19 مايو 2025 / 18:15

مفارقات النفس البشرية!

كثير من النّاس يعيشون على الأوهام ويصدقونها، إلى درجة أنهم يفقدون التمييز بين الواقع والخيال. يعتقد من عاشر رجال السلطة أنّه قد أصبح منهم، ويعتقد من تردّد على ردهات المحاكم أنه أصبح سلطة قضائية، ويعتقد من ألقى كلمة أمام الجمهور أنه قد أصبح عالما ويعتقد من وقّع على محضر الانخراط في حزب أو جمعية أنه قد أصبح مناضلا وزعيما جمعويا.
وكلما اجتمعت الأوهام في ذهن رجل واحد اختلط عليه الأمر وفقد الشُّعور بالواقع وتوهم المرءُ أنه فوق القانون وفوق الدروس التي يقدمها. قد يحاضر المرء في موضوع علم الإجرام وقد يتكلم عن لومبروزو. و يتكلم آنذاك عن شخصية علمية تفحص خصائص مجرم ينتمي إلى عالم آخر لا يتخيل يوما ما أنه سيدخله. يستحيل العلم إلى رواية وتتحول المعرفة إلى سرد تقنيات البحث والتحقيق. يتحدث عن أماكن التحقيق كما لو كانت متحفا أو قاعة مسرح يزورها ويروي بعد ذلك قصة المجرمين كما لو كان يقرأ رواية من عالم آخر. وهو لا يتخيل يومًا أنه سيكون أحد شخصياتها.

كثير من الناس يتخيلون أنهم أصبحوا أكبر من الجامعة وأكبر من الدروس التي يلقونها وحتى من القيم التي يردّونها. ينشرون معرفة لا يعرفون أصولها ويردّدون أناشيد قيم لا يؤمنون بها. يعتقدون أن دورهم هو أن ينقلوا المعرفة، وهم ليسوا ملزمين بالإيمان بها؛ يعتقدون أنهم ملزمون بإخبار الطلبة بالمعايير الأكاديمية المعتمدة وبالميثاق الأخلاقي الذي يجمع أعضاء الجماعة العلمية، دون أن يشعروا بحاجة إلى الالتزام بها. ينحصر دورهم في تقديم خدمة موجهة إلى المستفيدين منها، وليسوا مضطرين إلى أن يشتركوا مع أعضاء الجماعة في القيم نفسها. لا نشترط في الواعظ الذي يقدم دروسا في النزاهة أن يكون نزيهًا، إذا ما استطاع إقناع الغالبية الساحقة بهذه القيمة العليا؛ فإذا ما استطاع الواعظ أن يحقق غاية إقناع غالبية الناس بهذه القيمة، لا ضير بعد ذلك في أن يستثني نفسه من هذه القاعدة. ما دامت الأغلبية قد امتثلت لهذه القيمة، لا ضرر في أن يصبح الواعظ استثناء يؤكد القاعدة.
قد نجد خطيبا يدعو المؤمنين إلى التصدق بما لديهم، دون أن يخرج مثقال حبة في سبيل الله؛ ولا يجد الخطيب ضيرًا في ذلك، ما دام كلامُه موجها إلى العموم وليس موجَّهًا إليه شخصيًّا. فهو مأجور على تقديم النصيحة للمسلمين، ولو أنه لا يكترث بها أو يعتقد أنها لا تعنيه في المقام الأول. هذا المشكل أقل ضررًا وسوءا من مشكل من ينتهك القيم التي ينقلها إلى الأجيال.

هذه أمثلة تبرز مفارقات النفس البشرية، حينما يدفعها علمها إلى إتيان نقيض مقاصدها وحين تؤدي بها سلطتها المتوهمة إلى فقدان البصر والبصيرة. هي مشكلة النفس البشرية، مشكلة تخدير وهمي بسلطة كاذبة، هي مشكلة فقدان البصيرة؛ لا هي مشكلة مؤسسة ولا جماعة علمية ولاهي مشكلة العلماء ولا مجال بحث؛ هي مشكلة أتمنى ان تظل استثناء على الدوام. هي مشكلة علم الإجرام الذي لا يزال يميط اللثام عن أسرار النفس البشرية؛ وهي مشكلة فلسفة الذهن التي تتعامل بواقعية وجدّية مع مفارقات النفس البشرية.
عزالعرب لحكيم بناني

رابط صفحة الكاتب على فيسبوك

https://www.facebook.com/share/19mUwmcGs8/