم ككنز يزهر في صحراء الفكر. الحيرة تجثم على صدور المريدين (الفقراء) في مشهد يجمع بين التصدر العلني والعزلة الروحية:
سيدي معاذ يتصدر المشهد الرمزي والرسمي للطريقة، ويعلي صوت المشيخة في مداغ، وسيدي منير في عزلته الروحية يشاطر المحبين لحظات الصفاء والهدوء في جلسات لا ترى إلا بعين القلب.
هذا التوزيع المصطنع بين الظاهر والباطن يطرح هواجس عميقة: هل المشيخة ترتبط بالوجاهة أم بالسر؟ هل الانقسام في التمثيل ضرورة روحية تحكمها حكمة غير مرئية، أم صراع بشري يهدد عمق التقاليد؟
هنا تتلوى الحيرة في جوف الطريقة القادرية البودشيشية، كما يتلوى ضباب الفجر بألوان السماء، وفي هذه الأجواء المتوترة داخليا على ما يبدو، تتعدد الأصوات وتختلف مطالبها، كل فريق يرفع راية المشيخة، وكل مجموعة تدافع عن شرعيتها، ليظهر المشهد معقدا كشبكة من الضباب الذي يغلف القلب والعين معا. وبينما يحتدم الجدل، يحتكم البعض إلى الصمت الشريف، ذلك الصمت الذي لا يعتبر فراغا، بل حضنا ناضجا للوعي، حيث تختبر المسافة بين ما يرى ويسمع، وبين ما يحس ويتلمس داخل الروح.
في هذا الصمت المفعم بعمق الوعي، ينتظر عدد من المريدين نشأة جديدة، ليس على حساب التالي أو سابقه، بل كتعبير عن سلسلة روحية لا ينهيها صخب الظواهر، بل يديمها حضور الباطن.
ولا عجب إذا قرئ أن الحيرة مدخل للمعرفة الحقيقية، فكما قيل: “الحيرة أول الطريق، ومن لم يتحير لم يسلك.” هذه الحيرة ليست كلها ظلمة، بل نور داخلي يتسلل في خِضم الظلمات، يشق الطريق إلى الوعي المتجدد، إلى الحقيقة الانتقائية، حيث لا خيار للسالك إلا أن يستوعبها في قلبه.
هذه الحيرة ليست مجرد حالة عابرة تتسلل إلى نفوس المريدين، بل مقام عميق يستقبل السالك كمعلم لا يمكن تجاهله. الحيرة ليست عدوا بل صديق، ليست عثرة تعترض طريق الارتقاء، بل وثبة تدفع الإنسان للغوص في أعماق روحه ليفكك صخب اليقين الزائف وينكسر على صخور الحقيقة. ففي زخم الأسماء والمواقع، وسط تشابك الشرعية والتمثيل، تختزل الحيرة وجودها وترسم حدودها. إن الحيرة في القلب تعتبر مسرح ولادة، فكما يمر الجنين في أعماق الظلمة قبل أن ينبعث إلى المعمورة، تمر النفس عبر ليل الحيرة لتتخلص من ثوب القناعة السطحية وتطفو على بحر الاستقبال. ومن رحم هذه الحالة المعقدة، يولد المريد بمفهوم جديد للمعرفة، لا يعتمد على التأكيدات الخارجية أو المصادقات الاجتماعية، بل على الذاكرة ذاتها للصمت، وعلى التجربة الحية للشك. هنا يتحول الشيخ من مجرد مرشد شامل إلى مرآة داخلية، يكشف للنفس حاجتها الحقيقية واستعدادها للرحلة. ليس فقط كمرشد فحسب، بل كحقيقة روحية تجسد مقومات السلوك، ليصبح السالك مرآته كذلك التي تتطلب سبر الأعماق وتجاوز السطح. الحيرة بهذا المعنى ليست ضعفا أو عجزا، وليست أزمة تستوجب الفرار. بالعكس، هي نضوج روحي يدل على مرحلة حرجة في رحلة الإنسان، حين يبدأ الشك في بناء أسس جديدة للثبات على طريق الحقائق العميقة. هي بوابة لكل رحمة ولطف، إذ لا خير في أن يرتكز القلب على يقين زائف، ولا بركة في أن يسير السالك على فهم محدود. نداء الحيرة هو دعوة لرفع الستارة عن مواضع الغموض، والإقرار بأن الطريق الحقيقي يتطلب الصبر، والتأمل، والتواضع أمام غموض الوجود.
في واقع الحال، يمكن القول إن الانقسام الظاهر بين سيدي منير وسيدي معاذ، وبين الفرق المتنازعة بينهما حول المشيخة، ليس سوى ظاهرة سطحية تعبر عن تعددية التعبيرات، التي لا تلغي عمق ذات وطيدة تجمعها الشرعية الروحية الحقيقية. الحركة بين الظاهر والباطن، بين المظاهر المادية والحقائق الروحية، هنا تبقى اللعبة متجددة داخل البيت الواحد. إذ إن الطريقة ذاتها تكرس وجودها من خلال توازن دقيق بين ما يعلن وما يحفظ في القلب، ولا يمكن لمشهد واحد أن يعبر عن الحقيقة كلية. وهذا هو جوهر مقام الحيرة: عكس البساطة التي قد يرى فيها البعض الانقسام، فهي في الحقيقة مقام تعدد الرؤى، واحتواء المتناقضات، ومنح النفوس مجالا للشعور بالضعف الإنساني على ضوء الحقيقة المطلقة. إن الحيرة تسمح للسالك بأن يعيد النظر في تصوراته، أن يناقش أفكاره، أن يقبل بعيدا عن التشدد وأن يصغي بعيدا عن اليقين. من لم يمر بهذا المقام، قد يكون قد ارتكب خطأ عدم التأمل الحقيقي، تحولت معرفته إلى جمود يعوق سيره. في هذه الرحلة الحائرية، قد يولد المريد الجديد، بعد أن يخلع عباءة التوقعات والحسابات، ويحمل عباءة التلقي والتسليم. ولادة جديدة تزيل الغرور والاعتماد على مجرد المعرفة النظرية، وتحل محلها حكمة مستمدة من الداخل، صادرة من مدارات القلب. هذه الولادة ليست نهاية، بل بداية لمسيرة روحانية يتغير فيها معان المشيخة، هكذا يعيد مقام الحيرة تشكيل الوعي الجمعي للطريقة؛ إذ تتكامل مكونات التمثيل وتقابل الشرعية الغيبية، متماسكة في لحظة تجديد روحي تخلع الطابع الخانق للصراعات الشكلية، وتفتح الباب على تجربة روحية أعمق.
لهذا ما على مريدي الطريقة القادرية البودشيشية إلا مواصلة السير، بنبض موثوق وصبر متجدد، رافضين أن يكون هناك قفص يقين زائف، وأن يكونوا متفتحين لاستقبال تطورات الروح وعجائبها. بهذا يقف المريد بين العتمة والضياء، بين صوت الصمت ورنين الأسئلة، مدركا أن معنى الطريق ليس في الإقرار الصارم بل في التأمل المستمر، وفي إعادة الولادة كل حين، في مقام الحيرة التي هي رحمة من الله يرفع بها الإنسان من غطرسة الجهل إلى ساحة التلقي، ومن ضيق اليقين إلى سعة التسليم. حيرة تنسي أن تبحث عن مخرج، لتجذب المريد أن ينصت بهدوء فوق موجات الروح، حيث لا تحكم الكلمات، ولا تكفي الأقنعة، بل يكفي حضور القلب، نحو طريق لن تغيب بين أروقة الظاهر والباطن، ولن تشغلها النزاعات، لأن ما يضيئها هو جوهر التلقي الإلهي والحضور الروحي.