مقاربات في العنف المدرسي

دينبريس
دراسات وبحوث
دينبريس28 مارس 2024Last Update : الخميس 28 مارس 2024 - 12:12 مساءً
مقاربات في العنف المدرسي

الدكتور الحسن الزروالي ـ أستاذ مادة الفلسفة بمديرية العرائش
الناظر لجوهر العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، أو بين الإنسان والطبيعة من جهة ثانية، يدرك، لا محالة، أن تحولات جرت جعلت الإنسان يعيش في دوامة من العنف لا تنتهي. يجد نفسه، شاء أم أبى، راغبا فيها، منخرطا في فصولها، عن طواعية أو عن إكراه، عن وعي أو من دونه. عنف يؤكد أن الحياة في الأصل صراع؛ صراع بين من يملك ومن لا يملك، بين من يَحكم ومن يُحكم، بين القوي والضعيف، بين الصغير والكبير…لأن العنف تصميم وحرص على الإضرار بالغير وإلحاق الأذى به. في البيت، في الشارع، في المدرسة، في كل مكان…بل إن العنف لم يعد يقتصر على المظاهر التقليدية المعتادة، بل صارت له قنوات وأدوات ووسائل متنوعة. حتى صرنا، مع الزمن الرقمي، أقرب إلى التعايش مع العنف بمختلف أشكاله، كأن نرى حالة للعنف من الفروع ضد الأصول، أو من التلميذ ضد الأستاذ، او من الأخ ضد أخيه…تطور أوجه العنف ومظاهره ينذر بمستقبل مظلم يهدد المجتمع، ويرهن استقراره ومستقبله.

واقع، بهذه القتامة والسوداوية، يجعلنا نطرح باختصار جملة من الإشكالات، نصوغها كما يلي:

هل العنف، بشكل عام، سلوك فطري في الإنسان، وأصيل فيه، أم مكتسب، ناتج عن تأثيرات وضغوط خارجية تدفعه نحو ممارسة العنف على الآخرين؟
ولماذا نقتصر في الغالب على العنف المادي دون الحديث عن مستويات أخرى من العنف، في مقدمتها العنف الثقافي، العنف الرمزي، العنف الديني، العنف الإعلامي الذي يمارس علينا سواء وعيناه أم لم نعه؟
أي موقع للعنف المدرسي ضمن أنواع العنف الأخرى الأكثر انتشارا في المجتمع؟
أليس العنف المدرسي هو النواة الأولى، أو هو الجِرمُ المُولِّد والمسؤول عن باقي أنواع العنف الأخرى؟ وإذا كان ذلك كذلك، أليس العنف السياسي الذي منشأه السياسات التعليمية الخاطئة هو منشأ العنف بمختلف أنواعه، ومَحْضِنُهُ الرئيس؟

يقول سيغموند فرويد في كتابه قلق الحضارة:”ليس الإنسان بذلك الكائن الطيب السمح، ذي القلب الظمآن إلى الحب، الذي يزعم الزاعمون أنه لا يدافع عن نفسه إلا إذا هوجِم، وإنما هو على العكس من ذلك كائن تنطوي مكوناته الغريزية على قدر كبير من العدوانية…الإنسان ميَّال إلى تلبية حاجاته العدوانية على حساب الآخر، وإلى استغلال عمله دون تعويض، واستغلاله جنسيا دون مشيئته، وإلى وضع اليد على أملاكه، وإذلاله وإنزال الألم به واضطهاده وقتله…إن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”.

وَعْيُ الإنسان بنزوعه نحو العنف جعله يبتكر من الأدوات ما يساعده على تجاوز نزوعاته الحيوانية، وابتداعه من الوسائل التي تعينه على الانتقال إلى المدنية بنبذ العنف، وتثمين إنسانية الإنسان. من جملة هذه الأدوات، تتسنَّمُ المدرسة قمة هذه المؤسسات التي اتخذتها الدولة الحديثة كآليات لتمدين الإنسان، وقتل نزوعات العنف التي تتملكه؛ وذلك بغرض تنشئة أجيال جديدة من المواطنين على الصلاح والحوار والتزام الأخلاق الحميدة والتشبع بثقافة الواجب والتفاني في الدفاع عنه. فهل مدرستنا مهيأة لربح مثل هذه الرهانات؟

الجواب هو النفي طبعا….مع بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة.

فلا زالت هناك عوائق كثيرة، وتحديات جمة، وجب تذليلها أو القضاء عليها لتجاوز معضلة العنف المدرسي. ولا يمكن التخفيف منه، أو القضاء عليه بشكل جذري من وجهة نظري، إلا بالقضاء على مثل الإشكاليات البنيوية العويصة، وابتداع سياسات وبرامج تعليمية يغلب عليها إشاعة قيم الإنصات، والحوار، وثقافة التسامح، والمودة، والمعاملة الطيبة، أو ما يمكن تسميته بإشاعة الحس العائلي داخل المؤسسات التعليمية.

إن التلميذ الذي يلج المدرسة وهو مقتنع بأن ما ينتظره هناك سيوفر له الرعاية والحماية والمتعة، ويساعده على التفتح، وإثبات الذات، وتفجير طاقاته وقدراته بمختلف أنواعها…لا يمكن إلا أن يحب هذا الفضاء، ويحس بفخر الانتماء إليه، ويحرص على نظافته فضاءاته، ويحمي مرافقه من العبث والتخريب…رهانات كهذه لا يمكن بلوغها إلا بالعمل على استعادة المدرسة لدورها التربوي عوض إغراقها في وظائف التلقين والشحن المعرفي المفتقد لكل روح اجتماعية، والمجرد من كل حس إنساني. إن محاصرة المؤسسات التعليمية بكثرة المتدخلين، ومحاصرة الفاعل التربوي بمهام فضفاضة تتجاوز قدراته وإمكانياته، لا يمكنها إلا أن تحد من فعاليته، وتجعله موظفا تقنيا، يشتغل دون روح ولا إبداع، شبيه بآلة صماء، وهو عمل –كما هو معلوم- لا يتوافق مع المهمة النبيلة المنوطة برجل التربية والتعليم.

إن محاصرة التلميذ بواجبات ومطالب تتعدى إمكانياته وقدراته الذهنية والمادية والعائلية، لا شك، سيحد من فعاليته وانخراطه ومواظبته. كأن نطلب من التلميذ أن يحضر للدراسة في الثامنة والنصف صباحا وهو يلزمه ساعتان أو ثلاث حتى ينتقل من البيت إلى المدرسة. ناهيك عن الساعة المضافة التي تزيد من معاناة فئات واسعة من تلاميذ العالم القروي الذين يتنقلون باستمرار لمتابعة الدراسة بالمدن. أو أن نطالب التلميذ بالحضور في الصباح والمساء دون أن نهيء له فضاءات ملائمة للاستقبال والتغذية والمطالعة…اختلالات مثل هذه تحتاج إلى تدخلات عاجلة لمعالجتها. صعوبات مثل هذه أحسبها مسؤولة عن العديد من حالات الانقطاع عن الدراسة خاصة بالنسبة للفتيات المنحدرات من العالم القروي.

إن التلميذ الذي يقضي يوميا ساعتين بين الفترة الصباحية والفترة المسائية من اليوم الدراسي في الشارع، دون حماية ولا احتضان، لا يمكن إلا أن يكون مهيأ لارتكاب فعل عنيف تجاه غيره، أو عرضة للتعنيف والتنمر من الآخرين. عنف يمكن أن ينتقل إلى داخل المؤسسات بعد تعود التلاميذ على أجواء غير سوية، واكتسابهم لسلوكات وممارسات شبيهة بأطفال الشوارع…

فما الحل إذن لمحاصرة مثل هذه الظواهر الشاذة، التي لا تخطئها العين، وتعيشها جنبات أغلب المؤسسات التعليمية، وبشكل مستمر؟

إجراءات كثيرة، في نظري، يمكنها التخفيف من حدة هذه السلوكات اللامدنية، والتخفيف من تأثيرها على جنوح التلاميذ نحو العنف. يمكن اقتراح بعضها كما يلي:

أولا: إشاعة ثقافة الحرية المسؤولة داخل المؤسسات التعليمية:
يقول عبد الكريم غريب في كتابه سيكولوجيا الكمال: “بينت الدراسات السيكولوجية الحديثة أن الإنسان يولد وهو مزود بغريزة جوهرية وأساسية متمثلة في إثبات الذات، والإحساس بالتقدير والاحترام والتفوق(… )العقاب اللفظي او الجسدي للمتعلم هما تصرفان شاذان يسيران في الاتجاه المعاكس لهذه الغريزة. الأمر الذي تتولد عنهما عدة سلوكات شاذة، دفاعية من طرف المتعلم، تختلف باختلاف شخصيته ومحيطه. الأمر الذي يقود إلى سلوك نمط من التربية الفاشلة. فإذا كان الأمر على هذا الحال، فالأفضل أن لا يذهب الطفل إلى المدرسة، ويبقى أميا عوض أن يتحول داخلها إلى شخص مضطرب وغير متوازن”.

ملخص ما يدعو إليه عبد الكريم غريب هو تمكين التلميذ من هوامش كافية من الحرية، لكنها حرية مسؤولة، تهيئه لإثبات ذاته، والاعتماد على نفسه، دون أن يحس دوما أنه تحت رحمة سلطة أو رقابة تترصد جميع تصرفاته دون رحمة. باختصار يجب ان يُعَوَّدَ التلميذ على الاحترام عوض الخوف، وعلى تحمل المسؤولية عوض التقليل منه، ووضعه تحت الوصاية المتواصلة، التي تجعله يرفض، ويتمرد، ويجنح نحو العنف.

ثانيا: الوفاء لقيمة التواصل والحوار:
ذالعلاقة بين الحوار والعنف علاقة شيء بنقيضه، فحيثما وُجِدَ أحدهما انتفى الآخر وغاب. إلى درجة أننا نستطيع القول أن العنف ما هو إلا مظهر من مظاهر استنفاذ القدرة على مواصلة الحوار. الإنسان مجبول على استشعار الحاجات قبل تحققها فعليا. ومن شأن استعجاله لبلوغ ما يريد أن يستثير لديه الحاجة إلى استباق الأحداث، وبالتالي يحصل له التوتر الذي لا يزول، ولا يتحول إلى استقرار وسكينة إلا ببلوغ الحاجة، وتجاوز مرحلة الرغبة المسبقة في بلوغها وتحقيقها.

من أهم شروط الحوار أن يتغيى المتحاوران إقناع بعضهما البعض بالدليل والحجة، والحرص على تجاوز الخلاف ورأب الصدع بلغة العقل، بعيدا عن التشنج، والاندفاع، والتشبث المسبق بالرأي حتى وإن كان مُجانِبا للحقيقة. خاصة في الفضاء المدرسي، حيث المتعلمين ذوي نفسيات هشة تحتاج نوعا من الرفق، وطول النفس في التوضيح والإقناع والبيان…إن من شأن حسن الاستماع إلى التلميذ، والاقتراب منه، وتفهم مشاكله، وأخذ مراحله العمرية بعين الاعتبار، أن يقوي لديه الرغبة في الاندماج الحقيقي في الجو المدرسي، والانخراط الجدي في أنشطة الحياة المدرسية، واتخاذ المواقف المناسبة تجاه زملائه، وتجاه باقي المتدخلين من الطاقمين الإداري والتربوي.

ثالثا: تطهير المؤسسات الدراسية من الغرباء ومن الفئات التي لا تستحق التواجد بفضاءاتها:
لم يعد خافيا على كل متابع لأجواء مؤسساتنا التعليمية ما تعرفه من وجود غرباء يساهمون، في أغلب الحالات، في تعميق مشاكل المؤسسات الدراسية عوض المساهمة في حلها. في مقدمة هؤلاء فئة حراس الأمن. هذه الفئة من المشتغلين بالفضاء المدرسي الغرض من التعاقد معها هو استتباب الأمن، والمحافظة على السير الطبيعي والعادي لهذا المرفق العمومي. لكن يحق لنا أن نتساءل حول أهليتها للقيام بمثل هذه المهام الخاصة؟ هل يمكن لشخص متقاعد من وظيفة أخرى، وقد وصل من العمر أرذله، أن يتعامل مع متمدرسين في أوج عنفوانهم، وفي قمة اندفاعهم وتهورهم، وعدم إدراكهم للعواقب؟

إن إقحام مثل هؤلاء للقيام بمهام خاصة، ودون تكوين ملائم، من شأنه أن يعرض التلاميذ لمشاكل لا تعد ولا تحصى…لا زلت أتذكر حادثة أحد حراس الأمن وهو يحمل في يده سكينا يريد أن يضرب به أحد التلاميذ الذي كان في خصومة مع أحد زملائه…فكيف لحارس أمن بهذه العقلية أن يحمي التلاميذ، ويوجههم توجيها حسنا، وينصت إليهم وإلى معاناتهم؟

رابعا: فتح المجال أمام أهل العلم والفكر الحقيقيين لإصلاح المدرسة العمومية:
يقول إريك فايل :” على الفكر أن يسارع الزمن من أجل القضاء على العنف، وإلا تحول هو الآخر إلى خطاب يزكي العنف ويشجع عليه”. التخفيف من حدة العنف بشكل عام، والمدرسي بشكل خاص، لا يتوقف على رؤية السياسي المهووس بالإكراهات الاقتصادية، والتوازنات المالية، والإملاءات الداخلية والخارجية، بل لابد من إعطاء رجل الفكر والعلم فرصته الكاملة في حث الناس على التحلي بقيم التسامح، والعفو، والرغبة الحقيقية في الاندماج، والاحترام المتبادل، والحرص على امتلاك الإرادة الحقيقية في العيش جنبا إلى جنب مع الآخرين.

خاتمة:
لا أزعم أنني قد قاربت في هذه الورقات ظاهرة العنف المدرسي من جميع جوانبها، خاصة وأنها ظاهرة على قدر كبير من التركيب والتعقيد. لكن، ما يمكن قوله، وبكثبر من الثقة، أنه لا حل في نظري لمعضلة العنف، بمختلف صوره ومظاهره، المدرسي وغيره، دون العودة إلى الأخلاق والقيم، واضطلاع كل المتدخلين بمهامهم على الوجه المطلوب. كما لا يجب إغفال دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وباقي المؤسسات الوسيطة، من أسرة ومسجد وإعلام ومجتمع مدني…وتضافر جهود الجميع في الحرص على بناء جيل المستقبل بناء سليما.

Short Link

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.