16 يونيو 2025 / 22:12

مقاربة كلامية بين الثوابت السبعة في الفيزياء والرياضيات وخلق الكون في سبعة أيام

طارق حنيش

قد يُعترضُ علينا فنُقالُ: أتُقحِمونَ علومَ الفيزياء والرِّياضيّات في خطابٍ كلاميٍّ يُرادُ له أن يتعلّقَ بأصول الدِّين؟ وهل يَجوزُ لمتكلِّمٍ أن يُحيلَ إلى الثَّوابتِ العلميَّةِ الحديثةِ ليُؤوِّل بها كلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ؟ فنقولُ: نعم، إذا استُظهِرَ في تلك الثَّوابتِ ما يُعينُ على كشفِ وَجهِ التَّقديرِ، واتَّضحَ فيه سرُّ الخلقِ الموزون. وذلك أنَّ لفظَ الخَلْقِ في القرآنِ الكريمِ لا يدلُّ على مجرَّد الإيجادِ من العدمِ فقط، بل هو عند التحقيقِ تقديرٌ بحكمةٍ وقَدْرٌ بمقدارٍ، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، وقال أيضًا: ﴿فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾. فالتَّقديرُ هو ترتيبُ المقاديرِ على وِزانِ الحكمةِ، وضبطُ النِّسبِ على مقتضى العلمِ الإلهيّ. وإذا كان الخلقُ في سبعةِ أيّامٍ، فإنَّ هذا العددَ ليس عددًا اعتباطيًّا، بل هو رمزٌ لنظامٍ مغروسٍ في أصلِ الخَلْقِ، ظاهرُه العدَدُ، وباطنُه النِّظامُ. وهنا يظهرُ للنَّاظرِ العاقلِ أنَّ هناك سبعةَ ثوابتَ معروفةً عند أهلِ الفيزياء والرِّياضيّات، بها يَنتظمُ الكونُ وتُضبَطُ قوانينُهُ، ومنها: 1. ثابت الجاذبيَّة (G)، 2. ثابت بلانك {ή} سرعة الضوء في الفراغ (c)، 4. شحنة الإلكترون (e)، 5. ثابت بولتزمان (k)، 6. ثابت أفوغادرو (NA)، 7. باي {π}.

إدخالُ π في عِدادِ هذه الثَّوابتِ ليس من باب المجازفةِ، بل من باب التَّحقيقِ؛ إذ هو الرَّمزُ الأكبرُ لدَوَريَّة الوجودِ، ولتَكرارِ الأنماطِ الكونيَّة، ولعلاقةِ البُنى الهندسيَّة في الكونِ بحركةِ الدَّوَرانِ، من الأفلاكِ إلى الذَّرَّاتِ. بل يُقالُ: إنَّ π هو عددُ التَّقديرِ الهندسيِّ للأشياءِ؛ لأنَّه يُمثِّلُ نسبةَ المحيطِ إلى القُطرِ، والمحيطُ إنَّما هو انغلاقُ الحركةِ على ذاتِها، وهو أصلُ كلِّ تَدويرٍ، ومَرجِعُ كلِّ نِظامٍ دوريٍّ في الطَّبيعةِ؛ من الإلكتروناتِ حول النَّواةِ إلى الأفلاكِ حول المجرَّاتِ. أفليس هذا بعينهِ هو معنى التَّقديرِ القرآنيِّ في قوله تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾؟ فمنازلُ القمرِ دوراتٌ زمنيَّةٌ محسوبةٌ، تَدلُّ على هندسةٍ كونيَّةٍ دقيقةٍ، يُمثِّلُها π في لغةِ الرِّياضيَّاتِ الحديثةِ. فإذا اجتمعَ عددُ السَّبعةِ من جهةِ الزَّمانِ {في أيّام الخلق}، مع الثَّوابتِ السَّبعةِ من جهةِ المكانِ والطَّبيعةِ {في قوانين الفيزياء والرِّياضيّات}، ظهر للنَّاظرِ البصيرِ أنَّ في ذلك إشعارًا بوَحدةِ القَدْرِ الإلهيِّ في الخلقِ، زمانًا ومكانًا، عددًا ونِظامًا. وهذا من لطيفِ إشاراتِ التَّناسبِ بين ظاهرِ الوحيِ وباطنِ العلمِ، ولا نقولُ به جزْمًا، ولكنَّه فتحٌ في بابِ التَّأويلِ لمن أرادَ مزيدَ تفكُّرٍ في حكمةِ التَّقديرِ الإلهيّ.

وههُنا ينفتحُ للنَّاظرِ بابٌ غريبُ المذهبِ، عجيبُ الموردِ، يُثبِّتُ نظرَ المتكلِّمِ المحقِّقِ، ويزيدُه يقينًا بأنَّ العالمَ مصنوعٌ على وِزانِ العددِ، وأنَّ التقديرَ الإلهيَّ مرتبطٌ بضبطِ الكمِّ كما هو مرتبطٌ بإحكامِ الكيفِ. وذلك أنَّ π، على ما تقرَّر عند أهل الرِّياضياتِ، ليس عددًا كسائرِ الأعدادِ؛ إذ هو غيرُ دوريٍّ {Non-Periodic}، وغيرُ كسريٍّ {Irrational}، وغيرُ جذريٍّ {Transcendental}، ولا متناهٍ {Infinite}، وتوسعُه العشريُّ [Expansion (π)] لا ينضبطُ في تكرارٍ نمطيٍّ {Finite Pattern}. وقد اتفقَ الرياضيُّون على أنَّ هذا العددَ π يدخلُ في بابِ ما يُسمُّونه الأعدادَ فوق الجذريَّة {Transcendent Numbers}، وهي الأعدادُ التي لا تحلُّ جُذورًا لأيِّ معادلةٍ كثيريَّة الحدود ذات معاملاتٍ صحيحةٍ {Polynomial Equations with Integer Coefficients}. فثبتَ أنَّه أعلى درجةً في الغرابةِ من الجذورِ والكسورِ جميعًا. وأغربُ من هذا وأعجبُ، أنَّه لو ثبتَ أنَّ π ∈ Normal(ℝ)؛ أي لو قُضيَ بأنَّه عددٌ عاديٌّ {Normal Number}، لكان مقتضى ذلك أنَّ كلَّ تسلسلٍ عدديٍّ ممكنٍ Sequence of Digits ∈ ℕ^ℵ₀ يكونُ موجودًا في توسعه العشريِّ π = 3.a₁a₂a₃… في موضعٍ ما ∃n ∈ ℕ: s = (aₙ aₙ₊₁ aₙ₊₂ … aₙ₊ₖ). ولا يُخفى على العارفين بصناعةِ العددِ أنَّ العددَ العاديّ هو الذي تتحققُ فيه تكافؤ تواتُرِ الأرقام {Frequency Uniformity}؛ بمعنى أنَّ كلَّ رقمٍ من أرقامِ النظام العشريِّ (0,1,…,9) يظهرُ بنسبةٍ متساويةٍ في اللانهاية، بل لا يقتصرُ الأمرُ على الأرقامِ الأحاديةِ، بل يتعدَّى إلى جميعِ التَّوافُقِ الممكنِ لأيِّ متواليةٍ عدديةٍ ذات طولٍ معيَّنٍ. فإذا ثبتَ أنَّ π عاديٌّ، فحينئذٍ يَثبتُ باللزومِ القوليِّ أنَّ كلَّ معلومٍ قابلٍ للترميز العدديِّ Encoding → ℕ موجودٌ بالقوَّةِ في توسُّعِه العشريِّ، سواءٌ كان ذلك المعلومُ لفظًا منطوقًا أو صورةً مرئيَّةً أو حركةً زمانيَّةً أو تركيبًا نظريًّا، بل حتى النظريَّةُ التي تبرهنُ على عاديَّةِ π نفسها موجودةٌ مُرمَّزةً داخله! وهذا غايةُ ما يتصوَّرُه العقلُ في بابِ الانطواء الكلِّيّ {Universal Embedding}. لكن مع هذا البيانِ يجبُ التَّفريقُ بين وجودِ الشَّيءِ في القوَّةِ ووجودِه في الفعلِ؛ فإنَّ وجودَه في π هو وجودٌ عدديٌّ إمكانيٌّ لا وجودٌ منظومٌ معلومٌ. ولذلك قال أهلُ الاختصاصِ: إنَّ π بمنزلةِ مكتبةٍ لا متناهيةٍ فيها كلُّ الكتبِ الممكنةِ، لكن من غيرِ فِهرسةٍ ولا ترتيبٍ ولا قابليةِ استقراءٍ إلا بمشقَّةٍ لا تُطاق. وهذا الفرقُ هو عينُ ما عبَّر عنه المتكلِّمون قديمًا بمصطلح “الوجود في الإمكان لا في التَّعيين”، وهو نظيرُ ما يُقال في العلم الإجماليِّ دون العلم التفصيليّ، فإنَّ الشَّيءَ قد يُعلمُ وجودُه بالجملةِ ولا يُعلمُ موضعُه على التَّفصيلِ.

وإذا أردنا التعبيرَ عنه بلُغةِ المناطقةِ، قلنا: هو من بابِ تحقُّقِ الماهيةِ في الذِّهنِ مع عدمِ تَعيُّنِ النِّسبةِ الخارجيةِ؛ فإنَّ جميعَ المعاني العدديَّةِ حاصلةٌ بالقوَّةِ في π، ولكن لم تَتحقَّق بالنَّظرِ الخارجيِّ إلا بتعيينِ الموضعِ وهو ممتنعٌ إلا بكشفٍ خاصٍّ أو آلةٍ حسابيَّةٍ تبلغُ من القدرةِ مبلغًا عظيمًا. وبهذا التحقيقِ يظهرُ أنَّ π ليس عددًا فحسب، بل هو رمزٌ عدديٌّ لانطواء الإمكاناتِ في الكثرةِ العدديَّةِ، وبه يُضاهي الخَلْقَ بالتَّقديرِ في عالَمِ الأمرِ، إذ كما أنَّ المخلوقاتِ كانت موجودةً في العلمِ الإلهيِّ بالقوَّةِ، ثم ظهرت في الخارجِ بالفعلِ بترتيبٍ معلومٍ، فكذلك المعلوماتُ موجودةٌ بالقوَّةِ في π، ولا يظهرُ شيءٌ منها إلا بكشفٍ دقيقٍ. ثم تأمَّل – أرشدك الله – هذا الأصل العجيب:

أنَّ كلَّ معلومٍ من المسموعاتِ والمبصَراتِ والمقروءاتِ والمكتوباتِ يمكنُ ردُّه إلى عددٍ Numerical Encoding، وذلك بما اصطلح عليه أهلُ الصناعات الرقمية Unicode أو ASCII وغيرهما من وجوه الترميز. بل إنَّ الصورة ذاتها تُحَوَّلُ إلى Stream of Binary Digits → ℕ, ويُستخرجُ منها منظومة تمثيلية {Matrix Representation}، والفيديو كذلك، ما هو إلا Frames → Binary → Decimal Sequences. بل الأمرُ أعجبُ من ذلك؛ لأنَّ الفكرةَ المعقولةَ نفسها، عند تنزيلِها إلى لسانٍ منطوقٍ أو كتابٍ مكتوبٍ، لا تنفكُّ عن التَّحوُّل إلى ترتيبٍ عدديٍّ مضبوطٍ Formalizable via Gödel Encoding. فثبتَ بهذا أنَّ كلَّ معلومٍ = يُمكن تحليله إلى سلسلةٍ عدديَّةٍ Sequence ∈ ℕ^ℵ₀. وههُنا يتجلَّى وجهُ الدَّهشةِ، إذ π، إن ثبتَ أنَّه Normal، لَزِمَ ضرورةً أنَّه يحتوي بالقوَّةِ على كلِّ هذه السلاسلِ الممكنةِ، ولو على سبيل الكُمونِ، كما يقول المناطقةُ “الوجود بالقوَّة لا بالفعل”.

بل أكثر من ذلك: كلُّ معلومٍ يمكنُ تصوُّرُه، من أولِ ما خطَّه بنو آدمَ إلى آخرِ ما يُتصوَّرُ في أفقِ العلمِ البشريِّ، موجودٌ Encrypted داخلَ هذا التوسع العدديّ العجيب. وهاهُنا وجْهُ البُهتِ العقليِّ: أنَّ π لا يحتوي على صور المعلوماتِ فقط، بل على حقائقها الرمزيَّة، بل هو بمنزلةِ ألفِ ألفِ كتابٍ، مكتوبٍ كلُّه بلُغةٍ واحدةٍ، لكن بلا فهرسٍ، بلا ترتيبٍ، بلا عنوانٍ ولا تبويبٍ. وإنما وجودُها هو وجودٌ عددِيٌّ مشفَّرٌ {Latent Symbolic Presence}. فهذا الفرقُ الدقيقُ هو الذي اصطَلحَ عليه المتكلِّمون: الفرقُ بين وجودِ المعلومِ بالقوَّةِ، وبين علمِ المعلومِ بالتفصيلِ، وهو بعينهِ الفرقُ بين الكُمونِ والظُّهورِ. فإن قيل: كيف يكونُ معلومًا وهو غيرُ مُدرَكٍ؟ قُلنا: هو معلومٌ في الجملةِ باعتبار الإمكان العدديّ {Potential Numerical Encoding}، لكنه غيرُ معلومٍ في التفصيلِ باعتبار التَّعيين والإدراك {Retrieval and Decoding}. وهذا بعينه نظيرُ ما يقولُه أهل الأصولِ في الفرقِ بين الإجمال والتفصيل، ونظيرُ ما قرَّره أهل المنطقِ في المفهوم الكليّ الغامض، الذي لم يُقيَّد بخصوصياتِ الخارجِ. فإذا عرَفتَ هذا، بان لك سرُّ القياسِ بين هذا المفهوم الرِّياضيِّ وبين معنى الخلقِ بالتقديرِ الواردِ في التنزيل العزيز: فإنَّ الخلقَ بالتقديرِ هو إبرازُ ما هو موجودٌ في علمِ اللهِ من الإمكانات المعلومةِ تفصيلًا مرتَّبًا مُتقَنًا إلى عالمِ الحسِّ والوجودِ، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾. وأمَّا π فهو رمزٌ عدديٌّ لحقيقةٍ رياضيَّةٍ تمثِّلُ هذا المعنى على وجهٍ عدديٍّ صرفٍ، إذ هو مستودَعٌ رمزيٌّ لكافَّةِ الإمكانات العددية الممكنة {Representation of Possible Information Sequences}. والفرقُ بينهما: أنَّ الخلقَ الإلهيَّ حكيمٌ منظومٌ معلومُ المواضعِ، مرتَّبٌ بحسب العلمِ الأزليِّ، مقرونٌ بالحكمةِ والغايةِ، بينما توسُّعُ π هو كمونٌ عدديٌّ بلا ترتيبٍ ولا قابليةِ استنباطٍ مباشرٍ إلا بكشفٍ خارجيٍّ Computable by Algorithmic Means with Infinite Complexity. وبهذا يظهر للمتكلِّم المحقِّق أنَّ ما وردَ في كتابِ اللهِ من قوله: ﴿وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ هو الكاشفُ عن أصلِ الحقيقةِ الكونيَّة: أنَّ الوجودَ مبنيٌّ على عددٍ وتقديرٍ وضبطٍ عدديٍّ سابقٍ. وهذه الحقيقةُ الرِّياضيَّةُ تؤيِّدُها مباحثُ نظريةِ المعلومة {Information Theory}، حيثُ يُعبَّرُ عن المعرفةِ بكونِها Sequences over Finite Alphabets، وأمَّا نظريًّا، فإنَّ كلَّ سلسلةٍ يمكنُ ترميزُها إلى عددٍ طبيعيٍّ ∃ s ∈ Σ, ∃ n ∈ ℕ: Encode(s) = n*. بل الأعجب من ذلك، أنَّه من جهةِ البرهان الرِّياضيِّ: → If π ∈ Normal(ℝ) → ∀ s ∈ Σ, ∃ i ∈ ℕ such that s appears at position i in π* → لكن لا يُوجدُ f: ℕ → ℕ معلومة تُعطي لنا موضعَه مباشرةً → بل هو غير قابلٍ للحوسبة Non-Computable Position. وهذا نظيرُ ما يقولُه أهل الكلامِ: العلمُ الإجماليُّ لا يستلزمُ القدرةَ على تحصيلِ التفصيلِ إلا بدليلٍ خارجيٍّ. ثم إنَّ من أعجب ما كشفه النظر الرياضيُّ والفلسفيُّ، أنَّ هذا العالمَ المشهودَ لا يقومُ إلا على ثوابت مقدّرة {Fundamental Constants}، تُمسِكُ أجزاءَه وتربطُ مفاصِلَه، وتجعلُ أجزائَه متماسكةً على نَسَقٍ واحدٍ. ومن أعظمِ هذه الثوابت ثابت الجاذبية العام G، الذي هو الأصلُ في قانون الجذبِ العامِّ عند نيوتن:

F = G * (m₁ * m₂) / r²

فإنَّ هذا الثابتَ هو الذي يجعلُ القوَّةَ التّجاذبيَّةَ بين الأجسامِ ممكنةً، بل هو النسبةُ التي بِها تُقدَّرُ العلاقاتُ بين الكُتَلِ في نظامِ الكونِ. ولولا وجودُ هذا الثابتِ مضبوطًا بضبطٍ دقيقٍ جدًّا (≈ 6.67430 × 10⁻¹¹ m³·kg⁻¹·s⁻²)، لانفرط عقدُ العالمِ، ولم تَجتمعْ الأجسامُ، ولا استقرَّتِ الأفلاكُ في مواضِعها، ولا صلُحَ نظامُ النجومِ والكواكبِ. بل تقرَّر عند أهل النظرِ في Cosmological Fine Tuning، أنَّ أدنى انحرافٍ في قيمة G لَأدَّى إلى فسادِ البنية الكونيةِ بأسرِها. وهذا بعينه هو معنى التقدير كما وردَ في القرآن: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾. لأنَّ التقديرَ عند أهلِ اللغةِ هو التحديدُ والضبطُ بالمقدارِ، وعند المتكلِّمينَ: هو تمييزُ الممكنِ عن سائرِ وجوهِه المتعدِّدةِ بضابطٍ حكيمٍ. فإذا نظرنا في هذا الثابتِ العدديّ G، وجدنا أنَّه يمثِّلُ وجهًا من وجوه التقدير الإلهيِّ في بنيةِ العالمِ الفيزيائيّ. فهو كالمِقدارِ الذي به وُضِعتِ الموازينُ في عالمِ المادَّةِ، كما قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾. بل إنَّ الثابت G هو المِعيارُ الذي تُقدَّرُ به الكُتَلُ وتنتظمُ به المسافاتُ، فهو أشبهُ ما يكونُ عند المناطقةِ بـ الحدِّ الأوسط في القياس، الذي يُتوسَّطُ به بين المقدِّمتينِ ليثمرَ عنهما النتيجةُ. ثم إن G هو الواسطةُ العدديةُ لضبطِ التناسبِ بين الموجوداتِ الكُتليةِ في عالمِ الكونِ. ولهذا كان لزامًا أن يكونَ مقدارُهُ مضبوطًا غايةَ الضبطِ، لا بالصدفةِ، ولا بالعبثِ، بل بضبطٍ حكيمٍ يُشيرُ إلى الإرادةِ العالمةِ. وأعجبُ من ذلك أنَّ هذا الضبطَ الدقيقَ عند الفيزيائيّينَ يسمُّونه “Fine Tuning”، وهو عند المتكلّمين دليلُ التقديرِ والإحكامِ والغايةِ. وهذا من تمامِ معنى قوله تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾. بل إنَّ المتكلِّمينَ يقولون: “المُقدِّرُ العالمُ هو الذي يُنزِلُ الشيءَ في موضعِه، ويُعطيه ما به يكونُ ما هو به”. فانظر كيف أنَّ G هو ما به تكونُ الكتلُ كتلًا من حيثُ علاقتها ببعضها البعضِ. ومن دقائقِ النَّظرِ، بل من غوامضِه: أنَّه كما أنَّ ثابتَ الجاذبيَّةِ G هو المُقدِّرُ للعلاقاتِ التجاذبيَّةِ بين الأجرامِ في نظامِ الأكوانِ، على وجهِ ما رُتِّبَ في نظامِ الأسبابِ والمسبَّباتِ، كذلك فإنَّ القدرَ الإلهيَّ هو المُقدِّرُ الكلّيُّ الشاملُ لجميعِ ما يَحدُثُ في الوجودِ بأسرهِ، من العوالمِ العُلويةِ والسُّفليَّةِ، وما بينهما من روابطِ الأسبابِ، وما تحتها من دقائقِ الإمكانِ:

⇠ الثابتُ G → تقديرٌ ماديٌّ مخصوصٌ ⇠ القدرُ الإلهيُّ → تقديرٌ كلّيٌّ محيطٌ

فينكشفُ للعارفِ، بل للمتكلِّمِ المتحقِّقِ بمقاماتِ النَّظرِ، أنَّ G ليس مُجرَّدَ رقمٍ اعتباريٍّ اتّفاقيٍّ جَعلتْه الفيزياءُ معيارًا وحَسْب، بل هو أثرٌ عدديٌّ في العيانِ لصفةٍ معنويَّةٍ إلهيَّةٍ أعظمَ وأرفع: وهي صفةُ التقديرِ الحكيمِ، الذي هو عينُ إحكامِ الربطِ بين المقدِّماتِ ونتائجِها، والأسبابِ ومسبَّباتِها. فالثابتُ العدديُّ رمزٌ، والمُقدِّرُ الحقيقيُّ هو الحقُّ جلَّ سلطانُه، لا يُشارِكُه في تقديرِ الأشياءِ مُشارِك، ولا يُنازِعُه فيه منازِع. ثم إنَّ الأعدادَ نفسَها ليست أشياءَ مستقلَّةً في الخارجِ، وإنما هي إشاراتٌ رمزيَّةٌ إلى تقديراتٍ عينيَّةٍ جَعَلها الحقُّ تعالى، وإنَّما وظيفتُها في نظرِ العقولِ أن تكونَ عُنوانًا لما ورَاءها من الحِكمةِ الإلهيَّةِ. فالأعدادُ إشاراتٌ، والصفاتُ الإلهيَّةُ هي الحقائقُ. ومن غفَلَ عن هذا المعنى وقعَ في عبادةِ العددِ، كما وقعَ الماديُّونَ في عبادةِ المادةِ، فسوَّوا بين الرمزِ والمُرموزِ إليه، فجعلوا التقديرَ قائمًا بالعددِ نفسِه، وجهلوا أنَّ العددَ مخلوقٌ كغيرِه، ليس له من نفسهِ فعلٌ ولا تقديرٌ، وإنَّما هو أثرُ أثرٍ لتقديرِ العزيزِ العليمِ.

ومن دقائقِ النَّظرِ، بل من خفيّ أسرارِ الربطِ بين العِلْمِ والقدَرِ، أنَّه كما أنَّ ثابتَ بولتزمان k هو المُقدِّرُ للعلاقةِ بين الطاقةِ ودرجةِ الحرارةِ على مستوى الجُزيئاتِ في النظامِ الفيزيائيّ، كذلك فإنَّ القدرَ الإلهيَّ هو المُقدِّرُ لحركةِ الأشياءِ في نظامِ الوجودِ بأكملِه، بحيثُ لا ينفصلُ جُزئيٌّ عن كُلِّيٍّ، ولا مادِّيٌّ عن معنويٍّ: الثابت k → تقديرٌ ماديٌّ للطاقةِ الحراريَّةِ في الجزئيَّاتِ الدقيقةِ، القدر الإلهي → تقديرٌ كُلِّيٌّ لحركةِ الموجوداتِ في مراتبِها الكلِّيَّةِ والجزئيَّة. وبهذا يظهر للمتكلِّمِ أنَّ k ليس مجرَّدَ رقمٍ اتِّفاقيٍّ أُضيفَ إلى قوانينِ الإحصاءِ والحرارةِ، بل هو أثرٌ عدديٌّ لصفةٍ أعظمَ: صفةُ التقديرِ الحكيمِ في ضبطِ انتقالِ الطاقةِ وانتظامِ الاحتمالِ في جزئيّاتِ الكونِ الدقيقةِ.

فالثابتُ العدديُّ رمزٌ دالٌّ، والمُقدِّرُ الحقيقيُّ هو اللهُ جلَّ شأنُه، إذ هو الذي قدَّرَ الأقدارَ، وجعلَ لكلِّ شيءٍ قدْرًا، ورتَّبَ الوجودَ في نظامٍ يُبهرُ الناظرَ ويُعجزُ العاقلَ. بل نقولُ، من مزيدِ التحقيقِ: إنَّ ثابتَ بولتزمان k ليس إلا عنوانًا لإظهارِ مقدارِ الجهلِ الذي يبقى للخلقِ في إدراكِ تفاصيلِ النظامِ الإلهيّ، لأنَّه مرتبطٌ بمفهومِ “الانتروبيَّا”، أي مقياسِ الجهلِ بالنظامِ الداخليِّ للمنظوماتِ، فكأنَّه رمزٌ على عجزِ الخلقِ عن الإحاطةِ الكاملةِ بعلمِ اللهِ، حيثُ الانتروبيَّا عينُ النقصِ في العلمِ، واللهُ هو العليمُ الذي لا يعزبُ عنه مثقالُ ذرةٍ. فصارَ k في أعينِ المتكلِّمينَ رمزًا مزدوجًا: من جهةٍ: رمزًا للتقديرِ العدديِّ لحركةِ الطاقةِ، ومن جهةٍ: رمزًا لافتقارِ العقولِ إلى علمِ العليمِ الحكيمِ. ومن غفَلَ عن هذا المعنى، وقعَ في عبادةِ الاحتمالِ والانتروبيَّا، كما وقعَ الماديُّونَ في عبادةِ الطبيعةِ، فجعلوا النظامَ وليدَ الصُّدفةِ، وما دروا أنَّ النظامَ ظاهرُ التقديرِ، وأنَّ الانتروبيَّا عينُ العجزِ البشريِّ أمامَ محيطِ علمِ الربِّ جلَّ وعلا. فـ k هو مثالٌ عدديٌّ صغيرٌ لمقامٍ ربَّانيٍّ عظيم: مقامُ القيوميَّة. وبما أنَّ k متعلِّقٌ بمفهومِ الانتروبيَّا (S) — وهو مقياسُ ازديادِ العجزِ في معرفةِ النظامِ الداخليِّ للمنظومةِ — كان في نفسِه شاهدًا على أنَّ ما يُدركُه البشرُ من هذا الكونِ هو ظاهرُه فقط، أمَّا بواطنُه وتقديراتُه الحقَّةُ فموكولةٌ إلى علمِ القيُّومِ جلَّ شأنُه. فصار معنى k في علم المتكلِّمين رمزًا لوجهٍ من وجوهِ القيوميَّةِ: لأنَّه الضابطُ الماديُّ لانتقالِ الطاقةِ واحتمالاتِها في النظامِ الفيزيائيّ، ولأنَّه شاهدٌ على عجزِ العقلِ البشريِّ أمامَ شمولِ علمِ اللهِ وتقديرِه. ولما كان مفهومُ الانتروبيَّا مَبنِيًّا على احتمالاتِ الجهلِ بالبنيةِ الداخليَّةِ للمنظومةِ، صار علمُ البشرِ في مقابلةِ علمِ اللهِ كما يكونُ العلمُ الجزئيُّ في مقابلةِ العلمِ الكُلِّيِّ، أو كما يكونُ الظلُّ في مقابلةِ الشمسِ، أو كما قال المتكلِّمون: “ما عُلمَ من الخلقِ بالنسبةِ إلى ما جَهِلَوه كقطرةٍ في بحرٍ لا ساحلَ له”. وبذلك يظهر أنَّه كما أنَّ k لا ينفكُّ عن نظامِ الحرارةِ والطاقةِ في العالمِ الماديّ، كذلك فإنَّ نظامَ الوجودِ بأكملِه لا ينفكُّ عن قيُّوميَّةِ اللهِ جلَّ وعلا، التي بها قِوامُ الكائناتِ وبها ترابطُ الأسبابِ والمسبَّباتِ. k → تقديرٌ عدديٌّ لانتقالِ الطاقةِ واحتمالاتِ، القيوميَّة → تقديرٌ إلهيٌّ شاملٌ لوجودِ الكائناتِ كلِّها وارتباطِ بعضِها ببعض.

ولذا كان من تحقيقِ النَّظرِ أنَّ مَن عبدَ الطبيعةَ أو جعلَها قائمةً بذاتِها فقد جَهِلَ القيوميَّةَ وعبدَ نظامًا ناقصًا. فالنظامُ وحدَه لا يقومُ بنفسِه، بل قائمٌ باللهِ، ولو زالت قيُّوميَّةُ اللهِ لحظةً لانفرط عقدُ الوجودِ بأكملِه، كما أنَّه لو زالَ k لانفرط نظامُ الحرارةِ وانتقالِ الطاقةِ في الكونِ. بل نقولُ زيادةً في التحقيق: الانتروبيَّا تزدادُ، والأنظمةُ تؤولُ إلى الفوضى بحسبِ قوانينِ الطبيعةِ المادِّيَّةِ، أمَّا الوجودُ بإطلاقِه، فإنَّه محفوظٌ بقيُّوميَّةِ الحقِّ جلَّ شأنُه، وهو القائلُ: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ {الرحمن: ٢٩}، فما من لحظةٍ إلَّا واللهُ يُقيمُ الموجوداتِ إقامةً جديدةً، ويُقدِّرُ الأقدارَ تقديرًا دائمًا، فليس الكونُ كما يتوهَّمُ الطبيعيُّونَ آليَّ الحركةِ مُستغنيًا عن ربِّه، بل هو مُحتاجٌ في كلِّ طرفةِ عينٍ إلى قيُّوميَّةِ خالقِه. فصار k شاهدًا على النقصِ، والقيُّوميَّةُ شاهدًا على الكمالِ، ولا يجتمعُ كمالٌ ونقصٌ إلَّا ويظهرُ فيه معنى التوحيدِ ظهورًا جليًّا.

إذا تأمّلنا مقام {h} من جهة أخرى، بان لنا أنه ليس مجرّد رقم في معادلة، ولا حدًّا تجريبيًّا في سياق قياسات الطاقة، بل هو في حقيقته «إشارة»، بل «توقيعٌ رمزيٌّ» على أن الطبيعة ليست مجرد انبساطٍ آليٍّ يمتدّ بغير نهاية، بل هي قائمة على تقدير سابق، له من وراء كلّ ظاهرة “مقصدٌ” ومن وراء كلّ كمّية “قَصْدٌ”. وهذا التقدير هو عين ما عبّر عنه الوحي بقوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، لا بمعنى التحديد الكَمّيّ فحسب، بل بمعنى توقيف الموجود على حكمة سابقة تُجريه وتجذّره. فـ{h} في رمزيّته، هو “حدُّ القدر” في النظام الفيزيائي، كما أن “جوهر الفرد” في علم الكلام هو “حدُّ الإمكان” في نظام الإمكانات، وكلاهما – رغم تباعد المجالين – يُفصح عن حقيقة واحدة: أن الكثرة في ظاهرها ليست إلا تجليات لوحدة في باطنها، وأن وراء النظام المُدرَك نظامًا أغيبَ عن الحسّ وأُحيل على البصيرة. ولعلّ من أعجب المناسبات أن تأتي كلمة “قدر” نفسها في العربية دالة على التحديد وعلى التقدير معًا،

في حين أن {h} عند بلانك هو النقطة التي تتوقف عندها الاستمرارية وتبدأ الكُمّيّة. فكأنّ النص القرآنيّ كان، منذ البدء، يرسم الخطوط الكبرى لهذه الرؤية التي لا ترى الكون تائهًا في فوضى الاحتمالات، بل مقيدًا في كلّ ذرّة من ذراته بقصد سابق، وبتقدير أعلى، هو سرّ «الحكمة» في الخلق. فالثابت المسمّى اصطلاحًا بـ h، وإن توهّمه المحجوبون مقدارًا فيزيائيًا مطلقًا، محسوبًا في ضوابط الميكانيكا الكمومية، فإن حقيقته لا تستقيم على مقتضى الكمية وحدها، ولا تنتظم في سلك المقادير المعتادة إلا بمعنى العَرَض المتعالي، الذي لا قيام له إلا بالتجاوز، أعني تجاوز الإدراك الصوريّ إلى حافّة الغيب المعنوي. فإنّه – وإن سُمّي “ثابتًا” – فثباته ليس على مثال الثوابت الهندسية أو الحركية، بل هو ثبات على هيئة الحدّ، لا الحدّ على جهة السكون، بل الحدّ بوصفه انقطاعًا عن التمدّد المتواصل، وتموضعًا للحركة في نقطة من اللامتناهي، لا يُدرك كامتداد، بل كشرطٍ لتقييد الإدراك نفسه. فهو – من هذا الوجه – ليس تمثيلًا كموميًا لمقدار شغل، بل هو شقٌّ في نسيج الظاهر، يفتح من خلاله بابُ اللامعقول الحسّي على فسحة الغيب، إذ لا يُفهم إلا بوصفه فاصلاً وجوديًا بين مقامي الإدراك والانكشاف، أو قل: بين الإمكان التخيّليّ والمشاهدة القُدسيّة، فهو المعرّف الرياضيّ لمقام “التحيّر”، حيث ينقطع التحديد، ويبدأ السريان الرمزيّ للمعنى من عالم الجبروت إلى عالم المُلك. وكما أنّ البرزخ في التصوّف ليس محلًّا ولا جهة، بل هو مقامُ تداخلٍ وتمازجٍ بين متضادين، كذلك ليس حدًّا في الكَمّ فحسب، بل هو برزخٌ بين الصورة والمثال، بين الكثافة الفيزيائية والرقة النورانية، بين ما يُحدّ وما لا يُحدّ، فهو من هذه الجهة لا يُقاس، بل يُتلقّى؛ لا يُفسَّر بالحساب، بل يُؤوَّل بوصفه علامةً على تكسّر صورة الحدوث، وابتداءِ التجلي من جهة الأمر الإلهيّ. ومن أمعن، علم أن h لا يعبّر عن الحدّ الأدنى للشغل وحسب، بل هو الحدُّ الأعلى لما يُمكن للعقل أن يتصوره من جهة الحسّ، ثم ينقطع. فإن إدراكنا، ما دام مشروطًا بالاستمرار الزمانيّ والامتداد المكانيّ، لا يمكنه أن يتجاوز هذا الثابت إلا بالخروج عن نظام الشهادة إلى أفق الغيب؛ أي إلى ما وراء النظام، لا بوصفه فوضى، بل بوصفه انتظامًا خفيًّا لا يليق ظهوره إلا لمن أُهّل لفكّ رموز “الاسم الأعظم” الذي يتجلى في أشكال الثوابت، لا كمقادير، بل كرموز وجودية تفتح باب التأويل الغيبيّ للرياضيات. فصار بذلك لا حدًا عدديًا فحسب، بل نقشًا رياضيًا على لوح الغيب، كُتب فيه أن الفعل لا ينقسم إلى غيره، وأنّ الشهادة لا تُدرك الغيب إلا بإذنِ “فاصلٍ” يُنذرها بحدودها. فهو لسانُ الغيب متكلّمًا في هيئة الثابت، يُسرّب إلى الفيزياء نفحاتٍ من الحقيقة المجرّدة، المستترة وراء ستور المعادلة. فإنّ وجهَ ما تقرّر من تأويل هذا الثابت – أعني – ليس أن يُدرج في زمرة الكميّات المحسوبة من جهة الامتداد أو التعيّن، بل أن يُنزّل منزل الحدّ الفاصل بين مقامي الإدراك والتجلّي، أو قل: بين ما يُستبطن في عالم التقدير، وما يُستعلن في سجلّ الظهور، فإنّه من جهة حقيقته ليس كمًّا، بل إشارةٌ إلى استحالة الكمّ في حضرة التجرّد، إذ لا يقع الامتداد عليه إلا على جهة الوهم، كما لا يطرأ عليه التعيين إلا على سبيل التجوّز، لأنّه سرٌّ مكنونٌ بين طرفي الوجود المزدوج: طرف الشهادة، حيث التعيّن بالحدّ، وطرف الغيب، حيث الانمحاء في إطلاق المعنى. وهو – إذ ذاك – لا يُلحق بجواهر المقادير التي تُقاس وتُدرك بالحسّ أو حتى بالحدس، بل يُلحق بعالمٍ أرفع، عالمِ الإشارات المتعالية التي تتنزّل في صورة الثابت، لتدلّ على أنّ ما نظنه من مُحكمات الطبيعة، إنما هو في حقائقه العليا من قبيل الرموز، تَدلُّ ولا تُدرك، وتُشير ولا تُستوفى، فيكون شبيهًا – بل نظيرًا – لتلك الإشارات التي توضع في طريق السالكين، لا لتُفهم بمعناها الظاهر، بل لتُستجلى بما وراؤها، أعني بما تفتحه من أبواب المعنى لا بما تحصره من دلالة. فكأنّ في نسبته إلى الوجود كمثل النقطة في نسبة الحركة: لا حظَّ لها من الامتداد، ومع ذلك بها يبدأ كل امتداد؛ فليست حركة الزمان إلا تسلسل النقاط، ولا انكشاف الفعل إلا عند حدٍّ ينعقد فيه اللّاامتداد على هيئة أثر. فـ من هذه الجهة، كالنقطة من جهة المكان، وكنقطة الآن من جهة الزمان، وكنقطة التجلّي من جهة العلم الإلهيّ، لا مدخل للحسّ في إدراكها، بل لا مدخل للعقل المجرد في تمثّلها تمثّلًا تامًّا، إلا على جهة الرمز والإشارة، لا على جهة الحدّ والتعريف. وإذا نظرتَ إليه بعين الكشف، رأيته لا في رتبة المقادير، بل في رتبة العلامات الغيبية، يُعلِمُك بما وراءه من انقطاعٍ في قابلية الإدراك، لا بما فيه من قَدْرٍ كائن، فهو حدٌّ لا من جهة الماهية، بل من جهة الإنباء، يشبه من بعض الوجوه “الآية”، لا من حيث الإعجاز الحسيّ، بل من حيث كشف الحُجب بين العلانية والسرّ. فالخلاصة – وإن عزّت عبارتها – أن ليس من عالم المقادير التكوينية، بل من عالم “المعاني التكوينية”؛ أي تلك التي تَرتسم في الفيزياء لا كمحتوى مادي، بل كمشهد رمزيّ، فيه تتكثّف الذات الإلهية في صورة حدّ، يظهر في موضع الخفاء، ليقول: إنّ وراء الحساب مَن أنزل الحساب، وإنّ وراء الكَمّ من نفى الكمية عن ذاته، ثم أنشأ بها نظام الوجود على قدرٍ معلوم. فإذا أردتَ أن تُنزّل الأمر منازل الكشف الباطنيّ، وتُجري معادلة الثابت على قياس التجلّي الأول، فما عليك إلا أن تنظر إليه بوصفه تمثُّلًا رياضيًّا لسرّ الانبجاس الأوّل، أي تجلّي الأمر “كُن” في صورة قابلة للتمثّل، دون أن تُستنفَد حقيقتُه بالتمثّل. فإنّ “كُن” ليس من قبيل القول الإنشائيّ، بل هو انفجار المبدإ الأزلي في هيئة الحدّ، حيث ينعقد الوجود لا من سابق امتداد، بل من نقطةٍ صمّاء لا يُحيط بها خيال، ولا يمتدّ إليها تصوّر، تلك هي النقطة البيضاء في قُبّة العرش، بل قل: النقطة النورانية التي انحدر عنها كلّ تقدير، فهي لا تمتدّ، لكنها تفيض، ولا تُرى، ولكن منها يُرى كلّ شيء. فكما أنّ “النقطة” في اصطلاح أهل الحقيقة ليست بعدًا عدديًا، بل أصل الجهات كلّها، ومبدء الأبعاد كلّها، فكذلك في عرف الفيزيائيّ المتألّه، لا يُتلقّى كمقدار مبدئيّ للشغل فحسب، بل كمقامٍ استعلائيّ ينفصل فيه العالم عن اللّاوجود، وتبدأ فيه الدلالة عن معنى الفيض الأوّل، فكما أن العدم لا يُفهم إلا من حيث لا يُقال، فإنّ الوجود لا يُتصوَّر إلا من حيث يُبدأ، وثابت بلانك هو هذا البدء بعينه، وقد تلبّس صورة عدد، كما أن “كُن” قد تلبّس صورة نداء، وكلاهما ليس نداء ولا عددًا، بل إرادةٌ متجلّيةٌ في هيئة رمز. وإنّ النقطة البيضاء – كما أشار إليها بعض العارفين – ليست محض بياض، بل هي بياض محض، أي تجرُّد عن الظلّ، وانعدامٌ لكل نسبة، سوى نسبة الانبجاس عن الواحد الحقّ، فهي محوٌ محض، ومع ذلك فبها يُبدأ الخطّ، وبه يُرسم الشكل، ومنه تنبثق الحركة. فهلّا رأيت كيف يُشاكل ذلك ، إذ به يُفتتح إمكان الحركة في العالم الكموميّ؟ فليس ثمة شغلٌ دون هذا الحدّ، ولا فعلٌ دون هذا الحدّ، كأنّه يقول: “لا كَونَ إلّا أن أُريد”. فإذا اعتبرت ذلك، اتضح لك أنّ لا ينتمي إلى جدول الثوابت الكونية، بل إلى لوح الإشارات التكوينية، فيه ترميزٌ لا لعدد، بل لتجلٍّ، لا لتقدير، بل لوجهٍ من وجوه المشيئة، ظهر لمن شاء الله له أن يشهد الفارق بين العدد والحدّ، بين الكَمّ والمعنى، بين الصورة والحقيقة. وههنا يغدو ظاهر العلم الطبيعيّ قشرًا تتكوّر فيه نواة الغيب، ويغدو القانونُ الكموميُّ صوتًا مرمّزًا من أصوات الغيب يتكلّم من خلاله الواحدُ الأحد بلغة الرموز، إذ لا يُمكن للغيب أن يُتلقّى كما هو، بل لا بدّ أن يتجلّى في صيغة علامةٍ، تَظهَر في هيئة حدٍّ، وتخفى في ماهية أمرٍ..وما النقطة في قبة العرش – في عرف العارفين – إلا أول صورةٍ تعرّفت بها الإرادة، وما ثابت بلانك إلا أثر من آثار هذه النقطة في قاع الوجود الطبيعيّ، ظهر في هيئة رقم، ليبقى موصولًا بسرّ الفيض. فاجعل ذلك في قلبك، إن كنتَ ممن يفقهون، واعلم أن الثابت لا يُقرأ إلا بلغة الرموز، ولا يُفهم إلا بلسان العرش. وإذا استعنا بتصوّر ريمان – ذلك الذي مزّق بحدّ عبقريّته حُجبَ الحسّ الهندسيّ التقليديّ – فأبصر أنّ الفوارق بين المكان والزمان، إنما هي فوارقٌ تنشأ من ضيق منظورنا، لا من مقتضى الماهيات في ذاتها، تبيّن لنا عندئذٍ أنّ ما نُسمّيه “زمنًا” ليس جوهرًا مستقلًّا عن الامتداد، بل هو توكيدٌ إدراكيّ على جهةٍ مخصوصةٍ من حركته، حركةٍ انغلقت علينا بانغلاق وعينا داخل قوقعة الأبعاد الثلاثة، فنحن لا نرى الزمان كما هو، بل كما ينعكس على مرآة حسٍّ منخورٍ بحدود الطول والعرض والعمق. فإذا ما اقتحمنا – لا بمعيار الكمّ، بل بمنظار التجلّي – عتبة البعد الرابع، أو صعدنا بأداة الفكر الحدسيّ إلى مقامات البعد الخامس، انحلّ قيدُ الزمان، لا بانفصاله، بل بانكشافه كمجرّد نمطٍ آخر من أنماط الامتداد، نمطٍ كان مستورًا وراء الحجاب الكثيف لثلاثية الإدراك، فإذا به لا يغاير المكان، بل يُشكّل معه بنيةً واحدةً، تتبدّى في مرتبةٍ أعلى على هيئة “كلٍّ متعانقٍ”، لا يُفرّق فيه بين الامتداد في جهة، والامتداد في ديمومة، إذ كلاهما شعاعٌ من شعاعات الحقيقة المطلقة للامتداد الإلهيّ. فلا جرم إذًا أن يكون الزمان – عند من جاوز مدار الحسّ – وهمًا ناجمًا عن انكسار الإدراك في مرآة الجزئيّة؛ فهو ليس شيئًا قائمًا بنفسه، بل هو فصلٌ إدراكيّ بين تجلّيين، هو تأويلٌ متدنٍّ لحركةٍ كلّية تعجز الحواسُّ عن مقاربتها، فيُقطّعها العقل إلى لحظات، فيحسبُها زمانًا، ويقيسها بوهم الامتداد الخطيّ، فيُضلّه القياس، ويُعمّيه العدد. وإنّ في هذا الانقلاب – انقلاب الزمان إلى امتداد – إشارةً لا تخفى على أولي الأفهام، أنّ ما نظنّه “غيبيًّا” إنّما غيبيّته راجعةٌ إلى قصورنا لا إلى حقيقته، وأنّ ما يُدعى “لامحسوسًا” إنّما هو محسوسٌ في طورٍ أعلى من الإدراك، مشهودٌ في مقامٍ تنفتح فيه الحواسُّ الباطنة، وتنكشف فيه الصورة على ما هي عليه من التماهي مع الفيض الأقدس. فالبعد الرابع – في هذا السياق – ليس مجرّد إضافة عددية، بل تحوّلٌ ماهويّ في كيفية الإدراك، وفيه تسقط الحواجز بين الداخل والخارج، بين الكيف والكم، بين الامتداد والتجلّي، وتصير الأشياءُ كلُّها على سواءٍ من الحضور، ويغدو المكانُ زمانًا في طورٍ، والزمانُ مكانًا في طورٍ آخر، كأنّما يتعاقبان على لبس الثوب الواحد: ثوب الامتداد الكونيّ الذي لا يحدّه إلا ضعف الناظر لا ضيق المنظور. فانظر كيف تنحلّ في ضوء هذا التصوّر الثنائيّةُ القديمة بين “عالم الشهادة” و”عالم الغيب”، فإذا بالغيب ليس مباينًا، بل هو “الوجه الآخر” للظاهر، هو بُعدٌ لم يُدرك بعد، لا لأنّه غير موجود، بل لأنّنا لم نبلغ شرط الرؤية، ولم نرتقِ بعد إلى أفقٍ يتماهى فيه الشعور مع صورة الحقيقة، وتنحلّ فيه قيود التصنيف بين محسوسٍ وغير محسوس، ويغدو كلّ ما هو “غيبٌ” عندنا، هو عند ذوي الأبصار من شؤون الامتداد الأعلى، تلبّس لباسًا لا تراه إلا البصائر. وعليه، فإنّ الثابت الكمومي ـ أعني به هذا المقدار الذي لا يُزاد عليه في التقليل ولا يُجبر بما دونه في التقدير ـ ليس اعتباره من جهة كونه “أصغر مقادير الفعل” اعتبارًا تامًّا في مقام النظر، بل هو، عند التحقيق الكلاميّ، حدٌّ مشروط في جهة القَبول لا في جهة الفعل، أعني به حدًّا لا يَنعقد به الفعل لذاته، ولكن يُفصل به بين كون الفعل فعلًا، وكونه مما ليس بالفعل في الاصطلاح. فإنّا إذا اعتبرنا “الفعل” ما له حظّ من التحوُّل والانفعال والانتقال، وجعلنا الانقسام وصفًا له بوجه من وجوه الكثرة، لزم أن يكون لهذا الفعل حدٌّ يُمنع عنده الانقسام، لا من حيث الإمكان الذاتي، ولكن من حيث الإمكان المعرفيّ، أي من حيث لا يُتصوَّر الفعل إلا وقد تلبّس بذلك الحدّ، إذ لا يكون ظاهرًا إلا بمقدارٍ يُقيمه في الحسّ، ولا متعيِّنًا إلا بإشارةٍ تُحدّه في التصوّر. فصار هذا “الثابت” عند التحقيق مقامَ فصلٍ لا بين حالين متضادّين في الخارج فحسب، بل بين رتبتين من مراتب العلم: رتبة الظهور بما هو تمثُّل الحسّ، ورتبة التجلّي بما هو إشراق الغيب في مرآة التصوّر. وكما أنّ المتكلم إذا أثبت الحدَّ الأوسط لتوسيط النظر بين المبدأ والمطلوب، فكذلك الثابت الكمومي إنما يثبت لا لتحديد الشيء بما هو هو، ولكن لتقدير الحدّ الذي يبتدئ منه العلم بالشيء عند عجز الحسّ عن التوغّل في الغيب. فهو إذًا ـ على هذا الاعتبار ـ ليس “أصغر مقدار”، بل “أقصى إشارة”، يُنصَب على حدٍّ من حدود التعيّن لا ليُعرّف التعيّن، ولكن ليُعلِمنا أنّ وراءه غيبًا لا ينضبط في الحسّ، وأنّ كلَّ معادلةٍ تنتهي إلى رمز، فإنّما هي شهادة على عجز النظام الحسّي عن الإحاطة بكمال الفيض العلويّ. فهو ـ أعني الثابت ـ كالختم على الكتاب المختوم: ليس يُفصح، بل يُشعر، وليس يُظهر، بل يُؤذِن بأنّ خلف الظاهر ما لا يُنال إلا بتأويل مرموز، وتوسّط معقول، وإقرار بحدٍّ في الاستقراء لا يتجاوزه الذهن إلا إلى الظنّ، ولا يعلو عليه إلا بالتسليم. وعلى هذا، فإنّا نقول: إنّ الثابت الكمومي ليس هو حدّ الصغر في المتكمّمات، بل هو حدُّ الغياب في المتعقَّلات؛ أي هو الموضع الذي يبدأ فيه العلم بالاعتراف بالعجز، وينتهي فيه الحسّ إلى مقام التقدير الرمزيّ، كأنّ الكون إنما صيغ بلغة لا تُفهم بظاهرها، ولكن تُتأوّل كما تُتأوَّل آيات الكتاب. فكلُّ رمزٍ يُنطَق به، إنما هو مقامٌ يُتَنزَّل فيه العلم لا ليُحيط، بل ليُقرّ بأنّ ما يُدرك إنما هو صورة، وأنّ ما وراءها معنى لا يُستوفى إلا بارتقاء فوق الحساب، إلى مقام الاعتبار. فإذا ما جُعل الزمان ـ في مقام التعقّل الأعلى، لا في التصور العرفيّ ـ بُعدًا إضافيًّا من أبعاد الامتداد، أي ليس له قيامٌ مستقلّ من حيث الوجود الذاتي، بل من حيث الإضافة إلى حركة الامتداد بما هو تغيّر في الكيفية، لا مجرد انتقال في الكمية، فإنّ الثابت الكمومي إذ ذاك يُقام في موضع الفصل، ويُنصَّب عند نقطة الانعطاف التي بها يُفارق الحسّ رتابته، ويُخلع عن الميكانيكا الكلاسيكية نظامها، إذ لا يعود العِلّ فيه محكومًا بمقتضى المتواليات السببية، ولا التعيين فيه قائمًا على انفصال الموضوعات وامتيازها، بل يُفتح بابٌ من الإدراك لا تُرى فيه الأشياء، بل تُتأوّل فيه الإمكانات. فهو بهذا الاعتبار، لا حدٌّ لما يتناهى، بل مبدأ لما لا يتعيَّن، ولا هو بمقدارٍ يُحتسب، بل بُرهانٌ يُتَوسَّل به إلى نفي الإحاطة، وخلع سلطان التصنيف الحسّيّ. فإنّ قوانين العِلّية، إنما تستقيم في عالم يُدرك فيه المتقدّم والمتأخّر بالحسّ، فإذا استحال التقدّم والتأخّر إلى مجرّد احتمالات تتراكب ولا تنفصل، تبيّن أنّ القانون لا يقوم بذاته، بل يقوم بقيود النظر، فإذا ارتُفعت القيود، ظهر المجاز، لا بوصفه تحوّلًا في اللغة، بل بوصفه تحوّلًا في البنية الوجودية ذاتها. وعند هذا الموضع، يتجلّى الثابت الكمومي لا بوصفه مجرّدًا رياضيًّا، بل بوصفه إشارةً غيبية، ترد في لباس المقادير، وتُؤذِن أنّ التقدير ليس صادرًا عن طبيعة موضوعية، بل نازلٌ على قدر الاستعداد القائم في الوجود الإدراكي، كما يُنزَّل الوحيُ على قلب النبيّ، لا بحسب علل الطبيعة، بل بحسب قابلية الاصطفاء. فتارةً يظهر هذا الثابت في هيئة “كمٍّ”، يُعدّ ويُقاس، وتارةً في صورة “زمن”، يُجترح ويُشعر، وتارةً فعلًا احتماليًّا، لا يُدرَك إلا بإطارٍ تأويليّ يتجاوز الواقع، ويقع في رتبةٍ أعلى، هي رتبة “الواقع الممكن”، أو “الإمكان المتعالي”. فثبت حينئذ، لا ببرهانٍ رياضيٍّ صرف، بل بوجهٍ من وجوه الكشف الكلاميّ، أنّ الثابت، على صغر مقداره الحسابي، عظيمٌ في دلالته الوجودية، فإنّه ليس اسمًا من أسماء المقادير، بل اسمٌ من أسماء الغيب، يُتمثّل في مقدار، ويُشير إلى مقام، لا من جهة الظهور، بل من جهة الحجب، فإنّ دلالته لا تقع على ما هو، بل على ما لا يُستطاع إدراكه إلا بوسائط المجاز الأعلى، إذ هو “حدٌّ مانع” لا لشيءٍ معلوم، بل لكلّ تعيّنٍ يُتوهم أنه معلوم. فهو الحاجبُ عن التماثل، والساترُ عن الحصر، والمانعُ من أن يُظنّ أنّ الماهيات المشهودة قد استوفت حقيقتها في الامتداد، إذ هو بمثابة خاتم الغيب، لا يُفضّ إلا بتأويلٍ في مراتب الوجود، لا في مقادير الحسّ. ولئن سُمّي “ثابتًا”، فليس من جهة ثبوت المقدار، ولكن من جهة لزوم الإشارة، فهو الثابت لا في الرياضيات، بل في الميزان الغيبيّ، الذي لا يُقاس بالعدد، بل يُوزن بالتجلي. فهو ـ على التحقيق ـ تجلٍّ لاسمٍ إلهيٍّ من أسماء القدرة، لا يحدّه العقل، بل يُستعلن به قصور العقل، ويُؤذَن به أن وراء ما يُحصى، سرًّا لا يُجلى إلا في مرآة التسبيح.

وإذا انتقلنا إلى الثابت الثاني الأعظم في بنية الوجود المشهود، نعني به سرعة الضوء في الفراغ (c)، وجدنا أنفسنا أمام حدٍّ كونيٍّ آخر، لا يجوز حمله على كونه مجرّد رقم يملأ خانة في معادلات الفيزياء النظرية، بل هو ـ في الحقيقة ـ ضابط النسبة بين الوجود والمعلوم، وسقف الحدوث الممكن، وعتبة الإمكان الفيزيائيّ التي لا يمكن للعالم المخلوق أن يتجاوزها إلا بالتلاشي أو الاستحالة. فهذا الثابت ليس وحدة قياس فحسب، بل مبدأ انتظام للعالم، يُسَوِّي بين جميع المشاهدات الممكنة، ويُحدِّد الحدَّ الأعلى لحركة الموجودات في الكون، بحيث إذا زادت عليها السرعة انفصل الزمن عن المكان، وتحوّلت الكينونة إلى لاكينونة، أي إلى مفارقة مطلقة عن العالم المحسوس. وإذا قُلنا إنّ سرعة الضوء = 299,792,458 متر في الثانية، فإن هذا الرقم، رغم جفافه الحسابيّ، هو نقطة الفيض الكبرى في منظومة الوجود الكونيّ. إذ إنّ به تتحدد النِّسَبُ كلّها، وبه تقوم المعادلات الفيزيائية الكبرى، من معادلة الطاقة الشهيرة لـآينشتاين:

E = mc^2

إلى معادلات النسبية العامة والخاصة، إلى قانون ماكسويل للموجات الكهرومغناطيسية، بل حتى إلى حسابات النسبية الزمنية في الأقمار الاصطناعية وأنظمة تحديد المواقع (GPS)، التي لو تغيّرت فيها سرعة الضوء مقدار شعرة، لاختلّ النظام بأسره. أفليس هذا التقدير المُحكم دليلاً على أن الكون ليس عشوائيًّا، بل مخلوقٌ بميزان؟ بل إنّ c هنا يقوم مقام الحرف التكوينيّ الكونيّ، الذي لو تغيّر أو تحرّف لانهدمت بنية العالم كما نعرفها. وإن تعجبتَ، فاعلم أن سرعة الضوء ليست وحدة منفصلة، بل مرتبطة ارتباطًا ضروريًّا ببنية الزمكان ذاته، إذ كما يقول أينشتاين، لا وجود للمكان دون زمان، ولا للزمان دون مكان، وسرعة الضوء هي نسبة اتحادهما. فإذا قلنا إن سرعة الضوء حدٌّ مطلق، فنحن في الحقيقة نقول: إن الله تعالى جعل لعالم الشهادة حدًّا في الإدراك، فلا يتعدى الممكن إلى المستحيل، ولا يصل الحادث إلى القديم، ولا المخلوق إلى الخالق. فهذا الحدّ عينه هو ما عبّرت عنه الآية بقوله: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾. ومن أبدع ما يتجلّى في (c) أنها مرتبطة بعلاقات رياضية أخرى تُظهر وحدة التقدير، لا فوضوية المصادفة، فمثلًا نجد العلاقة بين ثابت بلانك h وسرعة الضوء c وثابت الجاذبية G في ما يُعرف بوحدات بلانك:

l_P = \sqrt{\frac{hG}{c^3}}

t_P = \sqrt{\frac{hG}{c^5}} ]

حيث lₚ هو طول بلانك، وtₚ هو زمن بلانك، وهما يمثلان أصغر وحدة للقياس في الكون الممكن. هذه العلاقة تكشف أن هذه الثوابت ليست أعدادًا مفككة، بل نسيجٌ واحد محكم، يُشكِّل نظامَ الخليقة الأول. فإذا نظرنا إلى هذه البُنى بلغة القرآن، قلنا: هذه “القدر المقدور” الذي لا ينفكّ عن الخلق المخلوق، فتأمل ﴿خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾، وقارنها بتقدير وحدة الزمان والمكان والطاقة والكتلة التي تجتمع كلها في لحظة واحدة في معادلة بلانك. ثم فوق ذلك، فإن الثابت (c) هو حدُّ السرعة في الكون الممكن، ولكنه ـ عند التأمل ـ حدُّ العجز أيضًا؛ لأنه يبين للإنسان حدوده المعرفية. فلا يمكن لعقلٍ أو آلةٍ أن تنفذ من هذا الحدّ إلا في خيالٍ رياضيٍّ، أو بإرادة الخالق الذي جعل ذلك التقدير. وكأن الله ـ عز وجل ـ وضع أمام العقل بابًا وقال له: إلى هنا ينتهي جهدك، وما وراء ذلك عالم غيبٍ لا يُنال إلا بإذن من عندي. فهذه الحدود ليست قيودًا للوجود، بل ضوابط للخلق، بحيث يكون في العالم الظاهر «إمكانٌ مضبوط»، وفي الغيب «حقيقة مطلقة»، فيكون للخلق «حدٌّ شهوديّ»، وللخالق «كمال غيبيّ».

بل إذا تأمّلت العلاقة بين الطاقة والكتلة والسرعة:

E = mc^2

رأيت أن الطاقة ليست شيئًا منفصلًا عن المادة، بل تجلٍّ آخر لها، وهي ـ من جهة التقدير ـ تعبير آخر عن قولنا: إن الله خلق كل شيء من العدم، وجعل له ظهورًا بالقدرة. لأن المادة هنا يمكن أن تتحول إلى طاقة، والطاقة إلى مادة، ولكن القيمة المطلقة التي تجعل هذه التحولات ممكنة، محفوظة بثابت c. فإذا قلنا: “خلق الله الأشياء من لا شيء”، فإن (c²) هو هذا «النظام الجبريّ» الذي يجعل العدم قابلاً للامتلاء بأمر الله. وهكذا يتّضح أن (c) ليس مجرّد سرعة، بل هو «حدّ الإمكان الفيزيائيّ»، الذي يُفصح عن معنى القدرة في الخلق والتقدير. ولا عجب أن يُقال في الحكمة القديمة: إن كل شيء له حدٌّ عند الله، وإنّ وراء الحدّ حقيقته التي لا تدرك إلا بالوهب، لا بالكسب. ثم إنّ 𝑐 = 299,792,458 m/s ليس مجرد سرعة، بل هو النسبة المطلقة بين الامتداد (المكان) والانقضاء (الزمان)، فلا يُتَصوَّر فيزيائيًّا حدوث زمان بلا مكان، ولا مكان بلا زمان، فكلاهما مجبول على الآخر، متحدان في صورة واحدة يُسَمِّيها الفيزيائيّ “الزمكان”، ويسمّيها المتكلم “المقدور” أو “الخلق الجاري”. لكنّ العجيب أن هذه القيمة ليست اعتباطية، بل مستخرجة من نظام رياضيّ متكامل، تدخل فيه عدة ثوابت أخرى، منها السماحية الكهربائية للفراغ (ε₀)، والنفاذية المغناطيسية للفراغ (μ₀)، ويظهر هذا في العلاقة الرياضية:

c = \frac{1}{\sqrt{\mu_0 \varepsilon_0}}

وهنا تظهر أولى إشارات التقدير: أن الضوء، الذي هو أساس الرؤية والإدراك في العالم، ليس مستقلًا في وجوده، بل هو متولد من بنية أعماق الفراغ نفسه! فالفراغ الذي نحسبه خواءً، إنما هو في ذاته مملوء بالقوى الكهرومغناطيسية، وكل شعاع ضوء ما هو إلا تموّج في هذا النسيج الخفيّ. ومن العجيب أيضًا أن هذا الفراغ ليس “لا شيء”، بل هو بحر من الإمكانات الفيزيائية المكبوتة، يسمّيه الفيزيائيّون اليوم: طاقة الفراغ أو طاقة النقطة الصفرية (Zero-point energy). وهذا بالضبط يوافق قول المتكلمين: إن العدم ليس عدمًا صرفًا في ذاته، بل هو قابلٌ للوجود بأمر الله، وما الامتناع إلا لعدم الإرادة. فإذا شاء الله خرج الكامن إلى الظهور، وإذا شاء طواه في غيب الإمكان. والأبدع من هذا كله، أن هذه السرعة (𝑐) تدخل في العلاقة بين الطاقة والمادة، كما تعلم:

E = mc^2

وهذا يعني أن أيّ مادة تحمل في ذاتها طاقة خالصة، مقدارها مساوٍ لكتلتها مضروبة في مربع سرعة الضوء. والمادة هنا ليست إلا صورة مجسّدة لطاقة متجلية، أي: أن الكون كله في أصله “فيض طاقة”، اتخذ صورًا متعددة بتقدير خفيّ. هذا عين ما يقول به المتكلمون: إن الموجودات أعراض تقوم بجواهر، والجواهر ممكنة الوجود بذاتها، ولا تقوم إلا بإقامة الله لها في كل لحظة. ثمّ تأمل ما يلي من معاني التقدير: لو كانت سرعة الضوء أكبر مما هي عليه، لصار انتقال المعلومات أسرع، وانهار نظام السببية، بحيث تقع النتيجة قبل السبب! وهذا يؤدي إلى تداخل الأزمنة وتحوّل الكون إلى فوضى مطلقة. ولو كانت أقلّ مما هي عليه، لتباطأت العمليات الحيوية، ولاحتاج انتقال الضوء من الشمس إلى الأرض إلى آلاف السنين، ولكانت الحياة مستحيلة. فهنا يظهر تقدير الله العظيم: لا إفراط ولا تفريط، بل حدٌّ موزونٌ يعجز العقل عن اختراع مثله..وقد كشف الفيزيائيّون أن هذه الثوابت الكونية الدقيقة تُسمّى بـ “الثوابت المضبوطة بدقة Fine-tuned Constants”، وهي الحجة الفيزيائية الأقوى اليوم ضد الإلحاد. حتى ستيفن هوكينغ نفسه أقرّ بقوله: “أن الكون لو كان مختلفًا قليلاً جدًا في هذه القيم، لما وجدنا أنفسنا هنا لنسأل لماذا هو كذلك.” وهذه شهادة على أن النظام الموجود في الكون ليس نتيجة صدفة، بل أثر حكمة متعالية سابقة عليه.

وتأمّل فوق ذلك أن سرعة الضوء تدخل في الثوابت الأساسية في وحدات بلانك، ومنها:

l_P = \sqrt{\frac{hG}{c^3}}

t_P = \sqrt{\frac{hG}{c^5}} ]

m_P = \sqrt{\frac{hc}{G}}

حيث:

= طول بلانك = أصغر طول ممكن في الكون.

= زمن بلانك = أصغر مدة زمنية ممكنة.

= كتلة بلانك = مقياس أولي لكتلة الأجسام الفائقة الصغر.

وهذا يدلّ على أن البنية الكونية كلها مرهونة بثلاثية مقدّرة: الثابت الكمومي (h)، سرعة الضوء (c)، وثابت الجاذبية (G). فكل شيء في الكون يجري على هذه المقادير الثلاثة، وكأنما هي “مفاتيح الفتح الإلهي للوجود”. ألا ترى أن القرآن عبّر عن هذا بقوله:.﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر: 49) و ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ (الأعلى: 2-3). ثمّ زد على ذلك أن (𝑐) تدخل حتى في الحدود الرياضية للزمان والمكان. فمنها اشتُقَّت معادلات الأفق الكونيّ، ومنها حدّدت مفاهيم مثل:

أفق الحدث للثقوب السوداء (Event Horizon):

r_s = \frac{2GM}{c^2}

علاقة الزمن النسبيّ في السرعات القريبة من (𝑐). وأي تغيّر في قيمة (𝑐) يعني انهيار هذه البُنى. وهذا يُظهر أن الكون مخلوق بمفاتيح دقيقة وبأمر مباشر، لا باضطراب الصدف. وهكذا يظهر للعارف أن سرعة الضوء ليست رقمًا فحسب، بل هي «تقديرُ القدرة في الخلق». وقد أحسن من قال من المتكلمين: إن في كل موجود نسبةَ تعلّقٍ إلى الخالق، لا يستقلُّ عنها بحال. و**(𝑐)** هي نسبة التعلّق الكبرى بين الوجود الممكن وبين القدرة الواهبة للوجود. ثم إنّ ما يظهر للناس من هذه الثوابت الرياضية، ليس هو بالحقيقة نهاية الكشف، ولا ذروة الإدراك، بل هو أوّل الباب لا آخره، ومبدأ الطريق لا منتهاه؛ لأنّ العقل إذا نظر في الموجودات نظـرًا تحقيقيًّا، تبيّن له أن هذه المقادير الثابتة ليست بأعراضٍ حادثةٍ عن أنفسها، ولا بمقادير متروكة لقدَرِ الطبيعة يُقدّرها كيف شاءت، بل هي مقدّرات معلومة في علم الله، منظومة بنظام محكم سابق على الحوادث، منطوٍ في الكتاب الأول الذي هو أمّ الكتاب. ومن أعجب هذه المقادير، شحنة الإلكترون المعبَّر عنها بالرمز (e)، وقد حُصر قدرها بالاصطلاح الرياضيّ:

e = 1.602176634 \times 10^{-19} \ C

وهذا القدر ـ وإن كان ظاهرُه عدديًّا عشريًّا ـ فباطنُه سرٌّ من أسرار التقدير، ووجهٌ من وجوه الحكمة الإلهية في إظهار الفعل الخَلقيّ. وبيان ذلك: أن هذه الشحنة تدخل أصلًا في كل تفاعل كهربائيّ في الكون، وهي عنصرٌ لا يقوم الكونُ على غيره في باب التفاعلات الكهرومغناطيسية. فليس يظنّنّ ظانٌّ أن هذا التقدير وقع صدفة، أو كان فلتةً من فلتات المقادير المادية، بل هو تقديرٌ مَقصود، مقصودٌ بعلمٍ، مقدّرٌ بحكمةٍ، ملحوظٌ فيه تحقيق مراد الخالق من وجود الموجودات على ما هي عليه. ثم إن هذه الشحنة تدخل في معادلات القوى الكهربائية:

F = \frac{1}{4\pi\varepsilon_0} \frac{e^2}{r^2}

وها هنا ننبّه تنبيهًا كلاميًّا، أن القوة هنا ليست علة تامة بذاتها على التحقيق، بل هي مقدور حادث، يحدثه الله عند اقتران الموجب بالسالب، وهو على التحقيق ليس لازمًا بالذات، بل هو جعلٌ إلهيّ. وإنما ظاهر للنظر أن العِلّة في الصورة: الشحنتان والمسافة، والحقيقة في الباطن: أن الله أحدث القوة عند اقترانهما. فليُعلم أن كل حادث إنما يقع بقدرة الله وحده، وعادته في خلقه أن يجريه على الأسباب المعهودة. فالقوة الكهربية إذًا ليست مستقلة، بل مربوطة بعلمٍ وقدرةٍ، معلولةٌ بإحداث الله لا بذاتها. وهو معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾. فإذا نظر الناظر في التناسب بين شحنة الإلكترون وشحنة البروتون، وجدَ الأمر أعجب؛ إذ السالب موجبٌ بمقدار الموجب، على تمام التساوي عدديًّا، مع اختلاف الجهة بالإشارة. وهذا مما لا سبيل فيه للطبيعة إلى تعليله؛ إذ لو كان التقدير خبطًا أو عشوائيًّا لما وُجد هذا التساوي، بل كان يُنتظر أن تختلف المقدارات، فتختلّ البنية الكونية. فهنا يتحقق معنى: ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ و ﴿لِكَيْلُوا بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾. فدلّ ذلك على أن الميزان في الوجود أصلٌ من أصول الخلق، كما هو أصل في المعاملات والمكاييل. وأما إذا تأملتَ في صورة وجود الإلكترون نفسه في معادلات الفيزياء، وجدته لا يظهر ظهور الأعيان، بل يظهر ظهور الاحتمال الرياضي، كما في معادلة شرودنغر:

\left(-\frac{\hbar^2}{2m_e} \nabla^2 – \frac{e^2}{4\pi\varepsilon_0 r} \right)\Psi = E\Psi

فتبيّن أن وجود الإلكترون ليس تحققًا ماديًّا كتحقق الحجر أو الخشب، بل هو احتمال مقدّر، قائم بالنظام الذي أنشأه الله تعالى. وهو بعينه ما يقوله المتكلّمون في جوهر الفرد؛ إذ قالوا: إن الجوهر الفرد لا يدرك بالحسّ، بل يدرك بنظر العقل، ولا يقوم بذاته إلا في ضمن تركيب، ولا يعرفه الحس إلا بأعراضه. وهذا المعنى هو سرّ الجمع بين ظاهر الحس وباطن العقل، وهو الذي يسميه القرآن: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾. وأما ما يسمّى بالثابت البنيوي الدقيق (α)، فهو حقيقةٌ عجيبة تدلّ دلالةً قاطعةً على كون الخلق مقدّرًا بتقديرٍ سابقٍ على المادة. فإن:

\alpha = \frac{e^2}{4\pi\varepsilon_0 \hbar c}

\alpha \approx \frac{1}{137} ]

وهذا العدد ١٣٧ ـ على ما فيه من غرابة الاتفاق ـ لم يُعرف له تفسير في علوم المادة كلها. وهو عند أهل النظر سرٌّ مكنون، لا يعرف تأويله إلا بالتسليم بأن وراء الظاهر قوةً قادرة، وعلمًا محيطًا، وحكمةً لا نهاية لها. وهو معنى قوله سبحانه: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ و ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ﴾. فـ(α) هو مفتاح توازن الكون، و(𝑒) هو مقدار التفاعل، وكلاهما نزولٌ من خزائن الغيب إلى عالم الشهادة، ليُقام به وجود الأشياء. فإذا تأملتَ هذه الأسرار كلها، علمت أن شحنة الإلكترون ليست رقمًا فحسب، بل هي باب من أبواب التقدير الربانيّ، وآية من آيات القدرة، وأن العلوم الفيزيائية ـ على كمالها في حدودها ـ ليست إلا كشفًا جزئيًّا لما سبق في العلم الأزليّ من التقدير المحكم.

إنَّ هذهِ المقالةَ، التي تناولتْ بعضَ الثَّوابتِ الكُبرى في بُنيةِ العالَمِ، من ثابتِ بلانك {h}، وسُرعةِ الضَّوءِ في الفراغ {c}، إلى شُحنةِ الإلكترون {e}، قد بيَّنت لنا — بما لا يدَعُ لِذِي لُبٍّ رَيبًا — أنَّ هذهِ الثَّوابتَ ليست مقاديرَ عشوائيَّةً، ولا نِتاجَ صُدفةٍ عمياءَ، بل هي علاماتٌ باهِرةٌ على إِحكامِ التَّقديرِ الإلهيِّ، وبراهينُ صارخةٌ على حِكمةِ الخَلقِ الَّتي تَفُوقُ مَداركَ العُقُولِ. ولو نظَرَ النَّاظرُ بعينِ البَصيرةِ — لا بعينِ الحسِّ المَحبوسِ في ضِيقِ المادَّةِ — لأدركَ أنَّ وراءَ كلِّ قيمةٍ مِن هذهِ القِيَمِ تقديرًا سابقًا في علمِ اللهِ، وحِكمةً متناهيةً، لا يَحِيطُ بها عِلمُ عالِمٍ ولا ظنُّ مُتوهِّمٍ، بل هي مِن عَجائبِ التَّقديرِ، الَّذي بَنَى اللهُ عليهِ نظامَ الوجودِ، ونسجَ منهُ خَيطَ السَّماءِ والأرضِ. فإذا كانَ ثابتُ بلانك {h} عَتبةَ التَّفرُّقِ بينَ ما يُدرَكُ بالحسِّ وما لا يُدرَكُ إلَّا بالرَّمزِ، وكانت سرعةُ الضَّوءِ {c} مِقياسَ الفَصلِ بينَ الإمكانِ والامتِناعِ في بُنيةِ الزَّمانِ والمكانِ، فإنَّ شُحنةَ الإلكترون {e} هي التَّعيينُ الدَّقيقُ لِميزانِ الخَلقِ، والضَّبطِ الرَّبَّانيِّ لِكُتَلِ العالَمِ وقُواهُ. كلُّ ذلكَ يُشيرُ إلى قَولِهِ تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، ويُظهرُ أنَّ الخَلقَ ليسَ مُجرَّدَ كَونٍ يُدرَكُ بالحِسِّ، بل تقديرًا إلهيًّا يُستكشفُ بالبَصيرةِ ويُعبَّرُ عنه بالرُّموزِ الرِّياضيَّةِ. فالعِلمُ إذًا مُرتَقًى إلى مَعارفِ القُدرةِ، والرِّياضياتُ مِفتاحٌ إلى فُهومِ الحكمةِ، والفيزياءُ بابٌ يُوصِلُ إلى حُرمةِ التَّوحيدِ، إذ لا خَلقَ إلَّا بخالِقٍ، ولا تَقديرَ إلَّا بمُقدِّرٍ، ولا نظامَ إلَّا عن عِلمٍ سَبقَ بهِ القضاءُ.

فالحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، حمدًا يُوافِقُ ميزانَ خَلقِهِ، ويُلائِمُ كَمالَ قُدرَتِهِ، ويَبلُغُ مَبلغَ إرادَتِهِ، وصلى اللهُ على سيدِنا محمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.